نبيل ياسين
كيف نفسر غربة الحسين وهو ينهض كل عام بين اكثر من خمسة ملايين او اكثر من انصاره ؟ انهم يكرسون غربته وهم يلطمون وينوحون حبا واعتزازا باستشهاده وشخصه ولكنهم ينسون قيمه ومعالم طريقه. ينسون ذلك حين ينسون السير في طريق الحرية ويتجنبون المضي في الطريق ضد العبودية والظلم وانعدام العدالة والمساواة وشيوع الفساد والاستيلاء على الاموال العامة . ينسون الحسين وهم يرددون شعارات العشائر والقبائل ويكرسون مؤتمرات لها كأن الطريق الى الحسين هو طريق التعصب القبلي الذي احياه بنو امية ضد الحسين حتى ما وجد قبيلة تقف بجانبه ولا عشيرة تجرد سيفها من اجله وما وجد سوى بضعة انفار من بني اسد يوارون جسده المقطع باستحياء . ليس الحسين هو من يتجسد في هذه التشابيه التي تخفي صورته الحقيقية وتقدم بدلا عنها شخصا آخر . قد يكون بعض التعزية ان هناك (ردات) تندد بالظلم المعاصر كما كان الحال في ردات الستينيات ابّان حكم عبد السلام عارف.
ان ثارات الحسين ليست ثارات شخصية تستهدف قتل اعداء الحسين وليست خطوة توابية تستهدف التطهير النفسي والذاتي عبر تعويض عدم الوقوف مع الحسين اثناء القتال وانحياز الحشود الى الجيش الاموي، وانما الثأر الحقيقي للحسين، والذي كان هو نفسه يطمح اليه، هو تحرير الحقوق من مستعبديها واعادة الحقوق الطبيعية للناس . حقوق الحرية والعدالة والمساواة والكرامة والحصول على حق الحياة الكريمة والسعيدة، تلك التي استعبدت وسلبت بحيث تحولت الامة بأفرادها ومجموعها الى عبودية حاكم بدل ان تمارس ولايتها على نفسها.
واذا كان التاريخ يتكرر فان مثل هذه الحالة تتكرر حين يرى ملايين الناس اليوم انفسهم مجبرين على الاقتناع بهدر حقوقهم في الحرية والعدالة والمساواة والكرامة والحصول على حق الحياة الكريمة والسعيدة. ان افضل ثار للحسين اليوم هو تحرير حقوق الناس واعادتها اليهم من العبودية الى الحرية. فهل يمكن ان نحقق اهداف الانتفاضة الحسينية ونحن نرى مدن العراق تغرق بسبب الفساد والاهمال والجهل بوظائف الحكم واستخدام عواطف ملايين الشيعة المتوجهين الى الحسين استخداما سياسيا لا فائدة ترجى من ورائه لعشاق الحسين؟
حب الحسين او الشعور بالذنب؟
من نحن العراقيون ؟ نحن شعب يحاول كثير من السياسيين والكتاب والصحفيين والجهلة تصويره وكأنه يعيش في الاوهام المضللة التالية:
اولا: لقد ادخل الحكام في عقل العراقيين انهم قتلوا الحسين. وظلت هذه الفكرة منذ ثورة التوابين تقود الاحساس بالذنب وتبكي وتلطم على الحسين معتبرين هذا البكاء واللطم تكفيرا عن الذنب ، ذنب عدم الوقوف مع الحسين ضد اعدائه.
ثانيا: لقد ادخل بعض الشيعة مثلما ادخلها خصومهم فكرة ان اهل العراق اهل شقاق ونفاق فحولوا المبالغة بالشعور بالذنب الى مناسبة لتكريس هذا الشعور واختصار التاريخ بشخصية نمطية للعراقي.
ثالثا: ان توظيف الشعور بالذنب خدم اغراضا سياسية لبعض الشخصيات والتيارات الطامحة للسلطة منذ ثورة التوابين حتى اليوم دون ان يحقق للشيعة الشعارات التي ينادون بها بمناسبة العاشر من محرم. فالشيعة في العراق وفي دول اخرى ما يزالون مواطنين يرزحون تحت الخوف والفقر والامية وانعدام الفرص والاستغلال والتهميش في حين تستثمر ملايينهم في الادعاء الاعلامي والسياسي دون جدوى سوى تكريس هيمنة سياسية لهذا الطرق او ذاك. دون ان نلغي الاحساس بشعور التفوق العددي في السكان، وهو تفوق فارغ من الاداء الموضوعي الذي يحقق مصالح الناس.
