29-05-2013 –
عدنان حسين أحمد –
نظّمت مؤسسة الحوار الإنساني بلندن أمسية ثقافية للدكتور فالح عبد الجبار تحدث فيها عن “الربيع العربي من وجهة نظر العلوم الاجتماعية” وقد ساهم في تقديمه وإدارة الندوة كاتب هذه السطور. استهل عبد الجبار حديثه بالقول إن الموضوع الذي سأتحدث فيه هو تلخيص لورقة بحث كتبتها ونشرتها في تونس والكويت. تتمحور الفكرة العامة للربيع العربي على فكّ الأنظمة الاستبدادية وتحويلها إلى أنظمة ديمقراطية. ذكر المُحاضر بأن هناك نظريات ومقاربات في العلوم الاجتماعية توضح أسباب حدوث الديمقراطية ونجاحها، وهناك مقاربات أخرى تبيِّن أسباب فشل الديمقراطية هنا أو هناك. وعندما نأخذ هذين النمطين نجد أنفسنا في مواجهة ما أسميته في أحد الكراريس عن العراق بـ “الديمقراطية المستحيلة”. توقف المحاضر عن ثلاث نظريات تعالج هذا الموضوع من وجهة نظره وأبرزها نظرية عصر الحداثة، أي العصر الصناعي أو الرأسمالي، قد شهد بروز ثلاث طبقات صناعية جديدة، كما شهد انتقال إنتاج الثروة من ضيعة الإقطاعي إلى بنوك الرأسماليين والصناعيين والتجار، وشهد أيضاً حلول العلم محل الفكر الديني، كل هذه التطورات أطلق عليها الباحث اسم مرحلة الحداثة أو العصر الحديث التي أدت إلى كسر الأنظمة الملكية المطلقة في إنكلترا وفرنسا ومنها إلى غالبية البلدان الأوروبية. أو هكذا يدعي أليكسيس دي توكفيل
(Alexis de Tocqueville) بأن روح العصر قد تكونت في أوروبا.
أشار المُحاضر في مقاربته الثانية إلى ظهور بعض الدراسات في القرن العشرين التي تمتلك تنويعاً على فكرة الديمقراطية ونشأتها مثل كتاب شهير لبارنغتن مور جونيور(Barrington Moore Jr ) اسمه “المنابع الاجتماعية للدكتاتورية والديمقراطية” نظريته أو مقاربته بسيطة جداً تقول: “إن وجود طبقة وسطى يساوي ديمقراطية” وأخذ عدة نماذج من بينها الهند ودرس علاقات الطبقات ملّاك الأرض والفلاحين والطبقة الوسطى وعمال المدن والتوازنات بينها، هي التوازن المنشود الذي يساوي الديمقراطية، والتوازن الذي تنتصر فيه الطبقة الوسطى وتكون طبقة قوية. أما المقاربة الثالثة فهي لباحثة أميركية اسمها ثيدا سكوجبول (Theda Skocpol) صاحبة كتاب (الدول والثورات الاجتماعية: دراسة مقارنة لفرنسا وروسيا والصين) تعتقد سكوجبول أن الانتقال إلى الديمقراطية ليس فقط ديناميكية العلاقة بين الطبقات وإنما تكون الدول فاعلاً أساسياً فيها، فالدولة كجهاز مستقل عن المجتمع ولديها مواردها، أي أنها تعتقد بفكرة الدولة القوية والدولة الضعيفة وربما تكون أبرز مقارنة عند طلاب التاريخ الحديث في أوروبا هي المقارنة بين الدولتين الإنكليزية والفرنسية، فالدولة الإنكليزية كانت ضعيفة في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وجهازها الإداري قليل، وقدرتها على جمع الضرائب محدودة لأنها جزيرة معزولة وتحتاج إلى جيش كبير ودائم، ثم أن القوى والطبقات والجماعات التي تحاول أن تهدم سلطة الدولة وتفكّها باتجاه الديمقراطية تكون سهلة قياساً بفرنسا، ذلك لأن فرنسا بلد بريّ فيه نظام شديد المركزية، ولديه جهاز إداري عرمرم وجيش كبير يدافع عن الدولة. خلص المُحاضر إلى أن الدولة القوية تمنع أو تؤخر نشوء الديمقراطية وهذه هي الفكرة العامة لهذه المقاربة.
