د. فالح عبد الجبار –
حركات الاحتجاج العربية المتواصلة منذ كانون الأوّل/ديسمبر 2010، بوتائر وأشكال مختلفة، تندرج عموماً في إطار عام هو إطار التحوّل الديمقراطي، المقطوع منذ خمسينيات القرن الماضي.تمهيد: في عموميات بناء الأمة وتكوين الدولةتشكّل حركات الاحتجاج موضوعاً للدراسة من منظورات شتّى العلوم الاجتماعية، تتنوّع بتنوّع المقاربات. لكن هذه الورقة تعاين حركات الاحتجاج العربي ذات الأهمية التاريخية، بمقاربة خاصة تتعلق بمشكلات الاندماج الوطني (National Integration)، أو ما يعرف بتحديد أدق: مشكلات بناء الأمة (Nation-building). فحركات الاحتجاج عموماً التي خبرتها الرقعة العربية كانت تنصبّ على عدو خارجي، وهي بهذا تعبّر عن وحدة الأمة. أما حين ترتد إلى الداخل، فإن ذلك يعني وجود خلل في النظام السياسي، أي في الدولة، كممثل للأمة، أياً كانت طبيعة هذا الخلل. الحرب مع الآخر تقتضي وحدة الأمة في الدولة. أما الثورة، فتنطلق من انقسام الأمة إزاء الدولة. وبهذا المعنى، ثمة انقسام داخلي عربي، يتأثر بعملية بناء الأمة ويؤثر فيها. وبهذا المعنى أيضاً، فإن ثمة مشكلة في البناء الأيديولوجي، ذلك أنَّ النزعة القومية (أو الوطنية، إن شئتم) تتميّز بمسارين: دمج كلّ الأفراد الذين يتميّزون بمعلم قومي واحد (سيان إن كان قائماً على اللغة أو الدين أو العرق) في إطار الجماعة القومية، لكن هذا الإدراج نفسه يعني استثناء أو إقصاء كلّ الأغراب الذين لا ينتمون إلى هذا الحقل. من هنا تركيز النزعة القومية على الوحدة والتجانس داخلياً، وعلى الإقصاء والمواجهة خارجياً. ومن هنا أيضاً الميل إلى التعبئة الدائمة ضدّ الآخر، الأجنبي، الغريب، وهي تعبئة سادت المنطقة العربية طويلاً في ظلّ ظروف العدوان والنهب الخارجيين.وإذا كان لهذا المظهر من النزعة القومية، خصائصه البنائية في الدفاع عن الجماعة القومية، فإن له مظهره التدميري في وأد أي خروج على الإجماع المفترض في حال تطلّب اختلال النظام السياسي مثل هذا الخروج، أي الاعتراض.لقد اعتاشت النظم السياسية الاحتكارية طويلاً على توجّه النزعة القومية إلى الخارج، ومنعها من التوجّه نحو الداخل، رغم أن تلازم البعدين ضروري لحيوية بناء الأمة، وتفاعلها مع تكوين الدولة، وتناغم الاثنين، الضروري لأي تطور عقلاني.بناء الأمة هو، من وجهة السوسيولوجيا السياسية، تحقيق الأمة في كيان سياسي، ومن دون هذا الأخير تبقى الأمة مجرد صبوة سياسية – أيديولوجية، محض كيان ثقافي بلا جسد سياسي. ونلاحظ أنَّ العلوم الاجتماعية تستخدم مفهوم الأمة – الدولة (Nation-state)، للتعبير عن هذا التلازم.وإذا كان الافتقار إلى تلازم الأمة (الجماعة القومية) والدولة (النظام السياسي) منبع ألم واحتجاج (مثال فلسطين)، فإن تلازم الاثنين لا ينطوي بالضرورة على انسجام وتناغم، بل قد يتسم، في أحيان غير قليلة، بتنافر وتصادم (مثال: السودان، والبحرين، والعراق … إلخ)، وهي من إشكاليات التكامل الوطني المختل والناقص (أو اختلال بناء الأمة). وعليه، فإنّها منبع للاحتجاج ومحفز على إعادة بناء النظام السياسي (الدولة)، شأنها في ذلك شأن غياب الحريات (الدكتاتورية)، أو شأن التفاوت الطبقي (اختلال توزيع الثروة)، فهما أيضاً من أكبر وأهم محفزات الحراك السياسي المعارض.عند معاينة حركات تطور الاحتجاج العربية الراهنة في إطار ملموس، يمكن أن ندرسها إما في إطار النظام السياسي (الدولة كجهاز حكم)، وهذا النظام ينطوي على عدة أنماط، تقتضي التحليل، وإن يكن بشكل عام ومختصر، أو يمكن أن نضع حركات الاحتجاج في إطار بناء الأمة (أو الدولة كممثل للجماعة الوطنية)، وهنا أيضاً نجد أنماطاً متباينة من هذا البناء، تقتضي التحليل المكثف والمختصر.لذا، ينبغي تناول هذين العاملين تباعاً، كلّ منهما على انفراد، ثمّ معاينة اجتماعهما بتناغمه أو تنافره، وتشخيص أسباب التناغم أو التنافر.أولاً: الأنماط السياسيةتميّزت الرقعة العربية بنشوء نمطين أساسيين من أنظمة الحكم: النمط الأوّل هو النمط السلطاني[1](Sultanistic)، بحسب توصيف خوان لينز له، وهو نفس ما أطلق عليه ماكس فيبر[2]مفهوم: النمط الأسري – الوراثي (باتريمونيال) (Patrimonial)، وهو نمط حكم يقوم على سيادة أسرة وراثية (سلالة)، واعتماد الحكم على التراث و/أو الدين.هذا النمط قديم في الحضارة العربية – الإسلامية، ولم يشهد بدايات أفوله إلا بعد الإصلاحات العثمانية التي تكلّلت بثورة (بالأحرى “انقلاب”) الاتحاد والترقي في عاصمة الخلافة العثمانية عام 1908، وإنهاء الخلافة رسمياً عام 1924، بعد تعليقها عملياً منذ عام 1908. وتحقق التحول نفسه خلال ثورة المشروطية (المعادِل الفارسي لكلمة “الدستورية”) التي تواصلت من عام 1906 حتّى عام 1909 في إيران القاجارية[3].