لندن / عدنان حسين أحمد
نظّمت مؤسسة الحوار الإنساني بلندن أمسية ثقافية للكاتب والإعلامي عبد الحميد الصائح تحدث فيها عن “الضوابط الذاتية في العمل الإعلامي”، وقد ساهم كاتب هذه السطور بتقديمه وإدارة الحوار بين المحاضر والجمهور. ركّز الصائح في مستهل محاضرته على عدد من الالتزامات من بينها “المحظور والمُتاح، والممنوع والنادر” من دون أن ينسى أن بعضاً من الإعلاميين يحدد هذه الالتزامات بحسب المعتقد والخيار السياسي كتأطير “للخطأ والصواب، والحلال والحرام، والمُلِّح والمؤجل” وما إلى ذلك من ثنائيات متعارف عليها نؤمن ببعضها ونطبّقها، ولا نؤمن ببعضها الآخر، لكننا قد نضطر إلى اتباعها والخضوع إليها على وفق المُلزِمات الخارجية والمُلزِمات الذاتية. وقد يتحول هذا “الإلزام الخارجي، كما يرى الصائح، إلى خيار شخصي يبرز فيه التناغم بين العام والخاص وبين الدرس والفطرة”. علماً بأن المنظومة القيمية والأخلاقية التي ترسخت عبر جهات غيبية أو محسوسة توارثناها واقتنعنا ببعضها على مضض، لكنها تحولت إلى منهج أو خيار شخصي في السلوك والتعامل اليومي. لا يعتبر الصائح فكرة الإِلزام العام والإلزام الذاتي اكتشافاً جديداً، لكنه يرى أنهما يكتسبان حساسية وغموضاً خاصين يفضيان في الأعم الأغلب إلى الالتباس بين “كون الإعلام مهنة وكونه رسالة ورأي ومواجهة تتصل بتاريخ صراع الإنسان وخضوعه للنظام” الذي يبدأ من نظام الغريزة ودوافعها، مروراً بقانون الجماعة، وانتهاءً بالدولة، وهو تاريخ حافل، كما يذهب الصائح، لأن هناك علماء وفلاسفة ومصلحين وثواراً دفعوا حياتهم ثمناً لكي تتحول هذه القيم الإنسانية إلى ضوابط ومعايير نهتدي بها سواء في حياتنا أم في عملنا الإعلامي والثقافي بشكل عام. أصرّ الصائح على ضرورة فكّ هذا الالتباس في بحث الإعلامي عن الحقيقة بهدف تحقيق الانتصار للنظام الإنساني على الحقيقة التي لا يمكن خرقها لاحقاً أو حتى التحرش بها مثل ابتكار الوقت، واكتشاف النار، وصنع العجلة، وتحديد حقوق الإنسان وواجباته في الخلية الاجتماعية. إن النظام في هذه الدنيا، من وجهة نظر الصائح، هو منهج يسهِّل وجودنا في الحياة على الرغم من عدم ثبات هذه المناهج لأن الحياة مقرونة دائماً بالتغيير، ولا تميل إلى الثبات كثيراً. يخلص الصائح إلى القول بأن أي نظام ذاتي قد يفضي إلى إنتاج قانون عام يتحول إلى خيار ومنهج له خصوصيته مٌذكِّراً إيانا بأن “هناك فلاسفة وعلماء أُعدموا من قبل سلطات شرسة لاكتشافهم ظاهرة طبيعية” لا تريد الاعتراف بهذه الاكتشافات التي قد تقوّض بعض السلطات السياسية أو الدينية، فيصبح العالِم شهيداً للحقيقة الملموسة التي اكتشفها! فكيف إذاً بابتكارات العلوم الإنسانية المتحركة والقابلة لأكثر من تأويل؟ كيف ستواجه هذه السلطات المُستبدة أفكاراً من قبيل الحريات العامة والخاصة، والدفاع عن حقوق الإنسان وكرامته وحقه في الوجود؟ لا يفرّق الصائح هنا بين عالِم اكتشف الجاذبية وقُتل بسبب ذلك، وبين صحفي نقل خبراً صحيحاً وقُتل مثل زميله العالِم لأنه يرى بأن “فكرة الدفاع عن الحقيقة والوصول إليها واحدة منذ سيدنا آدم ولحد الآن”.