نوّه الدكتور عبد الجبار غير مرة بأن اختار هذه المقاربات الثلاث اعتباطاً ويمكن لباحثين آخرين أن يختاروا مداخل أخر. ثم تساءل قائلاً: أين هي الطبقة الوسطى العربية وبالذات في العراق؟ إنها عبد للدولة! كل الإحصائيات عن الطبقة الوسطى خصوصاً الحديثة منها التي هي بائعة للمعرفة ليست مالكة للأصول أي للرساميل أو الأراضي أو العقارات، فالطبقة الوسطى هنا هي عبارة عن مجموعة موظفين تابعين للدولة، وعبادة الدولة هذه تجدونها في المنطقة العربية عند الإسلاميين والقوميين والماركسيين لأنه من هذا الوسط كما يعتقد المُحاضر وربما يكون خاطئاً كما ذكر، لكنه يستنتج بأن الطبقة الوسطى هي أضعف ما تكون عليه في عموم البلدان العربية، هذه البلدان التي تجمع بين السلطة السياسية والسلطة الاقتصادية، وحتى لبنان الذي كان يتصوره المحاضر بأن فيه نوعاً من الرأسمالية الخاصة، أي فيه اقتصاد سوق، تكتشف أن كل سياسي عنده قطاع اقتصادي ويستعمل سلطة الدولة لبناء هذا القطاع، كما يستعمل هذا القطاع لبناء سلطة الدولة. فحينما يصبح س من الناس وزيراً للمواصلات يحتكر الفضاء، ويأخذ عمولات على الهواتف النقالة، وهذا الاندماج بين السلطة السياسية والاقتصادية يضعف إمكانيات الطبقة الوسطى واستقلالها عن الدولة، بل بالعكس يصبح الصعود الاجتماعي لهذه الطبقات كله مرهون بالدولة، وهذا يعني أن الدولة هي البقرة المقدسة أو الدجاجة التي تبيض ذهبا.
تساءل المحاضر عن العصر الصناعي الذي دخلناه؟ أين هو ولماذا لم نلجه أسوة بالآخرين؟ فالعالم شهد ثلاث ثورات صناعية متتالية وصولاً إلى عصر الأتمتة، بينما لانزال نحن على الضفاف وخارج عن هذا العصر بمعنى من المعاني. أشار المحاضر إلى أن الدولة العربية هي دولة شرسة ونشوءها في المنطقة سابق لنشوء المجتمع الحديث وهي التي خلقت المجتمع الحديث بفعل حاجاته.