يتحول الحسين عاما بعد عام، من خلال جهات علنية ومجهولة، تجهل التاريخ وموضوعيته ، الى عرض وجداني بكائي لا يحقق المبادئ الاساسية لثورة الحسين، فالاكتفاء بالبكاء لا يستطيع ان يحرر الحقوق المستعبدة. والتركيز على الندب وحده ينأى بالمناسبة عن قيمها الاساسية. ان ثأر التوابين لم ينتج غير قتل قتلة الحسين دون ان تتحقق مبادئ الحسين الذي لو ظفر بأعدائه ما كان يثأر منهم بقتلهم، وانما بتطبيق الحرية والعدالة وتحقيق مصالح الناس.
حين تتسع المشاركة في المناسبة وتتسع الحاجة الى قراء ومنبريين، تتسع الحاجة الى ادخال الخرافة والمبالغة وصناعة روايات واحداث لم تحدث. ويتحول التاريخ من شاهد على الحسين الى شاهد ضده. وحين تكون هذه المناسبة فرصة لمنبريين غير مؤهلين لسرد التاريخ، فان هذا التاريخ يتحول الى آراء شخصية لا احداث ذات مغزى قيمي ومعياري ،والى عواطف جياشة لا الى موضوع. الى استعراض وتحد لا الى قناعات، بحيث سمعت كثيرا من المشاركين في التعازي في كربلاء عبر فضائيات يشيرون بشيء من (صناعة الفضل) بانهم تركوا (دوائرهم) الرسمية من اجل الحسين. والسؤال لماذا من اجل الحسين في حين ان الحسين خرج من اجل ان يحصل الناس على حقوقهم التي يهملها هذا الزائر بحجة زيارة الحسين. فضلا عن ذلك نسأل: لماذا نحّول مؤسسات الدولة الى مجالس تعزية ونعطل مصالح الناس؟ لقد رأيت احد رجال الدين ينتقد هذه الظاهرة ويندد بتحويل مصالح الدولة الى مصالح مذهبية ، وهو رأي سديد. اذا كان احد ما يعترض فاني اعترض بان عليا لم يكن يقفل الاسواق بذكرى وفاة الرسول ويقيم فيها التعازي . ولم يكن يغلق دواوين الدولة، ولم يكن يعطل الجيش والشرطة عن عملهما المناط بهما كي ينشغلا بذكرى وفاة الرسول. صحيح ان للحسين ذكرى مأساوية تستدعي تعظيمها سنويا. لكن ذلك لا يستدعي ان نحول القربان الحسيني من اجل الحرية والحق والكرامة الى مناسبة لتعطيل مصالح الناس وخرق حقوقهم وتعطيل الدولة ،باعتبارها مصلحة لمواطنيها، عن العمل .
واذا تم تحرير الحقوق الحسينية من عبوديتها فان اول خطوة ستتم هي تحرير هذه الحقوق من التوظيف السياسي والطائفي الذي لا يخدم مبادئ الحسين وانما يخدم مصالح سياسية فئوية باسم الحسين الذي ثار من اجل ان يحصل الناس على حقوقهم. اليس من حق الحسين ان يرى ثورته الصحيحة اليوم مجسدة في الامن والعدلة والحرية وتكافؤ الفرص والخدمات التي يحتاجها الناس من صحة وتعليم وسكن ونقل وماء. لقد لعب الماء دورا باعتباره رمز الدراما الحسينية، وظهر الابطال العظام مثل العباس لترتبط ادوراهم البطولية برمزية الماء والعطش كسلاح جماعي للإبادة، وهو السلاح الذي حاول معاوية استخدامه في حرب صفين حين سيطر على شاطئ الفرات واراد قتل جيش علي عطشا لكن عليا امر مالك الاشتر بإجلاء جيش معاوية وتم ذلك بفضل خمسمائة فارس مقدام ولما اراد مالك ان يقوم بنفس ما قام به معاوية ويمنع جيشه الامويين من السقاية منعه علي واباح هذا الحق في المصادر المشتركة للحياة باعتبارها حقا من حقوق الانسان، وهو الامر الذي لم يتم عالميا الا في عام 1949في اتفاقية جنيف التي رأت الاهوال التي اصابت الجيوش المشاركة في الحرب العالمية الثانية بسبب السيطرة على مصادر المياه واستخدامها في الابادة الجماعية فأقرت اتفاقية جنيف حق الاطراف المتنازعة في الاشتراك بمصادر المياه اثناء الحروب.
