الدافع إلى الكتابة يعود في العادة لوجود قضية أو فكرة أو معلومة تتطلب العرض أو التحليل ومشاركة الآخرين سواء بأفكارهم وآرائهم أو بأفعالهم . ولكن عندما تصبح الكتابة هدفاً بحد ذاته ،
فإنها قد تتحول إلى طاقة تائهة ذات مفعول سلبي في الغالب ، مما قد يبعث على الملل وحتى الرفض من قبل الآخرين .
العديد من القضايا والمشاكل العربية قيد البحث والنقاش والاهتمام العام قد أثبتت قدرة فائقة على البقاء والاستمرار العنيد مثل قضية الاحتلال الصهيوني لفلسطين وقضايا إستفحال الفساد وغياب الديموقراطية والإقتتال الأهلي وقضية الارهاب …الخ . إن الاستمرار في الكتابة في هذه المواضيع قد أصبح بالنسبة للبعض أمراً مُستـَهلكاً أو مُكـَرراً بشكل يبعث عن الملل .
ما العمل إذا كان أصحاب الرأي الآخر أوالموقف الآخر أكثر نفوذاً وقوة وقدرة على استعمال كافة الموارد بما فيها موارد الدولة لصالحهم ولصالح سياساتهم وممارساتهم التي يرفضها الكثيرون بل وتبعث على غضبهم .
هل التوقف عن الكتابة هو الحل ؟ أم الصمت والإنسحاب إلى صفوف الأغلبية الصامتة ؟ أم الاستسلام لإرادة القوي وبالتالي التسليم بكل ما يصدر عنه ؟
ماذا نقول لأنفسنا وماذا نقول لغيرنا ؟ ماذا نقول لأبنائنا وماذا سنقول لأحفادنـا ؟ هل الفشل هو ارادة ذاتية أم واقع عام تفرضه لامبالاة الكثيرين وعدم رغبتهم بالتضحية سواء بالنفس أو بالوقت أو بالجهد أوبالمال ؟
يفتقر العرب إلى الحكمة في أسلوبهم تعاملهم العام مع مشاكلهم وقضاياهم العديدة كونهم يقفزون بينها من قضية لم يتم حلها أو تفكيك عُقـَدِها إلى قضية أخرى مُسْتـَعْصية أو مُسْتـَحدثة ! فالعرب في العادة يَملـّون من قضاياهم المتقادمة ومن فشلهم في حلها أو فك عُقـَدِها لينتقلوا إلى قضايا أخرى تنتهي أيضاً بفشلهم وعجزهم وهكذا دواليك ، وإلى الحد الذي تتراكم فيه القضايا وتنمو وتتعقد لتصبح جزأً من الصورة العربية المقيته والواقع العربي السئ .
هل العرب أمة واحدة ، وإذا كانوا كذلك فهل هم أمة حَيَّة أم أمة فاشلة ؟ هل العرب سادة أقدارهم أم عبيداً لتلك الأقدار ؟ أسئلة عديدة هامة تصب في واقع العرب ومستقبلهم والاجابات عليها ولو بإختصار قد تشكل المدخل الواقعي لإستيعاب طبيعة مشاكل العرب وقضاياهم وأبعادها .