لكن النمط السلطاني نما في عدد من الوحدات السياسية الأوّلية (المشايخ والإمارات في الخليج والجزيرة العربية)، على امتداد القرن العشرين، وتحول من نظم سلطانية تقليدية، إلى نظم سلطانية حديثة، بمعنى امتلاكها أجهزة بيروقراطية حديثة، وجيوش نظامية دائمة، فهي سلطانية قيد التحديث، إن جاز مثل هذا الاقتران لمفهومين متعارضين (مسوّغنا في ذلك هو مفهوم الانتقال، وغياب الحدود القطعية الفاصلة في التاريخ المجتمعي – السياسي)[4].النمط الثاني الذي ساد الوطن العربي هو النمط التوتاليتاري (Totalitarian) الشمولي، أي نظام الحزب الواحد – الأيديولوجيا الواحدة، نظام التعبئة الجماهيرية الحديثة، والدمج الكثيف للسلطات في تركيبة الحزب – الدولة، وسيادة حكم اللاقانون، أي الحكم الجزافي، المرتهن بإرادة الحزب – القائد[5].ثمة جنس فرعي، استبدادي هو الآخر، هو النظام التسلّطي (Authoritarian)، عسكرياً أكان أم مدنياً. وهو إذ يشترك مع النموذج التوتاليتاري في دمج السلطات، ومنع الأحزاب، وكبت حرية المعلومات، فإنه يختلف عنه في حياده الأيديولوجي وغياب عنصر الحزب الواحد[6].هذا النمط الثاني (التوتاليتاري (Totalitarian)، والتسلّطي (Authoritarian)) نشأ في المنطقة العربية في الحقبة الثورية، أي حقبة الانقلابات العسكرية التي قوّضت النظم الملكية الدستورية التي تبلورت في الحقبة الكولونيالية، معتمدة، بحكم طبيعة المجتمع – الاقتصاد، على طبقة ضيّقة من سادة الأرض والأعيان.هذان النموذجان، السلطاني والتوتاليتاري، خلقا دولة مركزية حديثة، بدرجات متفاوتة من التحديث، نتيجة تباين نقاط انطلاقهما التاريخية، سواء في مجتمعات رعوية – قبلية، أو مجتمعات زراعية – حرفية، أو مجتمعات زراعية – تصنيعية (نقول تصنيعية، وليس صناعية، للإشارة إلى شكل جنيني من بدايات العصر الصناعي)[7].في مجرى التطور، تعرّض هذين النموذجين، السلطاني والتوتاليتاري، بصيغ وأشكال شتى، إلى ضغوط أدّت إلى قدر من الانفتاح الليبرالي سياسياً، وقدر من الانفتاح الاقتصادي الليبرالي[8]، ما أدّى إلى تثلم الهيمنة الكلية القائمة في النمط السلطاني، كما في النمط التوتاليتاري، فنشأ بذلك عنقود جديد من النظم السياسية، جرّ إليه دولاً سلطانية سابقة (الكويت، والبحرين، واليمن، والمغرب)، ودولاً توتاليتارية و/أو تسلطية سابقة (مصر، وتونس، ثمّ العراق بعد الغزو الأمريكي). هذا العنقود ينطوي، رغم الفوارق، على ما يمكن تسميته بمجموعة الإصلاح الجزئي، أو بتحديد أدق الانكسار الجزئي للاستبداد السياسي.حركات الاحتجاج الأساسية اختمرت ونضجت في هذه المجموعة تحديداً، وهي تونس، ومصر، واليمن. لكن مؤثرات هذه الحركات سرعان ما انتقلت، لربما قبل الأوان، إلى عنقود الدول السلطانية (حركات الاحتجاج الأوّلية في عُمان والسعودية مثلاً)، وعنقود الدول التوتاليتارية/التسلطية (ليبيا، وسورية، ولربما أخيراً ولا آخراً: السودان).هذا الانتقال والانتشار إلى العنقودين السلطاني والتوتاليتاري، هو من وجهة النظر التاريخية لعلم الاجتماع السياسي، سابق للأوان، بل محال تاريخي. والتفسير الأنسب لوقوع هذا السابق للأوان، هو أنَّ الرقعة العربية تشكّل حاضنة حضارية شديدة التفاعل، لا لجهة القرب الجغرافي فحسب، بل لجهة التداخل السياسي – الثقافي. ولعلها، في هذا الشأن، تشبه المآل التاريخي لأوروبا الشرقية، وأمريكا اللاتينية، خلال عقد التسعينيّات من القرن المنصرم[9].ونرى بوضوح أنَّ التزامن في الحركات ليس وليد مصادفة، كما أنَّ مبادرات بعض الدول (المغرب، والأردن) إلى مواصلة الإصلاح من فوق، يشكّل استجابة واعية لفهم هذا التفاعل والتداخل في المنطقة العربية.لكن السؤال الأهم هو هذا: ما الذي حصل على وجه التحديد في بلدان العنقود الثالث (عنقود الانكسار الجزئي للاستبداد السلطاني والتوتاليتاري) ليسمح بهذا الزخم الهائل من الفعل الجمعي لحركات اجتماعية هائلة اكتسحت جدران المعقل الكبير للدولة المكينة، وفرضت فتح النظام باتجاه تحول ديمقراطي؟ لقد سجلنا في المفتتح أن هذه الحركة هي حركة دمقرطة من حيث جوهرها واتجاهها، ولكن ينبغي أن نلاحظ أن نظريات الدمقرطة التي تدرس الشروط التاريخية لنشوء الديمقراطية في العالم، تنطوي على مستلزمات وشرائط لا تتوفر في الحالة العربية. فليس ثمة طبقة وسطى ديناميكية (شروط بارنغتون مور)، وليس ثمة دولة ضعيفة (شروط تيدا سكوتشبول)، وليس ثمة مجتمع صناعي ناشط، يحقق فصل إنتاج الثروة والثقافة (المعرفة والمعلومات) عن الدولة كمالك حصري للمجال القومي (الوطني)، كما هو الحال مع النظرية الكلاسيكية[10].ينبغي القول إنّ ثمة حاجة إلى مقاربة سوسيولوجية سياسية جديدة لتفسير هذه الحالة، وإضافة هذا التفسير إلى الجسم المعرفي للعلوم الاجتماعية، وإبقائه مفتوحاً على التمحيص والتدقيق، والنقد والمراجعة[11].