– بقلم : عهد فاضل
تلفزيون الواقع يقبض على النخبة
كثيراً ماوقف النقاد والمهتمون أمام ظاهرة العنف اللفظي والجسدي والمعنوي، التي بدأت ملامحها بالظهور في الآونة الأخيرة على بعض شاشات الفضائيات العربية، من حين إلى آخر. وكان النقد ينصب على الطريقة التي يعبر فيها البعض عن رأية، والتي وصلت في بعض أشكالها الى استخدام العنف الجسدي المباشر. فقد نقلت الشاشات العربية هذا الواقع، كما هو، وبكل مايختزنه من تشوّهات سلوكية أو تعبيرية. وإن كانت إدانة العنف تسبق أي حوار في المسألة، فإن أزمة ما تتغلل في ثنايا تلك المشاهد، لاتعكس قلق أفرادها، وحسب، بل تعكس سقوط نظرية معرفة عمل عليها رواد ومثقفون منذ منتصف القرن الماضي.
توفيق عكاشة.. توك شو بلا حدود
تمثلت أزمة خطاب الحداثة العربية بانتقائيته التي أُديرت كيف أراد لها صاحبها. فالماركسي رأى التاريخ الإسلامي ماركسياً.. والحداثي رآه صوفياً، واللغوي رآه منتج لغة. وهكذا. حتى ضاق هذا التاريخ بحامليه فرمى بوجه كل الانتقائيين مَكْرَه الهيغيلي، ولم يكن أمامهم من فكرة خلاّقة سوى التناقض الفلسفي للهروب من هذا التحدي، فرفضوا ما بالأصل قد أسسوا له، وحارت بهم السبل لفهم قلق الهوية الحالي المتمثل بـ “الربيع العربي”، فنقضوا عهدَ الاحتكام الى التاريخ بصفته مانحاً للهوية، وانقلبوا عليه كمرجعية ضمنية للذات، وتحولت نظرية المعرفة الى نشاط من داخل اللغة، لا أكثر ولا أقل.
من التاريخ الى التناقض
وإن كان الشاعر والمنظر الحداثي أدونيس، هو الظاهرة الأبرز من بين كل أبناء جيله من حيث اعتماد التاريخ مرجعية لانهائية لجدله النقدي، فإنه هو الآن النموذج الأبرز للتناقض الفلسفي المشار إليه، حيث لجأ الى نفي التاريخ ذاته من خلال “النسخة المنقحة” التي يطرحها لمرجعيته سالفة الذكر. الأمر الذي حدا به الآن إلى طلب “العلمانية” للربيع العربي، كون الأخير إسلاميا صرفاً، كما عبر مرات ومرات في الآونة الأخيرة. وتناقض أدونيس الفلسفي يتمثل بحركته العكسية من التاريخ وإليه، حيث اعتمد في نظرته الى الحداثة على القلق مابين ثابت ومتحول استمدا مظهرهما من التاريخ الإسلامي بحَرْفيته. والآن يرفض وصول الإسلاميين لإسلاميتهم، وحسب، مناقضاً مرجعيته الظاهراتية التي اعتمدت التاريخ الإسلامي نفسه. وطبعاً، للهروب من هذا التناقض ستكون الفكرة الخلاقة هي التنقيح وتقديم صورة للمرجعية متلائمة مع نفسها كما يراها المصْدر. أما ظاهرة التاريخ نفسها، فقد كانت هي الأخرى، والحالة تلك، مأزومة على مقاس حاملها.
تلفزيون الواقع يقبض على النخبة
من جرأة في مناقشة موضوعات ممنوعة أو شبه ممنوعة، إلى فوضى وعنف استديوهات برامج التوك شو العربية. فمن جهة تحولت الجرأة في طرح الموضوعات الى بند وحيد هو الجنس، حتى صار نمطيا مملا. ومن جهة أخرى تحولت استديوهات برامج الحوار العربية الى ميادين فعلية للقتال والضرب والطعان، إلى سب وقذف وشتم، في بث مباشر ذُهل أمامه المشاهدون.
إلا ان للبعض رأيا وهو أن الأفضل أن تظهر النخبة على حقيقتها، وبظهورها ذاك يتم تظهير الواقع بكل عيوبه. ورأي آخر مفاده أن مايجري لا يعبر إلا عن قلة محدودة انفلتت من عقالها بسبب الصراعات السياسية وقوة الفرز الحاصلة بين الأطراف. ورأي آخر يتمثل بأن غياب القوانين الاعلامية واختفاء المحددات التي تفرق بين حرية التعبير وحرية التدمير، هي المتسبب الأول لهذا التفلت على الشاشة، إذ لا حسيب ولا رقيب. إلى درجة أن يقوم ضيف أحد البرامج بإشهار سلاحه الحربي بوجه ضيفه، وهي قضية في أبسط وصف لها تعتبر شروعا بالقتل!