يرى المحاضر بأن التاريخ العربي والإسلامي في فترتيه العثمانية والقاجارية قد شهد أول انطلاقة تحديث من موظفي الدولة الذين أسسوا وزارات مثل وزارة العدل، وأنشأوا الجيوش، والجيوش تحتاج إلى مهندسين ففتحوا فرعاً للهندسة، والأراضي تحتاج إلى تقنين ففتحوا كلية للحقوق في العراق عام 1908، بينما في إستانبول كانت كلية أسبق من ذلك. فالحاجة إلى جهاز إداري وجيش دائم حفز على خلق طبقات جديدة من الضباط والمهندسين والإداريين والمحاسبين. هذه الفئات لم تكن موجودة وهي تعتمد على العلم الحديث، وكانت نويات أو بدايات الطبقة الوسطى. المهم الدولة الحديثة سابقة لنشوء المجتمع الحديث وبالتالي فهي أقدم منه، وبمعنى ما فهي أقوى منه بفعل هذه الأسبقية وبفعل عوامل أخرى وعلى رأسها هذا الاندماج الشديد بين السلطة السياسية والسلطة الاقتصادية، دولة كانت مالكة لكل القيعان والأراضي، والإقطاعيون مالكون للأراضي، فالإقطاعات تخرج من الدولة على امتداد التاريخ الإسلامي وهي مشكلة كبيرة لم تحل إلاّ في الخمسينات. وكل هذه المعطيات تقول لنا ما يلي: إن كل المقاربات الفكرية والنظرية بالعلوم الاجتماعية التي تفسِّر نشوء الديمقراطية تقول لنا أنه هذا محال في المنطقة العربية. وحينما نقلب المعادلة في أوروبا والتي هي مهد الديمقراطية فقد انهارت الديمقراطية في عدد كبير من البلدان. ويرى عبد الجبار أن سبب فشل الديمقراطية يعود إلى ثلاثة عوامل وهي الاختلال الشديد في توزيع الثروة بين الطبقات، وهذا الاختلال يعطي فكرة الأولوية لهذه المساواة على فكرة الحرية والمثال الأكبر روسيا أو نظام العالم المنظّم في وحدات نسميها دولة قومية، وأن اختلال التوازن بين هذه الوحدات، دولة قوية وأخرى ضعيفة، وهذه الدول تحتاج إلى أسواق. إن احتلااب هذه الدول واختلال موقع الدولة كأمة والأمة كدولة في هذا النظام يعطي الأولوية للأهداف القومية على فكرة الحرية وربما تكون إيطاليا وألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى هي أكبر مثال على نشوء النازية والفاشية. كما أن فكرة التطور والاستقلال هما أيضاً مسألة قومية. فالاستقلال يُعطى له الأولوية والحاجة إلى إنشاء نظام يقوم على الحريات والديمقراطية وكل هذه العوامل هي موجودة لديهم، أما في بلداننا فهناك اختلال في توزيع الثروة.
يعتقد المحاضر بأن بلداننا العربية قد انشغلت طويلاً بقضية العدو الخارجي والإمبريالية، وهم يعتقدون أن لا شيئ بالداخل، فالبيت العربي نظيف، لكن الوسخ يأتي من الخارج. وقضايا الاستقلال هذه مندمجة مع بعضها بعضاً فكلما أحبطت أدت إلى سقوط نظماً ديمقراطية قسم منها عريق وليس ضعيفا. هذه العوامل جميعها بحسب رأي المحاضر تدع الإنسان يفكر بهذا السؤال الجوهري: هل أن الربيع العربي يفتح الطريق فعلاً إلى الديمقراطية أم لا؟يرى المحاضر أن المقاربات النظرية للعلوم الاجتماعية محدودة ويجب توسيعها حتى تشمل الحالة العربية وهذا هو الاحتمال الأكبر، أما الاحتمال الثاني فهو أن نقلِّص من آمالنا وطموحاتنا وأن نعتقد بأن هذا ليس تطوراً وإنما هو مرحلة انتقالية وهلامية لا نعرف ماهيتها.
أشار المحاضر بأنه يعاني من هذه المشكلة التي أخذت تشغله منذ بداية الربيع العربي وحتى اليوم، وأنه لا يمتلك إجابة لهذا السؤال. ولكي نفهم ملامح الربيع العربي لابد لنا من الكفّ عن معالجته كربيع عربي واحد لأن هناك أربعة عربية متعددة. ويرى المحاضر بأننا يجب أن ننظر إلى المنطقة العربية على أنها مجموعات أو عناقيد، صحيح أن هناك مشتركات ثقافية ودينية وقبلية، ولكن حينما نتحدث عن المجتمع والدولة وتنظيم العلاقة بينهما فلابد أن نأخذها على أساس المجموعات المشار إليها سلفا. فالعنقد الأول هو الدول السلطانية التي تحكم بها أسرة مالكة تعتمد على التراث والتقاليد والدين كما هو الحال في منطقة الخليج العربي والأردن، ومجموعة الدول التسلطية أو حتى التوتاليتارية كالعراق وسوريا وتونس والجزائر، ومن بين هاتين المجموعتين السلطانية والتسلطية نشأت المجموعة الثالثة خلال السبعينات والثمانينات وهي مجموعة الإصلاح الجزئي كما هو الحال في الكويت واليمن والأردن التي حدثت فيها إصلاحات بعد التسعينات وكذلك المغرب وتونس التي شهدت بعض الإصلاحات وسمحت بقدر من التعددية الحزبية والاستقطاب والانفتاح الجزئي على الرغم من التلاعب بالعمليات الانتخابية وسطة أجهزة الأمن.