دعونا الآن نواصل سياق المعاينة. تناولنا الأنماط السياسية في الوطن العربي، وعلينا الآن أنْ نعاين: بناء الأمة، كحقل ثان، ثمّ العلاقة بين النظام السياسي وبناء الأمة، كحقل ثالث، يكشف عن تفاعلهما، وبعدئذ فحسب تمكن العودة إلى معاينة حزمة التغيّرات التي فجّرت الاحتجاج بقدر ما يتعلق الأمر بموضوعة اختلال بناء الأمة.ثانياً: مستلزمات بناء الأمةالأمة، أو الدولة – الأمة (Nation-state) هي تنظيم سياسي اقتصادي – اجتماعي حديث تاريخياً، بالمعنى الدقيق للمفهوم. وهي النقيض المباشر لإمبراطوريات الماضي المتعدّدة الأقوام والإثنيات والثقافات، والأديان/ والمذاهب. ويفترض مفهوم الأمة (Nation)، وجود جماعة متّحدة، إما بإرادة العيش المشترك، أي الاختيار الحرّ للاندماج بشكل إرادي طوعي (بحسب التقاليد الفكرية الفرنسية من إرنست رينان)، أو وجود جماعة متجانسة ثقافياً بشكل موضوعي خارجي (بحسب التقاليد الفكرية الألمانيّة منذ خطابات فيخته إلى الأمة الألمانيّة)[12]. وسواء كانت الأمة اتحاداً إرادياً أو اتحاداً قائماً كواقع خارجي، فإن الجماعة المتّحدة الموحّدة لا بدّ من أن تتسم بخصائص ثقافية جامعة، سيان إن كان هذا التجانس يعتمد على معلم اللغة، أو الدين/ المذهب، أو العرق، وسيان إن كان طوعياً أو لم يكن، فهذا المعلم يضفي على أفراد الجماعة سمة المساواة، وسيمنحهم الحق في دخول الفضاء المشترك للأمة.والمشكلة الآن هي من أين ينبع الولاء لهذه الجماعة الجديدة، أو كيف يتحد أفراد متنافرون في جهاز سياسي – إداري واحد، وعلى رقعة جغرافية معيّنة (إقليم). فالدولة – الأمة الحديثة هي في واقعها، كما في الصياغات الفقهيّة للقانون الدولي (مثلاً)، جهاز سياسي له حقّ السيادة على رقعة جغرافية معيّنة لإدارة وتمثيل جماعة قومية.كانت إمبراطوريات الماضي (شأن النظم السلطانية الراهنة) تستمد شرعيتها من المقدس، أي الدين، أو العرف، حقّ السيادة لحامل السيف المنتصر. الدولة – الأمة تقوم على شرعية الجماعة القومية، وليس على القدسية السماوية. فالأديان والمذاهب، عابرة للأوطان والأقوام، فهي كونية بالتعريف (باستثناء اليهودية التي نشأت كدين محلّي لقوم)[13]، أو باللغة الحديثة: متعدّدة القوميات. كيف تأتي للنزعة القومية أن تحلّ محل المقدس كأداة للتلاحم والاجتماع البشري في الوحدات السياسية الجديدة المسماة: الدولة القومية؟ لعل أفضل من فسّر هذا التحوّل هو السوسيولوجي الفرنسي إميل دوركهايم (Durkheim)، في بحثه فكرة واقع تقسيم العمل. وهو إذ يقترب من التاريخية الماركسية في نظرتها إلى تشكّل الأمم كنتيجة لتطور الرأسمالية الصناعية التي اكتسحت عزلة دول المدن، وعزلة المناطق، والطوائف، لتدمجها في سوق موحّد، يتطلب لسيره توحيداً ثقافياً: المجانسة اللغوية، وحدة المعايير والأوزان، مثلاً، مثلما يتطلب حماية قانونية -سياسية: دولة مركزية متماسكة[14].دوركهايم يذهب أبعد من ذلك (ونحن نركّز عليه لأن نظريته تكشف عن جوانب من الخلل في بناء الأمم)، ويركز على تقسيم العمل بوصفه نظام تبعية متبادلة، تبعية الأفراد لبعضهم البعض، وتبعية المؤسسات (الصناعية والتجارية)، وتبعية المناطق، أي الاعتماد المتبادل الشامل، وقد أسمى ذلك بـ “التضامن العضوي”، أي التضامن المكين، المتماسك، الصانع للنسيج الأوّل للأمم[15]. من هذا المنظور، تبدو أنحاء شاسعة من الوطن العربي، في حقبة ما قبل الدولة المركزية الحديثة، وأيضاً حقبة ما قبل التجانس القومي الشامل الوطيد.فالدولة الوطنية التي تشكّلت في الوطن العربي كانت تواجه (وما يزال بعضها يواجه) عزلة وانغلاق المدن، والطوائف، وأسر الأعيان والوجهاء، والقبائل، كوحدات اجتماعية – ثقافية يمتلك بعضها سمات سلطة سياسية (القبائل المسلّحة مثلاً)[16]. لكن هذه المواجهة كانت، على سلم مفاضلة قياسي، شديدة وصعبة في البلدان الرعوية – القبلية، وجزئية، أي ضعيفة في بلدان المركزية الزراعية. وقد جاء تشكيل الجهاز الإداري الحديث (البيروقراطية)، وتشكيل الجيوش الدائمة (جهاز القضاء وجهاز التعلّم الأوّلى والعالي) ليكون بمثابة العتلة لتحريك الجهاز السياسي للدولة – الوطنية بما يؤمن احتكار السيادة للإقليم الجغرافي (الشرط الأوّل ليناء الأمم القومية)، كما كان بمثابة المهماز لزجّ الجماعة الوطنية (القومية المحلية إن شئتم) في المشاركة في الدولة، وفي الموارد أيضاً (الرواتب، والمكافآت). لكن هذه الدول الوطنية العربية، تميّزت، شأن كلّ القادمين الجدد إلى العصر الصناعي، بضعف تطور هذا الأخير، وضعف مؤثرات تقسيم العمل الحديث كلاصق للنسيج الجديد: الوطني. من هنا هشاشة بعض المجتمعات العربية، وهي هشاشة سيئة الصيت تطفح الآن على السطح في انبعاث الهويات الجزئية على نحو مفزع.