يعتقد الصائح أن مهنة الصحافة هي محط إشكال في كل عصر ومع أية سلطة، فلا غرابة إذاً حينما نلمس “جدليات العام والخاص، الجاهل والعارف، الحاكم والمحكوم، المتسلّط والثائر، الحقيقة ومنْ يخشونها، وهم الخلود وواقعية الزوال”. فالخبر يظل في مواجهة “ثنائية الإيهام ونقل الواقعة” وقد عزز هذه المواجهة بعدد من الأسئلة الجوهرية من بينها: “ما مسؤولية الخبر؟ وما مسؤولية مُنتِجهُ؟ وما الذي يحق لنا إيصاله إلى المتلقي؟ وماذا يجب إخفاءه؟ ما الذي ننقله بالوصف والصورة؟ وما الذي نبحث عنه ورائهما؟ كيف ننشره ونذيعه؟ وما هو المحرّم من تداوله ولماذا؟ وما هو الخاص المُخترَق والعام المقدّس؟”. استشهد الصائح بمقولة جريئة ومهمة لمؤسس صحيفة “نيويورك تايمز” هنري جارفيس ريموند مفادها: “سننشر في صحيفتنا كل ما سمح الله بحدوثه في هذا العالم”، لكن الصائح يتساءل: يا تُرى، “هل تسمح القوانين السماوية والوضعية برؤية كل ما سمح الله بحدوثه؟” وهو سؤال جريء يخرق الفضاء الخاص للشخص والدولة والدين وحتى الوسائل التي تروم الوصول إلى أهدافها. يرى الصائح أن هذا “الخرق أشرف بكثير من تدخّل السلطة في تحريف خبر لأغراض سياسية أو تحريف يقوم به صحفي بهدف الإثارة أو بسبب الخوف أو سعياً للارتزاق”.
توقف الصائح عند آليتين مهمتين في العمل الصحفي وهما “الخبر والرأي”: الأول يتصل “بالمعلومة والواقعة والنقل الصريح”، والثاني “بإحاطة المعلومة والبحث فيما وراءها”. وهو يميِّز بين كلمتي “الإعلام والإخبار” فالإعلام، من وجهة نظره، هو خليط بين الخبر والخيال، ويرى بأن جملة “أُعلِمك هي غير أُخبِرك” على الرغم من أنهما تردان من مورد واحد. كما يرى في الإعلام حيزاً من التوجيه، لأنه مصطلح متحرك أكثر من الخبر الذي يمكن أن تلم بعناصره المجردة من الـ “Five Ws” وهي على التوالي: “Who, What, When, Where and Why” وأحياناً يُضاف لها: “How” وهذه الأسئلة الستة هي التي تحيط بعناصر الخبر من كافة جوانبه. ومثلما توجد سلطات يهددها التحليل والرأي فإن هناك مراكز يهددها الخبر نفسه، لذلك تعمد السلطات إلى إشهار ضوابطها وقوانينها ومحرماتها التي تحاول الحدّ من العمل الإعلامي والتي تتمثل بالثالوث المعروف “الدين والدولة والمجتمع” بأعرافه الشائعة التي تحدد ما الذي يجب أن يُقال، وما الذي يجب أن يُحجب! ولهذا السبب فقد ظل العمل الإعلامي يواجه سياط السياسة وقسوة أنظمة الحكم التي تفزعها المعلومة من جهة، و يهددها الرأي والتحليل من جهة أخرى.
ذكرَ الصائح بعض المواثيق وضوابط النشر والإعلام التي صدرت في العالم العربي مثل “ميثاق الشرف الإعلامي” الذي أصدرته الجامعة العربية عام 2009 الذي جاء بعد “ميثاق فيدرالية الصحفيين العرب” الذي أُنجز عام 1972، إضافة إلى قوانين العمل الصحفي والإعلامي وبعض المدونات الحكومية. كما توقف عند المقدمات الإنشائية التي تدعم الحريات لكنها لا تنسى التذكير بعبارات من قبيل “الأمن القومي، والإرهاب، وهيبة الدولة، والمصالح العليا للبلد، والآداب العامة” وما إلى ذلك من مصطلحات تبدو مقبولة في ظاهرها، لكن نوايا السلطة الحقيقية هو فرض القيود وتحجيم حرية العمل الإعلامي. ولهذا ظل الوصول إلى المعلومة في عالمنا العربي من أبرز الحقوق المُصادرة في مجال الحريات الصحفية.
