د. خالد الحروب – كامبردج
العشائرية والطائفية والتعصب الديني ما تزال جميعها تنهش في اللحم الحي من مجتمعاتنا ودولنا. بعد مرور اكثر من ستة عقود في المتوسط العام، على قيام دولة الاستقلال العربية ونهاية الاستعمار، ما تزال الكيانات السياسية العربية في غالبها تقوم على أسس لا ترسخ تحولها الى دول مدنية قائمة على مبدأ المساواة التامة والمواطنة الدستورية, بعيدا عن الولاءات القبلية والطائفية. من المحزن حقا ان تنحدر احدى اهم الممارسات والوسائل التي انتجتها فكرة الدولة المدنية, وهي الانتخابات, الى ساحة معركة بين القبائل والطوائف والعشائر. من اصغر مجلس محلي في منطقة نائية وصولا الى الانتخابات على المستوى الوطني العام يتغلب البعد القبلي او الطائفي او الجهوي على اي بعد جمعوي او وطني او مواطني. في الانتخابات المحدودة التي كانت تنظم بطريقة عشوائية هنا او هناك في مرحلة ما قبل الربيع العربي, ثم في الانتخابات التي نُظمت بعده تُدهشنا القبيلة والطائفة بقوتهما الراسخة رغم وجود الدولة على مدار عقود طويلة. تبدو فكرة “الدولة” وكأنها مظلة رقيقة جداً بالكاد ترى بينما الاشتغال الحقيقي على الارض وفي قلب المجتمعات هو للولاءات القبلية والدينية والإثنية. لا يشعر الفرد بأن ولاءه للدولة او للوطن والمجتمع بشكل عام يسبق ولاءه للقبيلة او الطائفة، وفي حال اضطر للاختيار بين الولاءين فإن خياره يكون واضحا وبإتجاه القبيلة او الطائفة. لا يتم الإنتقال الى الدولة المدنية والشكل الحديث للإجتماع البشري الذي يعتمد المساواة بين الافراد إلا عندما تضمحل الولاءات الصغرى لصالح هويات وطنية اكثر اتساعا وشمولا.
في سياق كهذا من المُدهش والمؤلم في آن معا ان نشهد مثلا بلدا صغيرا وحديثا مثل الاردن, تسلمت قيادته منذ التأسيس نخبة حديثة وذات تعليم غربي, يراوح مكانه إزاء مسألة القبلية والعشائرية وبالكاد يتحرك خطوة واحدة نحو دولة المواطنة والمساواة القانونية والدستورية. الانتخابات الاردنية الاخيرة اعادت تقديم الدليل القائم ليل نهار على سيطرة العشائرية على مناخ الاجتماع السياسي والوطني. افراد القبيلة ايا كانوا وحيثما حلوا يجب عليهم ان ينتخبوا ابن القبيلة المرشح, حتى لو كان اميا او جاهلا, ولا يهم إن لم يكن الافضل ضمن قائمة المرشحين. تصبح العشائرية هي البوصلة الاهم وهي التي تحدد الخيارات السياسية للناس. ما يهم هو مصلحة القبيلة وليس مصلحة المجتمع او الوطن. ناخبو المرشح القبلي يصطفون طويلا وفيهم المتعلم وحامل الشهادة الجامعية العليا ومدير الشركة ومتحدث اللغات. كلهم يدعمون مرشح القبيلة لا لشيء إلا لأنه إبن القبيلة. مؤهلاته الأهم هي علاقة الدم والقرابة. عندما تـأخذ الممارسة الانتخابية هذا الشكل الأعمى من التأييد لمرشح الطائفة او القبيلة عندها نغرق في مستنقع من الامية الانتخابية الذي يسبح فيه الجميع بغض النظر عن تبجح بعضهم بالعلم والشهادات العليا في حين تعشش القبلية في دواخلهم.