يعتقد المحاضر بأن حركات الاحتجاج قد انطلقت في المجموعة الثالثة بالذات وهذا الأمر يدفعنا للتساؤل وتوجيه أنظار البحث لهذه المجموعة تحديداً وانتقلت منها إلى الدول السلطانية والتسلطية بوقت مبكر مثل ليبيا، وكان يمكن أن تفشل لولا تدخل الحلف الأطلسي ثم انتشرت إلى دول سلطانية مثل عُمان والسعودية والبحرين، وهذه الأخيرة من بلدان الإصلاح الجزئي، لكن حركتها الاحتجاجية قد قُمعت بسبب وجود جارين، أي يجب أن لا ننسى العامل الخارجي في التحليل.
طرح المحاضر سؤالاً جوهرياً مفاده: لماذا نشأت حركات الاحتجاج أو اختمرت ونضجت في بلدان الإصلاح الدستوري؟ وما الذي حصل في المجتمع أو في العلاقة بين المجتمع والدولة ؟ وما الذي حصل في الثقافة السياسية أو في منظومة القيم السائدة؟ والجواب هو: هناك أشياء حصلت في هذه الدول بدرجة أكبر من حصولها في الدول الأخرى، وهذا الفارق الكمي هو الذي أدى إلى هذا التحرك. وهذا الاستنتاج هو مجرد فرضية لأنني أتحدث بفرضيات وليس قرآناً منزلاً، وحتى القرآن فيه فرضيات للمناسبة. القضية الأولى التي لاحظها المحاضر أن هذه البلدان تونس ومصر وإلى حد ما اليمن كانت لا تكترث بالمسألة القومية كثيراً وأن مسألة الإمبريالية وإسرائيل كانت في أدنى نقاطها في البلدان المذكورة. لقد نشأت النزعة القومية واستمرت كلها باتجاه الخطر الخارجي الذي يعطي مبرراً لقضم الحريات، وسرية المعلومات وما إلى ذلك، علماً بأن توجه النزعة القومية للخارج عطّل فعلها الداخلي، هذا الفعل الذي لن يُستثار مرة ثانية ما لم يحيّد الفعل الأول أو يخفّ بدرجة أو بأخرى. يعتقد المحاضر بأنه الآن لا أحد يتحدث عن قضية الصراع العربي الإسرائيلي باستثناء الإسلاميين المؤدلجين من الإخوان، وحتى السلفيون لا ينحدثون بهذه القضية، وهذا يعني أننا أمام تحول بالثقافة السياسية أن عيوننا بدأت تتطلع نحو الداخل وليس الخارج. لا يرى المحاضر ضيراً في أن تفكر المجتمعات العربية بعدو خارجي، ولكن ليس إلى الدرجة التي تنسى فيه حالها، كما تنسى حسنات الخارج. فمن عمل النظام الإداري والاقتصادي والبريد والمواصلات؟ أليس الإنكليز؟ وإذا كان اعتراضنا على نهب ثرواتنا من قبل الشركات الأجنبية فلقد خرجت الشركات وانتهى الأمر. لقد كان هذا التحول على اشدجه في مصر وتونس واليمن. لقد حدث في بلدان الإصلاح الجزئي نوعاً من الاستقرار النسبي وغياب الانقلابات ووجود التوازن المعقول الأمر الذي اسفر عن نشوء جيل غير مؤدلج، وهؤلاء الشباب هم الذين قادوا التغيير في مصر، ولو كانوا مؤدلجين لفشل التغيير ربما، بل أن بعضهم كان من أبناء ذوات مصر حيث كانوا يأتون بسياراهم الفارهة إلى ميدان التحرير. للمناسبة أن ألبو عزيزي الذي أحرق نفسه هو خريج جامعة، وليس شخصاً عادياً، أي أنه واحد من البروليتاريا المتعلمة نعليماً حديثاً بمقاييس المجتمع الآن. الشيئ الثالث أن هذا