عمرو أديب في القاهرة اليوم
سابقاً كان العنف الحواري يتمثل بالاقصاء وعدم الاعتراف وبالنبذ المتبادل، يتمثل بالتحزب الأعمى والتعصب الذي يقصي كل فعالية العقل والتحليل. أما الآن فقد وصلت الأمور بالورثة الجدد لهذه الثقافة الاقصائية، إلى حدود الجسد نفسه، الى حيث لا يطيق الشخص وجود هذه الكتلة المعادية والمهددة لأمنه المعرفي والشخصي.
إذا كان صراع الأفكار، في السابق، يختزن عنفاً معرفيا يتمثل بالمحو والإقصاء. فإن عنف اليوم يتمثل برغبة وحشية لإقصاء الآخر نفسه وتصفيته جسديا بعد أن تتم تصفيته معنويا. تاريخ من الكبت السياسي أفْرج عنه اليوم فسَرَح في المدن بين الناس محطما كل – أو بقايا – قيم الحوار والاختلاف. وبذلك تنتقل النخبة العربية من ظاهرة التعالي على الواقع، إلى الانغماس به والغرق في رماله المتحركة. وإن كان عطبها السابق متمثلا بعصفوريتها، كما أحب كولن ولسون لمّا ميَّزَ بين النظرة العصفورية للواقع والنظرة الدودية، فإنها تدمج أزمة التعالي بأزمة التَّماهي ، الآن. وماكان تنظيرا في ما سبق، تحول إلى تشظٍّ.
حرب النسخ المنقَّحة يطيح بالحداثة
تتنقل النخبة العربية مابين هاتين الأزمتين. والذي يرجع بأصوله إلى الأزمة الأولى، “يتورّط” الآن بقراءة للواقع أقل مايقال فيها إنها تقوم على المصادرة. أمّا أهل الأزمة الثانية، فَهُم المشكلة وأدواتها، في آن واحد معاً. في ظاهرة نادرة لا تتكرر كثيراً في صراع الأفكار. والمصادرة التي تميِّز فكر التنظيريين، كنموذج أدونيس، مُرْهَقة هي الأخرى من ثقل التناقض الذي تنطوي عليه في بنيتها المعرفية، إذ كيف يرفض أدونيس “وصول الإسلاميين إلى السلطة في الربيع العربي”، كما عبّر مرارا، وفي الوقت نفسه قامت كل فلسفته النقدية على المتكلمين المسلمين والنقاد المسلمين والتاريخ الإسلامي بصفة عامة؟! هكذا يصل التعالي السابق الى ذروته، ويحطم نفسه، مفسحا في المجال للتماهي، كضرورة حتمية لانهيار نظرية المعرفة التي عمل عليها رواد الحداثة العربية منذ منتصف القرن الماضي.
وإن كان التنقيح أو التطهير، هو الفكرة الخلاّقة التي تخلّص الحداثة من أزمتها، عبر تقديم “نسخة منقّحة” للتاريخ، عبر آلية الإظهار والإخفاء التي تحدث عنها المفكر المصري نصر حامد أبو زيد، فإن الرد الصاعق جاء الآن، في تنقيح عكسي يعتمد المطهر ذاته والمصادرة ذاتها، لتسقط حداثة الحداثيين في ما أسست له من انتقائية وابتسار حوَّلت التاريخ الى منتج شخصي للمعرفة. ولهذا لا زلنا نسمع صوت السقوط المدوّي لهؤلاء الأبطال المأسويين، ومعهم دراما انطولوجية عمرها نصف قرن من الضحك المتواصل على التاريخ..
دمُ التفسير تفرَّق بين.. الحداثيين!
