تاريخ النشر: الأربعاء 06 أكتوبر 2010
أُفتتحت يوم الأربعاء الفائت بلندن مؤسسة ” الحِوار الإنساني الثَّقافية “، بدعم وإسناد مِنْ ابن الكاظمية آية الله حسين بن إسماعيل الصَّدر. كان عنوان الدَّار التي ضمتها: ” بيت السَّلام “. وبلا شك أن الحِوار والسَّلام، بحد ذاتهما، مفردتان مفعمتان بالإنسانية إذا نشآ نشأةً ثقافية خالية مِنْ هاجس التَّعصب لأي عنوان سوى الوطن .
كانت سَّنة 2006 هي الأعجف مِنْ بين السِّبع اللاتي مرَّرن على العِراق، في شدِّة المواجهات الطَّائفية، وبشاعة المذابح، وهيمنة ساسة الفتن، حتى أخذ العراقي يفزع مِنْ ظله. حينها كانت كائنات الموت تسرح وتمرح بلا قيود، وتحت عناوين ورايات مقدسات .
إثر ذلك الظَّرف حضرت فكرة مؤسسة الحِوار الإنساني، ومؤسسة السَّلام: فضائية السَّلام، جريدة نداء السَّلام، إذاعة السَّلام. ففي تكرار العنوان رد شافٍ على كثرة الحروب. وبدلاً مِنْ السُّيوف والحِراب التي نقشتها تلك الجماعات على راياتها، نقشت مؤسسة السَّلام حمامات بيض يحاول بها عالم دين، خلا قلبه مِنْ الكراهية، تكريس فكرة الحِوار على أرض ضاقت بالدِّماء ولحود المقتولين .
مِنْ مدينة الكاظمية، التي شُيدت على مقابر قريش غربي بغداد، حيث ضريح الإمام الكاظم (ت 183 هـ)، انطلقت أكثر مِنْ دعوة للتَّعايش، هناك تعلو على الضِّفة المقابلة من دجلة قبة الإمام النُّعمان (ت 150 هـ). الأقدم، يرتقي تاريخ أحدها إلى (442 هـ): «أن أبا محمد النَّسوي وُلِّي شرطة بغداد، وكان فتاكاً، فاتفقوا (السُّنَّة والشِّيعة) على أنه متى رَحل إليهم قتلوه، واجتمعوا وتحالفوا، وأُذن بباب البصرة (سُنَّية) بحيَّ على خير العمل، وقُرئ في الكرخ (شيعية) فضائل الصَّحابة، ومضى أهل السُّنَّة والشِّيعة إلى مقابر قريش”(ابن تغرى بردى، النُّجوم الزَّاهرة ).
أما الأحدث، فكانت دعوةً إلى توحيد الأذان كما رفعه الشَّيخ محمد مهدي الخالصي (ت 1963)، مِنْ على منارة المسجد الصَّفوي، الملاصق للحضرة الكاظمية، أبريل 1963، بحي على خير العمل، مع حجب الشَّهادة الثَّالثة، ومقترح إحلال “الحيعلة” محل “الصَّلاة خير مِنْ النَّوم” في أذان مواطنيه السُّنَّة.
إن رفع الأذان الموحد مِنْ على منارة ذلك المسجد بالذَّات، فيه إيماءة إلى حداثة الشَّهادة الثَّالثة، حيث العهد الصَّفوي (1501 ميلادية). وبالفعل فإن رسائل علماء الإمامية الفقهية، مِنْ الطُّوسي (ت 460 هـ) وحتى المتأخرين كافة، لا تعترف بها كمفردة مِنْ الأذان. ومع عدم التَّأهيل الكافي لتلك الدَّعوة، وما صاحبها مِنْ خِطاب سِّياسي حادٍ عدائي، إلا أن الحق يدعونا إلى الاعتراف بشجاعة الشَّيخ ونبذه للطَّائفية.
أما “مؤسسة الحوار الإنساني” فشأنها آخر، ثقافية هادئة، تحاول عبر الكلمة والرِّيشة تأصيل التَّعايش داخل وطنٍ مبتلى. سألتُ صاحب العِمامة السَّوداء قبل عامين: ما أنت فاعل! قال: “لديَّ أصلان لا ثالث لهما: الله تعالى – لَحظتها تلمسَ عمامته ففهمتها إشارة إلى تلك الصِّلة- والعِراق. أما بقية العناوين فهي فروع”. ونِعم الأصلان.