لعل قضية فلسطين هي من أهم وأعقد القضايا التي يجابهها العرب . ومع أنه من الصحيح القول مثلاً بأن إنشاء دولة اسرائيل على الأرض الفلسطينية كان نتيجة تآمر دولي ، إلا أن الأكثر صحة هو الاعتراف بأن انتصارات إسرائيل العسكرية المتعاقبة كانت نتيجة لهزيمة العرب لأنفسهم في الدرجة الأولى وتآمر حكامهم المتخاذلين . وهكذا فإن العقدة النفسية العربية تجاه عدم امكانية إحراز نصر عسكري على إسرائيل هي عقدة وهمية تتجاهل حقيقة أن انتصارات إسرائيل جاءت نتيجة الضعف العربي أكثر منها نتيجة القوة الاسرائيلية . والاستسلام الطوعي العربي والفلسطيني لِوَهْم السلام مع إسرائيل كحل وحيد في ظل استفحال وَهْم عدم إمكانية الحل العسكري ، إنما يعكس تدهور الحال العربي العام وانحطاط وضع العرب النفسي وتآكل منظومة القيم الوطنية لديهم وغياب الاستعداد الحقيقي للتضحية بعكس باقي الشعوب الحية . فغياب الحرب لا يعني بالضرورة وجود السلام ، وافتراض ذلك من قبل البعض يجعل من شعار السلام وسيلة للإستسلام كما هو عليه الحال الآن ، وطريقاً يتم فتحها أمام الآخرين للولوج فيها تحت شعار السلام الزائف ، في حين أن المقصود فعلاً هو القفز فوق عقدة عدم إمكانية الانتصار العسكري على اسرائيل وبالتالي القفز إلى أحضان الجانب الآخر وهو اسرائيل على حساب الفلسطينيين وحقوقهم . وفي كل الأحوال ، علينا الاقرار أيضاً بأن شهوة الحكم لدى القيادات الفلسطينية فاقت هدف التحرير مما قضى بالنتيجة على مسيرة الكفاح والنضال الفلسطيني وحَوَّلَ الثورة الفلسطينية إلى رماد كثيف يغطي ذنوب وخطايا وخيانات بعض قادتها .
«الأعراب أشد كفراً ونفاقاً» جملة لم تأتِ من فراغ . فالعرب ومنهم الأَعراب يفتعلون الأزمات فيما بينهم ، وَهُمْ في العادة أقسى على أنفسهم وأبناء جلدتهم من قسوة الغرباء عليهم . والحروب الأهلية العربية في لبنان ثم العراق وليبيا وسوريا واليمن مثال على تلك القسوة الدموية . وافتعال الأزمات بين الكيانات العربية لأسباب شخصية أو عشائرية أو قـَبَلية أو ذاتية ، وتحويلها إلى قضايا عامة تمس شعوباً وأوطاناً بأكملها قد أصبحت ممارسة عربية عادية تعكس تفاقم حالة الانحلال العربي والتدهور في منظومة القيم وما تـُرَتـّبَهُ الرابطة القومية العربية من التزامات على الشعوب العربية . وما يسمى الآن مثلاً بأزمة الخليج والمتمثلة في الخلاف بين قطر من جهة وأربع دول عربية من جهة أخرى انما هي مثال مؤلم على ذلك وترجمة لواقع الحال العربي السائد حالياً والذي يسمح لآخرين بإستعمال العرب واستغلال خلافاتهم المحلية كمدخل لتنفيذ سياسات اقليمية قادمة من جهات غير عربية ، قد تكون لها آثار سلبية أو مُدَمـِّرَة على العالم العربي أو ، في أحسن الأحوال ، على بعض الدول العربية . أمَّا العيب فهو أن تتطور الأمور إلى حد إستعانة بعض العرب بقوات أجنبية من تركيا أو إيران أو أمريكا أو روسيا ضد اخوتهم من العرب أو أن تتوسط دولة مثل أمريكا أو روسيا لإصلاح ذات البين بين العرب المتخاصمين دون أي اعتبار للحقيقة المرﱠة أن أمريكا أو روسيا مثلاً تعمل في نهاية المطاف لحماية مصالحها دون أي اعتبار لمصالح الآخرين .
تكتسب قـِيَمْ الاعتدال معناها الحقيقي عند مقارنتها بـِقـِيَمْ التشدد والتزمت والتطرف . وهي بذلك تكون في أصولها قـِيَمٌ نسبية وليست مُطـْلقـَة . ولكن علينا الاعتراف بأن قيم التشدد والتزمت والتطرف تنبع من داخلنا أيضاً ومن رحم الأمة وهي غالباً ما تكون إما نتيجةً للجهل ، أو رد فعل لحالات متفاقمة من الظلم والاستبداد. وفي العادة تتم تغذية تلك القيم من قبل الأنظمة الحاكمة ، خصوصاً قيم التزمت والتشدد المستندة إلى الجهل، كوسيلة لتقوية سلطة الحاكم الظالم وتسلطه ، ومن الأمثلة على ذلك الحركة الوهابية في السعودية وبعض تفرعات حركة الأخوان المسلمين . والدول الغربية الاستعمارية غالباً ما استعملت وتستعمل تلك الحركات المتزمة لدعم مصالحها كما حصل في حقبة الحرب الباردة عندما إستـُعْمِلَ الاسلام السياسي المتشدد والمتزمت مثل حركة القاعدة والإخوان المسلمين لقتال الكتلة الشيوعية والاتحاد السوفياتي . ولكن عندما انتقل الخطر ليهدد مصالح العالم الغربي تحولت تلك التنظيمات نفسها من حليف إلى عدو ، وأصبح العمل ضدها وضد قيم التزمت والتشدد مطلباً دولياً حتى ولو إستـُعْمل ذلك كمدخل للإخلال بمصالح بعض الدول العربية .