الفارق مابين التأويل والتفسير يتجسد بالدلالة. فبينما يقوم التأويل على طاقة لا مرئية أو غير مباشرة يختزنها النص، يقوم التفسير على علاقة مباشرة مابين النص ومدلوله، وهو مايسمى بظاهر اللفظ. عند هذه النقطة وقفت الحداثة الشعرية طويلا، لا بل إنها لم تتعد حدود هذه النقطة مطلقا في قراءة التاريخ. وبينما تقوم هيكلية التفسير على مقاربة الدال بالمدلول، وجعل المعنى امتدادا منطقيا لإطاره المادي، الذي هو اللغة أو النص، مما يحتّم، فلسفيا، النظر الى التاريخ بصفته دالاً ينتج مدلولات معرفية متطابقة أو منسجمة، فإن هيكلية التأويل تقوم على توسيع الفجوة مابين الدال والمدلول، ليتحوّل الأول إلى اساس متحرك يخدم نظرية الشِّعر إلا أنه يُقلق نظرية المعرفة ويربك علم التاريخ. فكيف بالأسس الدينية أصلاً!
أول مشكلة صنعتها الحداثة العربية في تأويليتها هي أنها تعاملت مع الدال ( اللغة. النص. التاريخ) كمدلول، مما جعل رمالا متحركة تقوم على رمال متحركة، فعمّقت الحداثة من أزمة الهوية وعوضا من أن تسهم في توسيعها أو “تحديثها” أسقطتها بتحويل الدال مدلولا. كيف يمكن إنشاء نظرية المعرفة إذا كان التاريخ نفسه تأويلا مفتوحا ينقض نفسه؟
البرنامج مع باسم يوسف
إن “الثابت” الذي كان الدريئة التي يطلق عليها الحداثيون رصاصهم المصهور كان الهوية والإطار التاريخي لنفس الأمة التي يتوجهون اليها بخطاباتهم! هذه الفلسفة العدائية، كانت الأساس المتين للإقصاء الذي زعمت الحداثة محاربته وادّعت رفضه. لقد أسست الحداثة للإقصاء في الوقت الذي كانت تدعو فيه للاختلاف. وكانت التأويلية هي اللبنة الأولى لقلق الهوية الذي تتهرب منه الحداثة الآن وتعجز عن فهمه. فمن جهة عملت التأويلية على فسخ العقد مابين الذات والتاريخ، وأصبح الوعي بالذات نقضا للماضي بصفته هوية سالبة(!) والترحيب منقطع النظير بهوية تأتي من “المستقبل” لم يكن أكثر من عدم اعتراف مركَّب ومخادع. ومن جهة أخرى عملت التأويلية على فهم الذات بأنها مواجهة طازجة مابين أنا ولِدَت للتو وواقعٍ غامض ولد للتو هو أيضا، كما لو أن الحامل التاريخي، الذي هو الأنا، هو مجرد عارض عبثي لمستقبل أكثر أصالة من وعي شقي ولد للتو رغم كل هذا التاريخ الممتد للأنا والذي اتكأت عليه التأويلية، في الأصل، في مفارقة قاسية وتنكّر معرفي لا سابق له.
حداثة معادية..
عدائية الحداثة العربية عبر التأويل، شكلت الإطار الرمزي لعنف الأفكار. وهذا المخزون الذي تنطوي عليه في توسيع الفارق مابين الدال والمدلول، يسّرت كل السبل للنقض وتفريغ الآخر. إذ لم يكن الثابت نصا وحسب، ولم يكن المتحول مدلولا وحسب. لقد انتقلا من كونهما أدوات معرفية، إلى نظرية معرفية مكتملة الأبعاد، أقل أشكالها ظهورا هو التعبير الشعري، وأعنف أشكالها هو الفرز ونزعة التقييم الحادة التي رأت في المتحول إبداعا وفي الثابت ركودا وتقليدية. ثم ليكتمل الفرز باتجاهات ضيقة للهوية بانتماء الثابت لجهة والمتحول لجهة، هكذا في جريمة معرفية أسس لها رواد شعريون لم يكن ينتظر منهم تعريف الأنا بهذا الضيق وفهم التاريخ بهذا التنقيح وتفريغ الهوية بهذا العنف.
التأويل بداية المسدَّس
بعد كل هذا التأسيس، أليس من الطبيعي أن يتمكن تلفزيون الواقع من إلقاء القبض على الحداثة بصفتها المنظّر البعيد للإقصاء والبتر؟ وهل للاستغراب أي قيمة إذا كان من هدد ضيفه بسلاح حربي كان قد فُرِّغ أصلا من “ثابته” وتحول الى مستجد من مال الله أو من مال الحداثة لمنحه بعض تعريف وكمية أقل من الاعتراف.. ولعل مايجري الآن حركة تتنقل من عبادة التأويل، في وعي الحداثة، الى الشروع بالقتل الذي كشفه وسيكشفه باطراد، تلفزيون الواقع