الجيل هو الأكثر تماساً بوسائل الاتصال الحديثة التي تعتبر المحرض الأكبر على الاحتجاجات لأنه كانوا على تماس مباشر مع العالم الخارجي الأمر الذي أدى إلى كسر احتكار المعلومة من قبل هذه الأنظمة، فعندم تقرف من إذاعة صوت العرب تستمع إلى لندن، وحينما تسأم من إذاعة لندن، تتجه إلى إذاعة طهران، وحينما تمل من إذاعة طهران تقصد إذاعة روسيا. توقف المحاضر عند احتكار المعلومة التي كانت معلّبة ومحددة وتفتقر إلى هذه الديناميكية التي نراها الآن، فكل فكرة يجب أن تثبت نفسها في سوق الأفكار لأنها أمام منافسة شديدة. فالمعرفة، كما هو معروف، سلعة سريعة العطب، وإذا لم تدافع وتقدّم البراهين على نفسها فإنها تضمحل أو تموت. لقد ازداد عدد مستعملي الإنترنيت في مصر إلى (23) مليون نسمة من أصل (80) مليون، وفي إيران بلغ عدد مستعملي الإنترنيت إلى (28) مليون نسمة، أما في العراق فنحن في ذيل القائمة، كما أننا نفتقر إلى الإحصائيات الدقيقة. المهم في هذه الانعطافة أن المواطن المحلي قد أصبح على حين غرّة مواطناً كونياً لأن الإنترنيت هو محرر العقول وأداة مهمة لإيصال أصوات الناس في كل مكان، بل أنه فتح الأفكار على بعضها بعضا، وكسر احتكار المعلومة وهذه مسألة خطيرة جداً في بلداننا العربية المحتكرة للمعلومات. لقد توسعت في بلدان الإصلاح الجزئي الطبقات الرأسمالية على الرغم من تحالفها مع السياسيين قادة الدول وأصبح لديهم قدراً من الاستقلالية بالقياس إلى بلدان عربية أخرى.
استذكر المحاضر كتاباً كان قد قرأه في الثمانينات يحمل عنوان (منْ يملك مصر؟) للباحثة سامية سعيد وهو عبارة عن دراسة تحليلية للأصول الاجتماعية لنخبة الانفتاح الاقتصادي في المجتمع المصري(1974-1980) وكتاب آخر لأحمد مرسي لا يمكنك أن تصدق المعلومات الواردة فيه ففي نهاية الكتاب قائمة بأكبر خمسين شخصية مع رساميلها وبالأسماء الصريحة مثلاً محمد حسني مبارك يقابله الرقم خمسمائة ألف جنيه، السادات وأسماء أخرى معروفة، هذه الطبقة لديها مصالحها وهي تربح من تحالفها مع الدولة الكثير. هناك العديد من الناس يتصورون أن الليبرالية الاقتصادية تساوي الليبرالية السياسية وهذا غير صحيح فالليبرالية السياسية يمكن أن تقود الاقتصاديين إلى تحالف مع الدولة الشرسة مثلما حصل في ألمانيا أيام النازية فإذا كان هناك خطر عمالي فما الذي تفعله بالديمقراطية إذا كانت تفضي إلى نزعات فوضوية. فليس كل ليبرالية سياسية بالضرورة ليبرالية اقتصادية وهذه هي الطامة المودة عندنا في المنطقة العربية، فدلع وسط اليسار لا يريد قطاع خاص لأنه رجعي، وإنما نريد دولة مالكة. لا ديمقراطية بدون اتصال سلطة الاقتصادي مع السلطة السياسية. بمعن آخر نحن نريد ليبرالية سياسية قاعدتها الاقتصادية هي القطاع الخاص وهذه واحدة من أكبر أخطاء اليسار وواحدة من مقوضات توسيع الديمقراطية بالعراق وغير العراق.