ثالثاً: العلاقة بين تكوين الدولة (State-formation) وبناء الأمة (Nation-buildingالعلاقة بين الدولة والأمة، علاقة عضوية وبناء هذين الاثنين، عملية واحدة، في الجماعات القومية المتجانسة، عملية لا تمايز فيها. فبناء الدولة هو بناء الجهاز السياسي – الإداري: رئاسة أو عرش، وزارات، جيش، شرطة، مؤسسات قضاء، مؤسسات اقتصادية … إلخ. وبناء الأمة هو مشاركة أفراد الجماعة في المؤسسات السياسية، والإدارية، والاقتصادية، والثقافية. أما في الدول المتنافرة قومياً، أو المفتقرة إلى التجانس، والمفتقرة إلى التكامل العضوي، فإن تكوين الدولة يختلف عن عملية بناء الأمة، ولا بدّ من تمييزها ومفهومياً (كما نفعل). فاللاتجانس يمكن أن يكون إثنيا (جماعات لغوية مختلفة: الأكراد، البربر، السريان، الآشوريون، التركمان)، أو دينياً (المسيحيون العرب)، أو حتّى عرقياً (مسيحيو السودان الأفارقة)، أو مذهبياً (السنّة بإزاء الشيعة)، وأحياناً جهوياً (جنوب اليمن وشماله مثلاً)، أو ثقافياً (بدو وحضر)، وبناء الأمة، هنا، يقتضي فتح باب المشاركة الواسعة للمجتمع المبرقش[17] [انظر الجداول المرفقة].إشكالية اللاتجانس هي إشكالية عالمية، وليست عربية حصراً، بل هي ماثلة حتّى في أوروبا بلد صعود القوميات (الباسك في إسبانيا، الشمال الإيطالي بإزاء الجنوب، الإيرلنديون والويلزيون والإسكتلنديون في بريطانيا).كانت الديمقراطية وسيلة من وسائل حلّ مشكلة اللاتجانس يفتح المجال السياسي لِكُلّ الجماعات المتنافرة داخل حقل الدولة المركزية. ويمكن القول، على نحو قاطع، إنَّ النظم اللاديمقراطية، المفتقرة إلى انفتاح حقل المشاركة السياسية، تفاقم مشكلة اللاتجانس، وتلجأ، عموماً، إلى وسائل قسرية لفرض هذا التجانس، أي بوجيز العبارة تستعيض عن التكامل الناجم عن المشاركة الطوعية بالدمج القسري الذي يناهز، أحياناً، الصهر العنيف (بالوسائل العسكرية)، الأمر الذي يفصل بناء الأمة عن تكوين الدولة.ولكن لنلاحظ أيضاً أن توفر الديمقراطية لا يقود، في ذاته، إلى حلّ إشكالية اللاتجانس. فالنظام الديمقراطي في صيغته الكلاسيكية يقوم على مبدأ حكم الأغلبية. من هنا، فإن حجم الجماعات المتجانسة هو الذي يسمح لها بالمشاركة أو يقصيها عن هذه المشاركة. فالأقليات الديمغرافية ستظلّ أقليات سياسية، ما يؤدي، بحسب منطوق فرضية خوان لينز، إلى نشوء استبداد الأكثرية الإثنية، وهو ما يسمّيه (Ethnocracy)، وليس ديمقراطية (Democracy). زد على ذلك أنَّ التلاعب بالنظام الانتخابي (تجديد الدوائر) يحدّ من تمثيل الجماعات (كما في البحرين)، ويفضي إلى وضع شبيه باللاديمقراطي. وإذا كانت ديمقراطيات الأمم المتجانسة تبحث عن وسائل شتّى لمنع استبداد الأكثريات السياسية، فإن الأمم اللامتجانسة بحاجة أكبر إلى مثل هذه الوسائل المانعة للاستبداد. من هذه الوسائل: 1- الحكم الذاتي المحلي (Autonomy). 2- اللامركزية الإدارية (Decentralization). 3- الفدرالية (Federalism).وهي أشكال تكميلية من تقسيم السلطات، تضاف إلى التقسيم الكلاسيكي للسلطات (تنفيذية، وتشريعية، وقضائية)، غايتها منع التركز المفرط للسلطات، المخلّ بالمشاركة التامة للمجتمع القومي المتعدّد. لقد اتجهت دول العالم منذ القرن التاسع عشر إلى نموذج الدولة المركزية الواحدية (Unitary State)، ثمّ أخذت تتجه، حثيثاً، إلى اللامركزية والفدرالية، نتيجة لتوسع وظائف الدولة، ونشوء حاجات للتوازن بين مختلف الجماعات، خصوصاً في الدول اللامتجانسة.إذا كان الاستبداد ينمّي اللاتجانس، أو يرسيه على قاعدة هشّة، لأنّها تعتمد القسر والعنف، وإذا كانت الديمقراطية الكلاسيكية (حكم الأغلبية) غير كافية لتجاوز إشكاليات اللاتجانس، فإن الاقتصاد الأوامري الممركز يؤثر، هو الآخر، في مشكلة اللاتجانس، تأثيراً مدمّراً.قلنا إنّ ضعف تطور الاقتصاد الحديث يعني ضعف التكامل العضوي (الدوركهايمي) الباني لنسيج الأمم، وإن جلّ البلدان العربية يتسم بهذا الضعف على وجه عام. وللتعويض عن ضعف هذا التطور، نشأ شكل اقتصادي جديد يقوم على تدخل الدولة، حيث تكون هذه الأخيرة المالك الحصري للأصول الاقتصادية كحامل للتنمية، ما يؤدي إلى دمج السياسة بالاقتصاد، واقتران الاحتكار السياسي باحتكار اقتصادي (في الدول الدكتاتورية)، أو تحكّم النخبة السياسية بالأصول الاقتصادية (في النظم الديمقراطية). وهو حال يولّد تفاوتاً في توزيع الموارد، ليس فقط بين الطبقات الاجتماعية، بل بين الجماعات الجزئية الإثنية والدينية والمذهبية (أياً كان تعريفنا لها)، وبين المناطق. وتتفاقم هذه الميزة السالبة، من وجهة نظر بناء الأمة، في الدول الريعية النفطية.هنا يتوقف توزيع الموارد التي يفترض أنّها ملك للجماعة (سواء كانت هذه أمة متجانسة أو لامتجانسة) على الإرادة السياسية الجزافية للنخبة الحاكمة.