الإرهاب ليس مشكلة عربية أو اختراع اسلامي . فكلاهما ، أي العرب والمسلمين ، كانا أدوات تم تسخيرها واستعمالها من قبل الآخرين في سعيهم لتكريس ظاهرة الارهاب وخطرها على السلم الدولي . والارهاب في أصوله اصطلاح غربي مَعْناه مازال غامضاً وأبْعَاده مُفـَصَّلـَه تفصيلاً على مقاس العرب والمسلمين بهدف ابتزازهم من جهة واستعمالهم كأدوات لتدمير دولهم أو دول عربية أخرى أو بعضهم البعض من جهة ثانية تحت ستار «الحرب على الارهاب» . وبعد أن تم تدميـر دول عربية عديـدة ، يبدوا أن الدور الآن على أهم دولتين اسلاميتين في الاقليم وهما تركيا وايران حيث تشير العديد من الشواخص إلى نوايا أمريكا والغرب لتقسيم الدولتين المذكورتين وتمزيق وتشتيت الدول الاسلامية الكبيرة بشكل عام وشرذمتها إلى دويلات متنافرة وتشجيع الولاآت المذهبية أو العرقية الفرعية لتسهيل تلك المهمة . هذا ناهيك عن ما يجري الآن من محاولات جادة ومستمرة لتمزيق مصر من خلال إختلاق صراع طائفي لا أُسُسْ حقيقية له ويتم افتعاله من خلال عمليات اجرامية يومية بإسم الاسلام ضد المواطنين المصريين المسيحيين .
ويبقى السؤال الأساس فيما إذا كانت الحرب على الارهاب هي قضية عسكرية حصراً أم أن لها أوجهاً عديدة أخرى قد تكون في نفس أهمية الحل العسكري ، هذا إن لم تفوقه في تلك الأهمية ؟
الحل العسكري هو ما تريده أمريكا والغرب كونه يشكل الاداة والمدخل لتنفيذ مخططاتها . وهذا يفسر لماذا تمتنع الأطراف المنادية بالحرب على الارهاب ، العربية منها وغير العربية ، عن التفكير في أي وسيلة أخرى للتصدي للارهاب ووضع حَدﱠ له واقتصار الأمر على الخيار العسكري . كما أنه يفسر أيضاً لماذا تصر كافة الأطراف المعنية على تجاهل الأسباب الحقيقية المؤدية إلى الارهاب مثل الفقر والبطالة والظلم والفساد والقهر والاحتلال التي تؤدي إما إلى الغضب والثورة أو إلى اختيار مسار التزمت والعنف والاعتكاف الديني أو المذهبي . فالهدف من رفع شعار «الحرب على الارهاب» ليس اصلاح الخلل القائم في الدول المعنية ، بل تدمير تلك الدول وتمزيقها كما يحصل الآن في العراق وسوريا وليبيا واليمن .
قضايا العرب ومشاكلهم سواء أكانت من صنع غيرهم أم من صنع أياديهم لم تكن لتكون لولا أن حكامهم قد رغبوا بذلك وساهموا به والشعوب سمحت لهم بفعل ما يريدون إما خوفاً أو جهلاً . والتاريخ سوف يكون قاسياً في حكمه على العرب لأنهم فـَرَّطوا وما زالوا بأنفسهم وثرواتهم وكرامتهم لارضاء حكامهم بكل نزواتهم وشذوذهم السياسي واستعدادهم للإنحناء أمام جبروت ورغبات الأجنبي .
* مفكر وسياسي