سرقة الحسين وتشويه مبادئه
ماذا يعني ترديد الشيعة لقول ( ان الحسين مصباح الهدى .. وسفينة النجاة) ؟ هو لا يعني ابدا تشريع السرقة واعتبارها عملا مشروعا يدخل في سبيل الهداية وطوق النجاة. فسرقة اموال الدولة، التي سرقها يزيد وثار من اجل استرجاعها الحسين، تطفئ نور هذا المصباح. كما لا يعني ان من يسرق الاموال ويتكلم باسم الحسين ويصرف جزء منها على اقامة تعاز او شعائر قد زكى تلك السرقة لان ما بني على باطل فهو باطل.
لم يكن احد يتندر من قبل على ما يقال من فوق المنبر الحسيني. بعض المغالاة والمبالغات كانت مقبولة نسبيا او كانت تمر مع بعض التلميحات بشأنها. اما اليوم فان المغالاة والمبالغات لم تعد كرامات ولم تعد قادرة على منع السخرية والتسفيه من الانطلاق وهذا يتحمله( قراء) بدون وعي مع الاسف يأخذهم الحب او العاطفة او الولاء غير الواعي الى تحويل المنبر الحسيني الى فضاء مفتوح للفردية والارتجال والابتكار على حساب التاريخ والواقع والمصداق والمعتقد. لماذا تبوأ المنبر الحسيني مكانة راقية من خلال اشهر وافضل القراء مثل المرحومين عبد الزهرة الكعبي والشيخ احمد الوائلي مثلا؟ لان منطق التاريخ ومنطق العرض واستعراض مأساة كربلاء كان في حدود المنطق الذي يحيطه مقدس مثل الحسين، بينما اصبح هذا المقدس يأخذ ابعادا تبعث على الاستفزاز والسخرية من خلال مبالغات غير مقبولة تشكل اساءة للذكرى وللفاجعة اكثر مما تقدسها. وتقوم هذه الإسادة على نفي التاريخ ونفي المنطق ونفي الكرامات المقبولة والاعتماد على تلبيس جمهور متعطش للكرامات والمعجزات كثيرا من الخرافة وقليلا من الوعي. بينما يفترض بالمنبر الحسيني ان يكون حسينيا، بمعنى ان يكون منبرا للحرية والعقل والعدالة وحقوق الانسان وتكريس كرامة البشر مقابل عبودية السلطة الغاشمة ومقابل تحويل الناس الى جموع بلا حقوق.
الحسين والشيعة الحاكمون
للمرحوم الشيخ محمد جواد مغنية كتاب صدر في اوائل الستينات من القرن الماضي بعنوان (الشيعة والحاكمون). ومن العنوان يتضح كيف عانى الشيعة من السلطات الحاكمة مثلما تعاني اية معارضة سياسية لنظام حكم لا يؤمن بالتعددية ولا بالعدالة ولا بالحرية ولا بحقوق المواطنين.
اكثر من اربعة عشر قرنا ربط الشيعة انفسهم بما اطلقوا عليه (المظلومية). وكانت هذه المظلومية تتمثل بحرمانهم من حقوقهم باعتبارهم معادين للسلطة السياسية، بحيث وصل الامر الي قتلهم وتشريدهم ونفيهم منذ بداية حكم الامويين حيث نفى زياد بن ابيه في خلافة معاوية اربعين الفا من مقاتلة الكوفة الى اراض بعيدة مثل خراسان وكابل وهرات لأنه شك في ولائهم لعلي بن ابي طالب.