بسبب من هذين الاحتكارين الكبيرين، السياسي والاقتصادي، تتمركز السلطات في يد نخب ضيّقة، وتتوزّع الثروات الأساسية، الخاضعة لهيمنة الدولة، سواء بصيغة اقتصاد أوامري (Command Economy) أو بصيغة تشارك السياسي – رجل الأعمال وفق ما يعرف برأسمالية الأتباع والمحاسيب (Crony Capitalism)، على المحاسيب والأتباع من جانب، أو تتوزّع على الأسرة الحاكمة والمنتمين إلى نظامها القرابي (حيثما يكون الأخير قوياً اجتماعياً). وهكذا نجد، في نظم سلطانية، أو نظم توتاليتارية، أو في نظم الإصلاح الجزئي، ظاهرة ثراء الأسر الحاكمة، أبناء رؤساء أو أبناء ملوك، وظاهرة الوراثة السياسية في الجمهوريات، أو ظاهرة الصعود السياسي لشبكات القرابة، وانتفاع مناطق وجماعات، دينية أو مذهبية، على حساب جماعات أخرى[18].لا أتذكر من قال إنَّ الفوارق الاقتصادية بين الإثنيات والمناطق والجماعات الدينية أخطر من الفوارق بين الطبقات. فهذه الأخيرة تولّد احتجاجات وتمرّدات اجتماعية على النخب الحاكمة، أما تلك فتولّد تمزّقات وتمرّدات على الدولة كجماعة قومية (وصولاً إلى الانفصال).دعونا نضيف إلى عامل الاحتكار السياسي وعامل الاحتكار الاقتصادي، عاملاً آخر هو الثقافة السياسية. الأيديولوجيات السائدة، وهي الجزء الأهم في الثقافة السياسية، هي إما قومية عربية، أو إسلامية، أو اشتراكية ماركسية. ولكل واحدة أثرها الملموس في التكامل الوطني، أي بناء الأمة. فالنزعة القومية العربية بحاجة إلى أن تأخذ الجماعات الإثنية واللغوية غير العربية، والخطاب الإسلامي بحاجة إلى تجاوز إطاره المذهبي لئلا يقع في الطائفية، مثلما هو بحاجة إلى تجاوز ما يحويه من البذور الإقصائية للأديان الأخرى، وخطاب الاشتراكية بحاجة إلى الموازنة بين تعارض مصالح الطبقات وضرورات استقرار بناء الأمة. والكلّ بحاجة إلى موازنة التطلّعات الأيديولوجية الخاصة بحاجات استقرار النظام السياسي، نعني التماس وسائل سلمية، وسياسية، وفكرية، للصراع، لا اعتماد أدوات العنف السافر.إنَّ “الحاجات” المشار إليها هي سمات مفتقدة في واقع الممارسة السياسية ذات الطابع الإقصائي بامتياز.إنَّ تضافر العوامل الثلاثة الكبرى: انغلاق النظام السياسي، واحتكار الأصول الاقتصادية، وطغيان ثقافة سياسية إقصائية، يقوّض كلّ أشكال الاندراج في النسيج الوطني، مما نسمّيه: بناء الأمة، فهو يقوّض: 1- المشاركة السياسية. 2- المشاركة الإدارية (خصوصاً في مؤسسات العنف الشرعي). 3- المشاركة الاقتصادية. 4- المشاركة الثقافية.رابعاً: بناء الأمة وحركات الاحتجاج الراهنةتفيدنا الحالات المدروسة حتّى الآن أن حركات الاحتجاج المتعاظمة، وإن انطلقت في تشوّف، أي شوق ولهفة، إلى الحريات العامة، فإنّها تحفّزت في أكثر من بلد بعوامل اختلال في بناء الأمة (التكامل الوطني)، مثلما أنّها تتلكأ، في مواضع أخرى، بالخشية من اختلال بناء الأمة مستقبلاً.1- الحقل السياسي: الدولة كجهاز حكم للأمةلعل من الحصافة الاستدلال، في ضوء معاينة الواقع التجريبي (وإن يكن القياس جزئياً)، أن تجانس المجتمعات لجهة: الإثنية، والدين، والمذهب، والعرق، والقبيلة، يسهل تحقيق الانتقال نحو الديمقراطية (من دون حساب المؤثرات الأخرى). ويكون تأثير التجانس الوطني أكثر فاعلية في دول الإصلاح الجزئي منه في الدول السلطانية والتوتاليتارية. لعل مثال تونس مفيد في هذا الشأن. كما أنَّ مثال مصر (رغم وجود البعد المسيحي: الأقباط) قريب هو الآخر.وبالقاعدة نفسها من الاستدلال، يمكن الخلوص إلى قياس جزئي آخر، هو أنَّ اللاتجانس الوطني بعناصره: الإثني، والديني، والمذهبي، والعرقي، والقبلي، يعيق أو يبطئ عملية الانتقال في دول الإصلاح الجزئي (مثال اليمن) التي تفتقد بعد اللاتجانس الإثني، ولكنها تستعيض عنه بعمق الانقسام الجهوي (جنوب – شمال)، والانقسام المذهبي، والتشظّي القبلي. وتشتد سلبية هذا المؤثر في الدول السلطانية والتوتاليتارية.هذا هو الإطار العام لمفعول التجانس/اللاتجانس، أو التكامل/اللاتكامل الوطني على عملية الانتقال الديمقراطي وما بعدها. ويتجلى مفعول التجانس/اللاتجانس، أو اختلال توازن بناء الأمة على كلّ مستويات الدولة/المجتمع تقريباً خلال عملية الانتقال، أبرزها انغلاق النظام السياسي أمام المشاركة كلياً، أو انغلاقه على جماعات ومناطق معيّنة، ما يولّد حالة إقصاء تستجر المعارضة والاحتجاج الفئوي – الطائفي (شيعة البحرين)، أو بالعكس تدفع جماعات جزئية (دينية أو مذهبية) إلى معارضة التغيير خوفاً على وجودها.