يرى المحاضر بأن هناك خلطاً بين السياسة الاجتماعية التي تخدم الناس، وتقدم لهم ضماناً اجتماعياً، وتعويضات وما إلى ذلك، بمعنى عمل لا تحتاج فيه أن تكون الدولة مالكا. فعندما تكون الدولة مالكا فهذا يعني أن البيروقراطية مالكة، أي أن 20 أو 30 موظفاً يتصرفون بـ (120) ملياراً، وهذه مشكلة كبيرة في المنطقة العربية لذلك فعندما نتحدث عن نمو الطبقات الوسطى المالكة واستقلالها النسبي الذي حصل ببلدان الانفتاح التي نشأ بها الربيع العربي نتحدث عن عامل مهم وجوهري وله تأثير كبير. إذاً، إلى أين نحن متجهون؟
يعتقد المحاضر أننا نمر بمرحلة انتقالية سيئاتها كثيرة، لكن واحدة حسناتها أن الذين وصلوا إلى السلطة من الإسلاميين والسلفيين قد جاؤوا عن طريق صناديق الاقتراع، ولم يأتوا عن طريق الإنقلابات العسكرية. صحيح أنهم ليس لديهم شرعية ثورية، ولا شرعية سماوية أو أرضية إلا شرعية صناديق الاقتراع وأن إلغاء هذه الشرعية سيقوض أساس وجودهم بالحكم. والشيئ الثاني الحسن أن هذه المجتمعات بدأت تستكشف قوتها وقدرتها الذاتية، وهذه مسألة مهمة جداً لأنك لا تنتظر زعيماً مثل عبد الناصر لكي يفجِّر لك ثورة، أو يبني لك السد العالي، أو يحارب الاستعمار، ويطرد الإنكليز، ويصنع لك السوبرمان الخارق. لقد انتهت كل هذه المظاهر الآن، فحينما يخرج مرسي على شاشة التلفاز يعتبره المصريون موظفاً رسمياً يؤدي خدمة ويتقاضى جراءها راتباً شهرياً لا غير. أما قضية الزعيم المؤلّه بالعراق أو الزعيم الإلهي في إيران فهذه الشرعيات التي صنعت نفسها بنفسها كان لها كاريزما وتأثير كبير في وقتها، لكننا بتنا نسخر منها الآن بعد أن انتهى وقتها، فالكاريزما التي تحدث عنها ماكس فايبر تحولت إلى روتين لأن الزعيم الإلهي أصبح موظفاً عادياً يذهب ويتلاشى حينما تنتهي دورته الانتخابية المقررة.