الامية الانتخابية تحبط اي عملية ديموقراطية وتحيلها الى ممارسة كاريكاتورية لا تحافظ على الشكل التقليدي المتخلف للمجتمع القديم وحسب, بل تعيد انتاجه بشكل جديد وتعطيه وجها حديثا وبراقا. بمعنى آخر, يتبلور جزء كبير من الاحزاب والتجمعات السياسية المتنافسة في اي انتخابات في سيرورة بشعة محورها إعادة انتاج للتجمعات القبلية والطائفية لكن تحت مسميات جديدة. وذلك كله لا ينتج إلا مزيدا من المرواحة في نفس المكان، بعيدا عن التقدم نحو بناء مجتمعات مدنية, وبعيدا عن انجاز اي من القيم والمبادىء المؤسسة للمساواة الدستورية والاقتراب من العدالة والتوزيع العادل للثروة والمسؤولية.
الدولة العربية الاستقلالية لم تساعد لا على محو الامية الانتخابية, ولا على تأسيس مجتمعات قائمة على قاعدة المواطنة, بل كانت هذه الدولة احد اهم اسباب استمرار العشائرية والطائفية. لم تدخل الدولة العربية الاستقلالية مرحلة الحداثة السياسية على الضد من كل مظاهر التحديث الخارجي البراق, إذ ما زالت ورغم عقود طويلة من الاستقلال وتحقيق السيادة عن المستعمر تغرق في الاشكال القديمة من الولاءات وتعتمد عليها. احد اهم الاسباب وراء ذلك هو استبداد النخب التي حكمت تلك الدولة بعيدا عن اية شرعية دستورية او ديموقراطية, وحيث كان جل همها الحفاظ على الحكم بكل انواع السياسات الوسائل, ومن ضمنها العنف والقوة. ومن اهم تلك السياسات كما هو معروف كانت سياسة الإعتماد على القبلية والطائفية وتحالف الحكم هنا او هناك مع اي منهما, او اجزاء منها. وما نراه اليوم في دول ثورات الربيع العربي من استشراء لكل انواع القبلية (في ليبيا واليمن مثلا), والطائفية والتعصب الديني (في مصر وتونس) هو الإرث الطبيعي لسنوات طويلة من “الاستثمار” الذي قامت به النخب الحاكمة هنا وهناك. لا يعني هذا ان الدول التي لم تقم فيها انتفاضات تتمتع بوضع افضل فالكل في الهم شرق, من لبنان “الحديث” في الشكل الخارجي والقائم في نظامه السياسي والاجتماعي على اشد انواع الطائفية, إلى مجتمعات الخليج التي تترسخ فيها هويات قبلية رغم كل التقدم التكنولوجي والمعماري, يُضاف إليها حديثا هوية طائفية سنية/شيعية متصاعدة, وصولا إلى دول المغرب العربي والإنشطار العمودي بين العرب والأمازيغ, وهكذا.
عملت الدولة الحديثة (مظهرا وشكلا فقط) على تعزيز القبلية والعشائرية وشرعنت وجودها. فمن ناحية اولى ومركزية لم تحقق العدالة الاجتماعية والمساواة ولم تحفظ للافراد حقوقهم وتدافع عنهم بحيث يشعر المواطن ان هذه الدولة هي سنده الاول والاخير. بل على العكس من ذلك قمعته وظلمته وانتهكت حقوقه وسلمت ثروات الوطن الى نخبة فاسدة اثرت على حساب المجموع العام, بما اضطر ذلك الفرد الى الهرب بعيدا عن الدولة والاحتماء بالولاءات الاخرى, القبيلة والطائفة والدين. ومن ناحية ثانية وفي اكثر من بلد عربي هناك إزدواجية فاضحة حيث إلى جانب القانون والتشريعات النابعة من الدستور هناك ما يُسمى ب “القانون العشائري”, بما يعني ان النظام القانوني والدستوري نفسه يستسلم للعشائرية ويقر بوجودها في اعلى التراتبية الهرمية لإدارة المجتمع. يتدخل القانون العشائري في حياة الافراد واحيانا كثيرة يوقف “القانون العادي” ويتصرف بسيادة مخيفة. كيف يمكن لنا ان نبني دولا حديثة تدخل التاريخ الحديث ونحن نحمل على اكتافنا كل ذلك العبء من العشائريات والطائفيات والعصبويات الدموية وغيرها