لم يحصل الشيعة على حقوقهم عبر التاريخ. وكانت مأساة كربلاء الشاهد الاكثر حضورا على هذه المظلومية وعلى هدر حقوق ملايين المسلمين عبر التاريخ. اذا كان التاريخ قد سجل للحاكمين كثيرا من المخازي وكثيرا من العار ضد الشيعة فان التاريخ سيسجل كثيرا من الادانات لكثير من شيعة اليوم، ممن يكتب تاريخا غير تاريخ الحسين ونصا غير نص استشهاده بحجة الحب والولاء والاعجاز.
ان عبقرية الحسين تكمن في المعنى. لان المعنى باق في التاريخ ويمنح هذا التاريخ ضراما من المثل الاقصى لما يمكن ان يقدمه انسان من اجل قضيته. اما الذين يعتقدون ان المعنى يكمن في اختراع معجزات وكرامات وابتكارات تتحول الى سخرية الاخر واضافتها الى الحسين فهو يلغي هذه العبقرية من المعنى.
يستغل كثير من القراء الجدد المشاعر العامة للشيعة فيعتمدون عليها في ابتزاز العقل. لا يمكن مصادرة العقل، هذه القيمة التي يتمتع بها الانسان كما يتمتع بها الاعتقاد والاجتهاد بإضافة خرافات لا تمت الى الذكرى ومعانيها بصلة او وشيجة سوى ابتزاز الاخرين الذين لا يتحدثون عن رفض هذه المناسبات خوفا من (غضب العامة) كما يقولون؟ لماذا لا يكون لـ (الخاصة) رأي بهذا التحدي للعقل والتاريخ والحسين نفسه حين ينسب اليه وباسمه عدد من (القراء) حوادث واحداثا لا تليق به. ماذا يعني التلويح بغضب العامة؟ يعني استمرار الاساءة الى الحسين عبر تنويم العامة وصرف انظارهم عن حقوقهم. بهذا المعني يتحول اولئك القراء الى (وعاظ للسلاطين) يعينونهم على نهب تراث الحسين الانساني ، تراث الحرية والعدالة. الم يكن الله قادرا على انقاذ الحسين من مأساة كربلاء؟ لماذا حدثت تلك المأساة وبهذا القدر من الفظاعة التي ارتكبت بحق الحسين؟ الم يكن المعنى واضحا لا يحتاج الى تشويه بادعاءات خارج السياق العقلي والسياق التاريخي؟
وبدل ان نبحث عناصر الصراع بين مشروع الحسين بدولة حرية وحقوق ومواطنة، وبين مشروع الحكم الاموي المستبد واستيلائه على حقوق الناس ومصادرة حرياتهم وتغييب العدالة بالاستيلاء على حقوق البشر ومصادرة حريتهم وحياتهم والغاء افكار علي بالمواطنة على اساس الاخوة في الدين والمساواة في الانسانية والخلق ، نسمع تشريعات صبيانية مسيئة للمناسبة ورمزها مثل خرافات الحلوى وخرافات قرية هوزين في كاليفورنيا وخرافات اخرى تسئ الى الحسين اكثر مما تضاف الى ذكراه ومعناه.
من يتابع مواقع الانترنيت والفيس بوك سيجد كيف تحولت الذكرى التاريخية المريعة الى سخرية من قبل المغرضين والى استياء من قبل بعض العقلانيين والموضوعيين بسبب قراء منبر غير مؤهلين، استمعت الى احدهم قبل يومين وهو يكسّر اوزان قصائد قيلت في الحسين ويلفظ كلماتها بشكل غير صحيح يسئ لمعانيها، ويضيف روايات من عنده لا تراعي التسلسل الزمني ولا حتى المتعارف عليه من روايات. ومن حقنا ان نتساءل في ذكرى الحسين: من يؤهل مثل هؤلاء ومن يمنحهم اذنا او شهادة بتمثيل الحسين على منبره بهذه الطريقة؟
اذا قال احد ان هذه المناسبة لا تتناسب مع كلام مثل هذا فاني اقول ان هذه المناسبة وحدها هي الاجدر بان نعيد فيها الاتجاه للسير الصحيح في الطريق الى الحسين