يرى المحاضر أن المنطقة العربية تتجه نحو فكّ النظام القديم، وعملية التفكيك لا تعني بناء ديمقراطية بالمعنى الذي نعرفه وهذا رأي الدكتور فالح عبد الجبار الشخصي لأنه يرى بناء الديمقراطية عملية مديدة ومتعرجة، ولكن لسوء حظنا أن العراق يسير بالاتجاه المعاكس. فبعد مجيء الأميركان الذين فككوا البلد أخذ النظام السياسي الجديد يتجه نحو المركزية التي تزداد شدة يوماً بعد يوم وأحد عوامل هذه المركزية هي نقود العائدات النفطية، فالرئيس الذي هو موظف على قمة الدولة تحت تصرفه (120) مليار دولار سنوياً بدأ يوزع المكرمات التي هي بالأساس نقود الأمة، فالنفط هو مِلك للأمة في العراق وليس مِلكاً لأحد أو للشركات. وعندما تتولى الدولة توزيع هذه النقود تصبح مكرمات مثل مكرمات صدام، ويبدو أن سايكولوجيا المكرمات ما تزال قائمة ومستمرة. نبّه المحاضر إلى أن الجهاز الإداري في عهد صدام كان مليون وربع المليون، والجيش كان نصف مليون، بينما كان نفوس العراق (20) مليوناً. لقد أصبح نفوس العراق الآن (30) مليوناً بينما أصبح الجهاز الإداري والعسكري خمسة ملايين، وهذا يعني أن العدد قد تضاعف مرتين ونصف المرة. وهذا مجرد وصف للكارثة. وربما تكون الحسنة الوحيدة لهذا الوضع، كما يراها المحاضر، أن هيمنة الدولة على ثروة النفط واعتماده مرجعاً وحيداً لإدارة حياة المجتمع ليس لها مستقبل، وهذا هو الشيئ الجيد في العراق لأنه يحفزنا لأن نفكر بالفكاك من هيمنة الدولة الاقتصاد، ولا يمكن إدامة الاقتصاد بواسطة الريوع النفطية.
ذكر المحاضر بأن لدى العراق (420) مؤسسة صناعية معطّلة منذ فترة الحصار الاقتصادي ولحد الآن علماً بأن عدد موظفيها يقرب من المليون موظفاً يتقاضون رواتباً ولا يؤدون عملاً بالمقابل. الغريب أن الإسلاميين الذين كانوا قبل 2003 يتشكون من امتلاك الدولة للقطاع الخاص، لكن حينما وصلوا إلى السلطة انقلب موقفهم رأساً على عقب وصار امتلاك الدولة لهذه الأصول مقدساً بعد أن كان مدنساً. قد يسأل سائل: لماذا؟ الجواب لأن طبقة الموظفين، الطبقة الوسطى، طبقة المهندسين، وبياعين المعرفة والمعلومات ليسوا مالكي أصول، علماً بأن مدخل الدولة الوحيد للصعود الاجتماعي هو مراكمة الثروة عبر الفساد.
أشار المحاضر إلى أن العراق كان متوقعاً أن يصير بلداً نفطياً كبيراً، وهذه للأسف الشديد، فكاهة حزينة، فالعراق سياسياً يسير باتجاه معاكس للربيع العربي الذي يفك النظام السياسي، بينما في العراق يغلقه. يحاول الربيع العربي فكّ السلطة الاقتصادية عن السلطة السياسية، لكن ما يحدث في العراق هو دمج هاتين السلطتين وهذه عملية لا يمكن أن تستمر رغم أن الصراع دائر على أسس طائفية وهناك شعور بالحصار لأن غالبية البلدان المحيطة بالعراق سُنية، بينما تهيمن في العراق غالبية شيعية. هذا ما يدور في أذهان صانعي القرار السياسي ولكنه لا يمكن أن يستمر لأنك في النهاية لا تستطيع أن تطعم الناس كلاماً، فالدولة في خاتمة المطاف هي المسؤول عن كل شيئ بدءاً من نظافة الشوارع وانتهاءً بحماية الحدود وما بينهما. وبعض هذه المهام لم يكن من وظائف الدولة سابقاً. ختم الدكتور فالح عبد الجبار محلاضرته بالقول: “إن العراق مقبل على طريق مسدودة، والمنطقة مفتوحة على احتمالات متعددة، لكن متى يحدث التصادم الكلي؟ ربما بعد سقوط بشار الأسد والله أعلم. بعد انتهاء الدكتور فالح عبد الجبار من محاضرته أجاب على ععد من أسئلة الحاضرين الذين أثروا المحاضرة بآرائهم ووجهات نظرهم في الأربِعة العربية.