ولكن هناك مستويات أخرى: يعتمد القادة والنخب، عموماً، في البقاء والاستمرار والتماسك على الشرعية (الرضا)، والقسر (وسائل العنف)، والتماسك، بتناسب متباين، تبعاً لبنية النظام السياسي/الاجتماعي، وتبعاً لمراحل تطور كلّ بنية، باعتبار هذه الأخيرة تركيباً ديناميكياً، في صيرورة متصلة. ولكن عناصر: الشرعية، القسر، التماسك، تنبع من مصادر عدة، فالشرعية قد تكون كاريزمية ذات طابع ديني (الخميني)، أو ثوري (عبد الناصر)، أو قد تكون دستورية – قانونية. والواقع أن زوال الكاريزما وتحوّلها إلى “روتين”[19]بعد زوال الجيل الأوّل من القادة الدينيين/ الثوريين (الخميني، عبد الناصر، بن بلا … إلخ)، حلّ جيل جديد بحاجة إلى مصادر شرعية أخرى (الانتخابات مثلاً)، مثلما زادت حاجته إلى وسائل الإكراه. وحيثما تفتقد النخبة إلى كاريزما القائد، والى الشرعية القانونية، يزيد الميل إلى التماس شبكات القرابة، أو شبكات القبيلة/الطائفة (بحسب كلّ حالة)، أو خلائط الاثنين، لضمان التماسك.من جديد، كلّما كان اللاتجانس الوطني شديداً، تعاظم الميل إلى قوى التماسك القرابية والطائفية عند النخبة الحاكمة، والعكس صحيح، كلّما كان التجانس الوطني قوياً، ضعف هذا الميل. والأثر واضح: كلّما كان عنصر التماسك القرابي و/أو القبلي، الطائفي، متيناً، زاد تماسك النخبة، وزادت معه صعوبة الانتقال، وكلما ضعف العنصر القرابي/القبلي/الطائفي، ضعف تماسك النخبة، وخفّت مصاعب التحول الديمقراطي. ومن الجلي أن طبيعة الصعوبات تكون أشدّ في النمط السلطاني والنمط التوتاليتاري. ولعل المثال المقارن للنخب الحاكمة في تونس/ليبيا، أو مصر/اليمن، مفيد في هذا الشأن لتوضيح أثر اللاقرابة (مصر، وتونس) بأثر القرابة (ليبيا، واليمن) في تماسك النخب، وسهولة أو صعوبة اختراقها.دعونا ننتقل إلى مستوى آخر، هو المؤسسة العسكرية التي تتأثر بطبيعة مصادر تماسك النخبة، أهي كاريزمية، أم دستورية قانونية، أم هي قرابية/طائفية (أو حتّى جهوية). فالجيوش الدائمية الناشطة في إطار نخب قرابية/ قبلية/طائفية، بسبب ضعف التجانس الوطني واختلاله، تعتمد في بناء وضبط المؤسسات العسكرية على هذه الشبكات الفئوية الأوّلية (الجزئية من منظور بناء الأمة). من هنا زجّ الأبناء، والأعمام، والاصهار، في قلب هذه المؤسسة، وتحويلها إلى جيوش عائلية (مثال ليبيا، واليمن، وسورية حالياً)، مقابل الطابع الحرفي العام لهذه المؤسسات في بلدان أخرى (مصر، وتونس مثلاً). ومن هنا المنبع الأوّل لتفاوت موقف المؤسسة العسكرية من حركات الاحتجاج وسلوك هذه المؤسسة: المساندة، والحيدة، والانقسام، وهي تلاوين نابعة، بحدود من درجات لا تجانس أو تجانس بناء الأمة. وينبغي أن نضيف إلى ذلك بعداً تاريخياً: علاقة الجيوش بأممها. هذه العلاقة متشابكة، متنوّعة، ولكن يمكن، ابتغاء التبسيط، أن ندرجها في نموذجين، التركي، والإيراني. في الأوّل، الجيش، وزعيمه الكاريزمي أتاتورك، هو مؤسس الدولة الحديثة. وفي إيران، الحركة القاعدية المدنية للمجتمع هي مؤسس الدولة الحديثة ما بعد البهلوية، وزعيمها الكاريزمي: الخميني. ونجد مثالاً مقارناً لذلك بين حال تونس ومصر، مثلاً. هذه العلاقة التاريخية بين المؤسسة العسكرية وتأسيس الأمة – الدولة، تنبئ بأن حركة الاحتجاج المدنية تتسم بزخم أكبر وقدرة أعظم على التغيير في بلدان الحركة القاعدية، كما حصل في تونس، مقابل هيمنة المؤسسة على العملية الانتقالية (مصر). وتتعاظم صعوبات الانتقال بتلازم البعد التاريخي للجيوش في بناء الأمة، مع الطابع الفئوي لقيادات المؤسسة العسكرية، نتيجة تغلغل شبكات القرابة والولاء الطائفي والجهوي، الناشئ عن ضعف بناء الأمة أو اختلاله.إنَّ احتكار الحقل السياسي يعني الإقصاء، وغياب التمثيل الشامل، ويترجم هذا الغياب بشكلين عريضين: دكتاتورية تشمل الأمة بأسرها، أو دكتاتورية فئوية تستبعد جماعات محددة بسبب طابعها الإثني أو الديني، أو الجهوي، أو القبلي. ورغم أن هذين الشكلين من الغياب يستشريان في كلّ مؤسسات الدولة، والرئاسة، والوزارة، والبيروقراطية، والعسكر، بل حتّى هيئات القضاء، فإن فعلهما متباين، كما نرى عند تناول الثقافة السياسية والخطاب الاحتجاجي.2- الحقل الاقتصادي: الدولة كمالك أو راعقلنا في المفتتح إن تطور العصر الصناعي هو قاطرة بناء الأمم بما ينطوي عليه من قدرات دمج وتوحيد، وما يقدمه من الوسائط لإرساء علاقة جديدة بين الدولة والمجتمع، بفصل إنتاج الثروة عن الدولة، وتمويل هذه الأخيرة عبر الضرائب، ومحاسبتها وتعديلها … إلخ. ولكن ذكرنا في المفتتح إنَّ الدول التي قدمت متأخرة إلى العصر الحديث (سواء أسمينا ذلك عصر الرأسمالية أم الصناعة أم الحداثة، فالأمر سيان) قامت مقام مالك ومنتج، في الاقتصاد الأوامري (Command Economy)، بصفة رأس مال جمعي، أو إنّها تطورت كمالك للأصول الريعية (الأرض والنفط)، متوفرة على وسائل الهيمنة على جلّ الثروة المجتمعية، ومحققة انفصال إنتاج هذه الثروة عن المجتمع (على نقيض انفصال إنتاج الثروة عن الدولة). السلطة الاجتماعية للثروة، هنا، بيد الدولة، أو بتحديد أدق، بيد النخبة الحاكمة (سلطانية أكانت أم توتاليتارية أم تسلطية، لاريعية أم ريعية). هذه الهيمنة على سلطة الثروة، أتاحت للدولة التحكّم بالتشكيلات الاجتماعية – الاقتصادية، والتحكّم بالطبقات الوسطى الأوسع عدداً (شبه المستعبدة في حراكها الاجتماعي)، والتحكّم بطبقات رجال الأعمال، حيثما أتاحت الدولة مجالاً، مهما اتسع أو ضاق، لنمو رأس المال الخاص. وقد استمر هذا الحال بصيغ ملتوية في بلدان الإصلاح الجزئي التي استخدمت سلطة الدولة كصانع ومنفّذ للضوابط الناظمة (Regulatons)، كيما تعقد تحالفاً وشراكة مع طبقة رجال الأعمال، لتنتج مزيجاً من بزنس السياسة وسياسة البزنس المندغمة[20]، مولّدة احتكاراً ضيّقاً للنخب – الأسر الحاكمة وأتباعها.