بالفعل عندما تسنم بطريك الكلدان عمانوئيل دلي درجة الكاردينال، أقام له آية الله، وباسم المؤسسة نفسها، حفل استقبال بالكاظمية. وأراه في هذه البادرة كسر حاجز الخوف، الأكثر بشاعة في تاريخ العِراق المعاصر، حيث تفجير الكنائس وذبح الرُّهبان. وعندما أتى إليه شباب الصَّابئة المندائيون سائلين مكاناً آمناً لنشاط لهم، وهم المطاردون، قدم لهم المكان والعون. أرى لكثرة رمي الزَّيت في نار الفتنة، ومِنْ أهل عمائم، عندما يبرز فقيه له شأن بالثَّقافة والحوار الإنساني سيزرع الأمل في النُّفوس.
لم تكن مؤسسة الحِوار الإنساني، موضوع مقالتنا، أول مؤسسة بهذا العنوان، لكنها ربُّما الأولى عراقياً بدافعها الثَّقافي، ومعلوم أن مِنْ خصائص الثَّقافة أنها جامعة، لا يُسأل الأديب أو الفنان فيها عن دينه، ولا مذهبه، ولا لونه، ولا جنسه، إنما الفعل الثَّقافي هو فعل إنساني، ليس هناك رواية أو لوحة تشكيلية مسلمة وأخرى يهودية أو سُنية أو شيعية، بل حتى ما أُشيع مِنْ أدب للنِّساء وآخر للرِّجال هو مِنْ المفتعلات.
أعلنت المؤسسة أنها معنية بالحِوار الثَّقافي لا غيره، وهو ليس تعالياً على بقية الشؤون، لكن إذا كان المثل السَّائر يقول: “لكلِّ مقامٍ مقالٌ”، فعكسه: “لكلِّ مقالٍ مقامٌ”. فالسِّياسة والدِّيانة لهما مقاماتهما، مِنْ مؤسسات لا تعد ولا تُحصى، وهي في تزايد، فليكن هذا مقام الثَّقافة والحِوار الذي بدأ يمتد خارج العِراق، حيث يقيم الملايين مِنْ أهله.
إن ذلك التَّمييز بين الدِّيانة والسياسة والثَّقافة، بما لا يهيمن أحدها على الآخر، جعل الخليفة المثقف، مِنْ وجهة نظري، عبد الله المأمون (ت 218 هـ)، يُحلق بتسامحه، والشَّاهد: أن أحضر الخليفة، لأجل الحِوار، رئيس المانوية يزدان بخت “فقاطعه المتكلمون، فقال له المأمون: أسلم يا يزدان بخت! فلولا ما أعطيناك إياه من الأمان لكان لنا ولك شأن. فقال له يزدان بخت: نصيحتك يا أمير المؤمنين مسموعة، وقولك مقبول، ولكنك ممَنْ لا تجبر النَّاس على ترك مذاهبهم. فقال المأمون: أجل. وكان أنزله بناحية المحرم، ووكل به حفظةً، خوفاً عليه من الغوغاء، وكان فصيحاً لسُّناً” (النَّديم، الفهرست). تصرف الخليفة بهذا التَّصرف لأنه كان مثقفاً واعياً لتنوع ملل ونِحل دولته الشَّاسعة.
أهم ما يحتاجه المحاور، وما أثبته المأمون في مجالسه، أن يطهر قلبه مِنْ تعصب أو كراهية، ومجمل آدابه: “لا تغضب، ولا تعجب، ولا تشغب، ولا تحكم، ولا تقبل على غيري وأنا أكلمك. ولا تجعل الدَّعوى دليلاً، ولا تجوز لنفسك تأويل آية على مذهبك إلا جوزت إلى تأويل مثلها على مذهبي، وعلى أن تؤثر التَّصادق، وتنقاد للتعارف…” (الرَّاغب، محاضرات الأُدباء).
إن الأفضل لمؤسسة الحِوار الإنساني أنها ليست حكومية، فلو كانت كذلك لوضعت تحت أبط حزب متنفذ، ومَنْ ينظر في المؤسسات الحكومية، ويطلع على مناهج التربية والتَّعليم، وهي تظهر نموذجين لصلاة الشِّيعي والسُّني، وتُحوُّل الآيات القرآنية إلى معادلات الكسور للتمييز بين الإناث والذُّكور، يدرك قيمة مثل هذه المؤسسة
إنها بشارة خير عميم، أن علماء دِّين يفتحون نوافذ للثَّقافة برحابها الإنسانية، وهو عمل جدير بالتَّضامن والمؤازرة، لا نذهب بعيداً بتصوراتنا ونتوهم السِّلبية مسبقاً. فمادام الوطن وثقافة نبذ الطَّائفية هما العنوان فلتبارك الجهود. ولا يهم: “إن كون الفلاح يَطلب نوراً… بالطَّرابيش كان أو بالعَمائم” (الشَّرقي، الدِّيوان). فما أحوج العِراق لعمائم رَاسخات حباً له، حاملات للسَّلام، راعيات للحِوار الإنساني