تجتاح العالم الإسلامي، وخاصة العربي منه، حملة تصعيد طائفي، تتفاوت حدّتها من بلد لآخر، وتعكس آثارها على مناحي الحياة المختلفة لمعظم المواطنين.
الحملة التي يشترك في إذكائها المتشددون الدينيون من مختلف الأطراف، ويستخدمها السياسيون في صراعاتهم المحلية والإقليمية وحتى الدولية، تهدد بتشتيت القوى للمسلمين والعرب جميعاً، وتشغلهم عن مواجهة تحديات الإصلاح والتنمية والتطوير ومعالجة المشاكل المتعددة التي تواجهها الأنظمة السياسية في أبعادها المختلفة الأمنية والسياسية والتنموية. كما يهدد ما يمكن تسميته الإنفجار الطائفي كيان الأمة وتصديع صفوفها في سابقة هي الأسوأ في تاريخها، كونه يمتد على مساحة واسعة من الأرض، وينخرط فيها بشكل متزايد العديد من الأنظمة السياسية والأجهزة الإعلامية ورجال الدين والفتيا فضلاً عن العدد المتزايد والآخذ بالتوسّع من المواطنين أنفسهم. وهذا يؤدي الى تصاعد حدّة الكراهية الدينية، ليس فقط بين دولة وأخرى، بل حتى بين المكونات الإجتماعية للدولة العربية نفسها، فضلاً عن أن الأجيال الجديدة من العرب والمسلمين، وبسبب الصراع الطائفي الذي طال أمده، قد تتأثر سلباً في توجهاتها الدينية، وتتخلّى عن الإلتزام الديني كليّة.
لا أحد يستطيع أن يبرّيء نفسه من المساهمة في دوامة الصراع الطائفي، لا الانظمة السياسية، ولا المؤسسات الدينية في كل بلد، ولا النخبة المثقفة الدينية وحتى العلمانية، فضلاً عن مساهمة الأفراد العاديين الذين ينخرطون في الصراع مع هذا الطرف أو ذاك.
الصراع لا يستمر بدون وقود، وبدون حضور جبهتين، حتى وإن زعمت كل منها بأنها يعتدى عليها وأنها مستهدفة، وأن ما تقوم به مجرد رد فعل.
كان الصراع الطائفي فيما مضى أقلّ التصاقاً بالسياسة، وبالنظم السياسية، ما جعلت دائرة المنخرطين فيه محدودة. أما اليوم فقد أصبح الصراع الطائفي مادّة أساسية في الصراع السياسي بين النظم العربية والإسلامية المتنافسة على المواقع والنفوذ، كما أنه صار مادّة لتحصيل الشرعية المحلية لأنظمة فشلت في تحقيقها عبر البوابة الشرعية الدينية والديمقراطية. بمعنى أن الصراع الطائفي اليوم يبدو في مجمله كصراع سياسي يأخذ أبعاداً طائفية أو يتلفع بأثواب طائفية.
نحن أمام صراع طائفي مسيّس، يتم فيه استغلال حركات أصولية متطرفة، ووجوه دينية معتدلة وغير معتدلة، وتشارك فيه أجهزة دينية حكومية، وإعلام حكومي، وشخصيات حكومية، وأجهزة أمن حكومية، وبتأجيج وإشراف وتخطيط حكومي. لهذا كان لا بد أن يأخذ الصراع مدى أوسع مما كان عليه في الماضي، حيث كان الخلاف ضمن حدود ضيّقة من المهتمين بالصراع الطائفي، وضمن موضوعات قليلة وهامشية.
ما ندعو اليه كل الأطياف المذهبية هو التالي:
إبعاد الخلافات السياسية بين الأنظمة عن الموضوع الطائفي، وعدم استغلاله لتوسعة النفوذ السياسي، أو للإستقواء في المعارك السياسية، أو لحماية الأنظمة السياسية أو لتبرير عجزها وفشلها في الميدان الذي يجب ان تشتغل به، ملفتين الى الحقائق التالية:
أولاً ـ الخلاف السياسي يمكن حصره بين الأنظمة، أو بعضها، وهي خلافات قابلة للتجسير بالنظر للزوايا المصلحية، في حين أن الخلاف الطائفي يوسع دائرة الإختلاف السياسي ليشمل أنظمة بعيدة عن الفتن الطائفية من جهة، ومن جهة ثانية ينزله الى الجمهور، ويشترك فيه الجميع وبالتالي يصعب ضبطه.
ثانياً ـ إن الصراع السياسي على خلفية طائفية، يتفجّر داخل الكثير من الدول ذات التنوّع الطائفي. وهذا يعني أن المعركة الطائفية تجرّ النار الى داخل الدول ذات التنوّع ولا ينقلها الى الخارج، ما يسبب في تشظي المجتمعات العربية والإٍسلامية، وقد يقود الى حروب أهلية باسم الطائفة والمذهب وانتصاراً لهما.
ثالثاً ـ إن الصراع الطائفي وإن أخذ صفة مواجهة بين الشيعة السنّة، فإن الروح التي يخلقها روح مناكفة لا تقبل بالآخر ولا تعترف بالتنوّع، وبالتالي فإن الروح الطائفية التدميرية تفعل فعلها داخل المدارس المتعددة في كل مذهب.
رابعاً ـ إن الكراهية الطائفية لا تصنع أوطاناً، ولا تحمي مواطنين، ولا تنتج إلا حرائق رأينا الكثير من شررها في العراق والباكستان. وإن من مصلحة كل الأنظمة السياسية أن تهتم بوضعها الداخلي، وأن تدرك بأن استخدام الورقة الطائفية لا يحمل منفعة سياسية حتى في المدى المنظور، بل يقود الى انقسامات مجتمعية، بدل ان يكون هناك إجماع على أرضية وطنية.
خامساً ـ ما يفترض بالأنظمة ان تفعله من خير لنفسها ولشعوبها هو تقوية اللحمة الوطنية، وتعزيز الهوية الوطنية، وتوجيه الطاقات نحو البناء والتقدم، فهذا هو ميدان الصراع والتنافس، أو هو قاعدة لمن يريد أن يصارع نفوذاً إقليمياً أو دولياً، وليس عبر تمزيق الذات وطعن النفس بأفتك الأسلحة ضمن سياسة (التدمير الذاتي).
سادساً ـ إن الشيعة والسنّة من علماء ومفكرين ومثقفين مطالبون بوقف حملات الإسفاف الطائفي، وسحب صواعق التفجير من الجمهور الذي إن تطيّف يمكن أن يحرق الأخضر واليابس، وتعزيز لغة الحوار بين أبناء كل شعب، وتأسيس لغة مشتركة تفضي الى ضبط الخلافات وليس الغاءها، وضبط نوازع الشر وليس إنهاءها.