هذه الأوضاع أفضت إلى تركّز الثروة في مركز السلطة السياسية، والتحكّم بانتشارها خارج هذا المركز. هذا التركّز كان أكثر من فاضح. وبينما كان تقريرا البنك الدولي (World Bank) وصندوق النقد الدولي ((IMF، يرسمان صورة وردية زاهية عن النمو والازدهار في بلدان الليبرالية الاقتصادية، كانت الهوة بين الطبقات والشرائح، أو بين الجماعات والمناطق، تزداد اتّساعاً[21].وما قلناه عن الاحتكار السياسي بوصفه إقصاء وحرمان تمثيل، يصحّ بقدر حسّي أكثر، على الاحتكار الاقتصادي الدولتي هذا، على اختلاف صوره. ويمكن تلمّسه حسّياً لا في معطيات متوسط دخل الفرد (الخادعة بِكُلّ المقاييس)، بل في توزيع الدخل، لا في حجم إجمالي الناتج المحلي (Gross Domestic Product)، بل في سلّم مداخيل الأسر، وحجم السكان (وطبيعة المناطق والجماعات) الواقعة تحت خطّ الفقر [انظر الجداول المرفقة].كما يمكن رؤية النتائج السياسية لهذا الاحتكار الاقتصادي الذي يتخذ صوراً اجتماعية وطبقية في بلدان التجانس الوطني، وصوراً طائفية، وجهوية، في بلدان اللاتجانس: المذهب س محروم، والمنطقة د محرومة، والدين ص محروم!3- الحقل الخارجي: الدولة كممثل للأمة إزاء العالمالدولة ليست المدير للجهاز السياسي للأمة فحسب، بل هي أيضاً ممثل الجماعة الوطنية بإزاء العالم الخارجي. ولا قيام للدولة بوصفها ممثلاً للأمة من دون اعتراف ثنائي من الأمة نفسها، ومن العالم، أي نظام الدول – الأمم الذي ساد القرن العشرين بأسره[22]. الدولة الوطنية في الرقعة العربية ظهرت إلى الوجود في حقبتين: حقبة التوسع الكولونيالي، وحقبة الفتح منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتّى منتصف القرن العشرين[23].الحقبة الكولونيالية، وحقبة الحرب الباردة التي أحاطت بمسار تطور الدولة الوطنية الحديثة، أسبغت على عملية بناء هذه الأخيرة طابع صراع خارجي، فكان الخطر البرّاني هو العنصر المحدّد لتصوّرات بناء الأمة، فالاستقلال انتزع، في جلّ الحالات، بوسائل العنف، وفي هذا يشترك المشرق والمغرب (الخليج هو الاستثناء الوحيد – عدا اليمن الجنوبي). بعد الاستقلال العنيف يأتي تحويل أو تقسيم الوحدات الإدارية العثمانية إلى دول على يد فرنسا – بريطانيا، حافزاً آخر على دفع النزعة القومية نحو الخارج. فهذا التقسيم للوحدات الإدارية اتخذ في الفكر السياسي، كما في الخيال الشعبي، صورة تجزئة إرادية، جزافية، غربية، لأمة موحّدة. هذا الحال أساسي في المشرق العربي، وأثره ضعيف في الخليج. أما في المغرب العربي، فإن الوحدات الإدارية العثمانية بدت بمثابة وحدات سياسية طبيعية، أما مصر الواقعة في الوسط، فإن وحدتها السياسية – الإدارية كانت موغلة في القدم، وبالتالي أرسخ.العنصر الثالث في دفع النزوع القومي إلى رهاب الأجنبي (Xenophobia)، هو نشوء إسرائيل وبقاء الشعب الفلسطيني، حتّى اللحظة، أمة (جماعة وطنية) بلا دولة.هكذا تركّزت النزعات القومية (Nationalism) (الوطنية المحلية والعربية العامة) نحو الآخر، وتعطل مكوّنها الآخر، الجوّاني، وهو التوجه نحو الذات، نحو الدولة لمساءلة قدرتها وكفاءتها في تمثيل الجماعة (الأمة). ولعل مناخ الحرب الباردة الذي ساد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتّى تفكيك الاتحاد السوفياتي عام 1991، أسهم في إذكاء الصراعات الدولية، وحبس النزعات القومية في إطار الصراع الدولي، الخارجي بطبيعته.من هنا جاءت جلّ احتجاجات الحركات الاجتماعية، الأيديولوجية المنظّمة أو العفوية، متركّزة على قضايا صراع خارجي: الاستقلال، وحرب فلسطين، والحروب العربية – الإسرائيلية (1967-1973-1982 … إلخ)، أو حركات الاحتجاج على المعاهدات والقواعد العسكرية الأجنبية، أو استثمار النفط … إلخ. وتفيد التقديرات أن نحو 95 بالمئة من نشاط الاحتجاج تركّز على القضايا الخارجية التي امتصت جلّ طاقات الاعتراض خلال القرن العشرين.انهيار النظام الكولونيالي القديم، ثمّ انتهاء الحرب الباردة، قلبا المناخ الدولي، المحيط ببناء الأمم وتطورها. أما خفوت حدّة الصراع العربي – الإسرائيلي، بفعل تحوّله إلى مسؤولية فلسطينية أساساً، وعربية فرعاً (بعد أن كانت عربية أساساً، وفلسطينية فرعاً)، أتاح للنزوع القومي (Nationalism) (الوطني المحلي والعربي العام) أن يلتفت إلى بعده الداخلي.