أحاط الصائح بغالبية الضوابط الذاتية للمؤسسات الإعلامية المحترفة وللسلوك المهني للعاملين فيها وهي ما يلي:”حق الصحفي في الوصول إلى مصادر الخبر، فصل الخبر عن الرأي، الموضوعية، دقة المصادر، عدم استخدام الوسائل غير المشروعة في الحصول على الخبر و الصورة، احترام الكرامة الانسانية، عدم استخدام كل ما يحرِّض على العنف والإباحية وخرق الخصوصيات في السياسة التحريرية صورة ولفظاً وتلميحا”. كما توقف عند بعض جزئيات العمل الصحفي مثل “التعامل مع رسائل القرّاء، و الهدايا التي يتقاضاها الصحفي لقاء عمله”. ويرى الصائح بأن الإعلام العربي ظل لوقت طويل إعلاماً للسلطة ولا يأبه بهذه الضوابط، لكنه يعتقد بأن “قناة الجزيرة” هي أول مؤسسة عربية أصدرت عام 2004 “ميثاق شرف مهني لقناة خاصة” تدعي أنها لا تتبع دولة معينة ولا تخضع لنظام حكم محدد، وتمنى الصائح على الجمهور أن يحكم على أداء هذه القناة ومدى التزام العاملين فيها بمحتويات هذا الميثاق، وهل خضعت لسلطات خارج مناخ الاستقلالية والمهنية أم لا؟
تساءل الصائح في معرض حديثه: “هل بإمكان أية مؤسسة إعلامية تتمول من دولة أو جزب أو جهة معينة أن تلتزم بالضوابط المهنية المُشار إليها سلفا؟” وكانت إجابته على هذا التساؤل المنطقي بأن هناك شرطين أساسيين لحماية الضوابط الذاتية وهما “الاستقلال المادي” و “الحماية القانونية”، وضرب مثالين على الاستقلال المادي، الأول يتمثل بقناة الـ “بي بي سي” التي تموِّل نفسها من الضرائب التي تُجبى من الشعب البريطاني، و “قناة البغدادية” التي تُموّل من قبل شركات عامة لا تتبع لحزب أو دولة أو جهة محددة بعينها. أما الشرط الثاني فهو “الحماية القانونية” التي يجب أن يوفرها القضاء ويحمي الإنسان العادي من تعرضه للانتهاك فالقانون، مثلاً، لا يسمح بنشر صورة لمواطن من دون إذنه، وأن بإمكانه أن يقيم دعوى ضد هذه المؤسسة أو تلك ويكسب الدعوى التي رفعها، لكن الصائح ذكر بأن هذه القوانين غير مفعّلة في بلداننا العربية على الرغم من أن القوانين جميعها تؤكد على حماية الناس ولا تسمح بانتهاك حقوقهم الشخصية والعامة. واستشهد بما قامت به صحيفة “نيوز أوف ذي وورلد” التي يملكها روبرت مردوخ التي استعملت محققين يقومون بالتنصت على المكالمات الهاتفية لطالبة تعرضت للاعتداء الأمر الذي يهدد الصحافة البريطانية ويضعها في موقف لا تُحسد عليه، لكن القانون البريطاني قوي بما فيه الكفاية ولا يسمح باختراقات من هذا النوع.
عرّج الصائح في محاضرته على التجربة العراقية التي شهدت هياجاً مفاجئاً في إنشاء المؤسسات الإعلامية وتوقف عند مؤتمرين إعلاميين، الأول أُقيم في عمّان عام 2009، والثاني في إستانبول عام 2010 وقد طرح فيه المشاركون أفكاراً مهمة تتعلق بالمسؤولية الإعلامية والضوابط الذاتية في العمل الإعلامي، وأصدروا ميثاق شرف للالتزام بهذه الضوابط المهنية والأخلاقية، لكنهم حينما عادوا إلى مؤسساتهم الإعلامية لم يعملوا بهذه الضوابط التي تتعلق بـ ” الانحياز، والانتقائية في الخبر والتحريض الطائفي” وما إلى ذلك. يعزو الصائح سبب هذا الخرق للضوابط الذاتية والمهنية إلى ثلاث نقاط أساسية وهي: عائدية المؤسسة الإعلامية للدولة أو الحزب اللذين يحددان السياسة التحريرية بنظام صارم يفرض الدعاية للأشخاص أو للفعاليات الحزبية أو الحكومية الضيقة، وهيمنة الرقابة الناجمة عن فعل الخوف الذي يتعارض مع مهمة الصحفي وأمانته في إيصال المعلومة للرأي العام، والتمويل الخارجي الغامض القادم من العالم العربي أو الإسلام بهدف تكريس نفوذه، وتمرير سياساته الخارجية، وقد وصفه الصائح بأخطر أنواع التحكم الذي يهدد العراق حالياً وينخر في بعض مؤسساته الإعلامية. ختم الصائح محاضرته بالقول إن مهمة الإعلام في العراق هي مهمة صعبة تتمثل بالحفاظ على حماية الدولة والسلم الأهلي. وهو يرى أن هناك جهات مجهولة تمجِّد العنف، وتستند إلى طائفية رخيصة ومقيتة تهين جميع العقائد وتحولها إلى معابر للأهداف الشخصية، هذا إضافة إلى الفساد المروّع وغير المسبوق في تاريخ الشعوب الأمر الذي يجعل العراق بحاجة ماسة إلى إعلام حر مخلص ونزيه يضع جميع مكونات وأطياف الشعب العراقي أمام ناظريه. وتأكيداً لخطورة المهنة الإعلامية اختتم المُحاضر حديثه بمثلٍ شائع في عالم الصحافة والإعلام مفاده: أنّ “خطأ طبيب قد يقتلُ شخصاً، لكن خطأ الصحفي قد يُشعل النار في أمة برمتها”.