لم تعُد الأمة تمنح الدولة تفويضاً مفتوحاً بإزاء الخطر الخارجي، بل انتقلت، عقب التحول الموصوف للمناخ الإقليمي والعالمي، إلى مساءلة الدولة على هذا التفويض. فلم يعُد بوسع النخب الحاكمة أن تستخدم بفاعلية مؤثرة الخطاب الوطني الأحادي السابق، كمعطل للخطاب الديمقراطي، خصوصاً تلك التي أبرمت صلحاً مع إسرائيل أو عجزت عن تحرير الأرض وتقاربت أو انفتحت على الغرب. على المقياس التفاضلي المتدرّج، نجحت حركات الاحتجاج الجديدة، بمقدار تغلّب النزوع الوطني الداخلي، حقّ الأمة في بناء ذاتها بتوسط الدولة، على النزوع الوطني بإزاء الخطر الخارجي، أي انتصار تشوّف الأمة إلى فتح النظام السياسي، والتماس الديمقراطية، كوسيلة لتكامل الأمة والدولة. لكن حركات الاحتجاج تلكأت، أو أخفقت (لربما مؤقتاً)، بمقدار تغلّب فكرة الخطر الخارجي (المتخيّل الأوّلي الحقيقي) (حالة سورية والبحرين خير مثال).وإذا كان تغيّر المناخ العالمي (انتهاء الحرب الباردة) قد أنهى النزوع إلى التدخلات المتبادلة لوأد أي تحول ديمقراطي، فإن المناخ الإقليمي الراهن ما يزال ينطوي على عوامل مهدّدة، بدرجات متفاوتة، وبخاصة الفعل القادم من دول لاديمقراطية، إكليروسية، ثيوقراطية[24].لكن المآل العام، الجوهري أنَّ الخطاب القديم لم يعُد يمتلك فاعليته السابقة. فتبرير الاستبداد السياسي كشرط لتحرير الأرض، أو مقاومة عدو خارجي، قول متبلّد تماماً، شأن تبلّد القول إن الديمقراطية مقدمة لضياع الأرض. ونلاحظ أن خطاب العدو الخارجي يقترن، اضطراراً، بخطاب التفتّت الداخلي (مآل الأقليات الدينية/المذهبية والإثنية)، بل إن لخطاب الخطر الداخلي (الإرهاب) بعداً داخلياً (تنظيمات القاعدة). بنية الخطاب تشي بمأزق المفاهيم القديمة.4- الخطاب الأيديولوجي وبناء الأمةالخطاب الأيديولوجي، جزء من الثقافة بعامة، ولعله أكثر عناصر الثقافة قرباً والتصاقاً بوظيفة تعيين تخوم الذات الجمعية في الزمان والمكان، واستخلاص معنى هذه الجماعة، هي وظيفة تضطلع بها الثقافة عموماً إلى جانب وظائفها الأخرى، المعرفية والجمالية وغير ذلك.وإذا كان الخطاب الأيديولوجي هو الشكل المكثف، الممنهج، للثقافة السياسية، فإن الثقافة السياسية، بدورها فضاء أوسع من الخطاب المذكور، فهي تضمّ تصوّرات وقيماً موروثة وعرفية (مثل أيديولوجيات القرابة والعصبية – أي التضامن – في التصوّرات القبلية) أو قيم دينية (في المنظور الفقهي واللاهوتي: جماعة المؤمنين، أو جماعة المذهب المحدّد).نذكر ذلك لأن المجتمع العربي يتميّز، عموماً، بتعايش وتداخل الأيديولوجيات الحديثة مع الموروث من الأعراف القبلية، والقيم الدينية المذهبية.فوعي الذات ما قبل القومي (الوطني) ترعرع وعاش طويلاً في أشكال التلاحم القبلية (الأنساب المغلقة)، وأشكال الانتساب الديني، ولم يعمل الفكر مبضعه في اجتراح الشكل الجديد: النزعة القومية، إلا في القرن التاسع عشر (قبل ذلك كانت النزعة القومية ممارسة، بل مفهوم منهجي محدد). وكان على هذا الشكل أن يحتل الفضاء الجديد للدولة القومية، كدولة مركزية، تربأ بمنظومات الانغلاق والمفاضلة والتفريق، سيان إن كانت هذه المنظومات قبائل أو طوائف، مدناً عصبوية، أم إثنيات صغيرة. من هنا تميّز الخطاب الأيديولوجي للأمم بقيم الانفتاح والمساواة والتوحيد[25]، وتصادمه مع الخطابين القبلي والديني، حيثما كانت خصائص اللاتمايز الديني – المذهبي حاضرة، أو حيثما كان التجانس الديني المذهبي ممزّقاً بانقسامات قبلية – جهوية، أو حيثما كانت هذه التشظيات كلها حاضرة في النسيج المجتمعي، ثقافة وبنى.ونلاحظ هنا أنَّ الخطاب الأيديولوجي الذي ساد الرقعة العربية منذ القرن العشرين انقسم إلى: إسلامي، وطني محلي (مصرية، عراقية، سورية … إلخ)، وقومي عربي (جامعة، عابرة للدول الوطنية المحلية)، وماركسية (وطنية وأممية).الخطاب الإسلامي منذ القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ينطلق من مفهوم الأمة الإسلامية (مشروع الجامعة الإسلامية عند الأفغاني، ومشروع الخلافة العربية عند الكواكبي، لم يخرجا كثيراً عن ذلك. فالخليفة العربي، إثنيا، يتخذ من مكة مقرّاً له، ممثلاً الجماعتين الإثنية والدينية!)[26]. لكن فكرة العربي (الفرد في جماعة إثنية) تتقاطع مع فكرة المسلم الفرد (في جماعة المؤمنين).وإذا كانت المنظومات الفكرية للوطنية المحلية، والماركسية، تمحو الفوارق الدينية والإثنية لسائر الأفراد المشتركين في الحقل الوطني، فإن المنظومة القومية العربية تواجه، على الفور، مشكلة الإثنيات غير العربية، مثلما يواجه الخطاب الإسلامي مشكلة الجماعات غير المسلمة، باعتبارها ذمّية، أو المذاهب الأخرى المغايرة.ميول الاحتكار السياسي (الحزب الواحد والأسرة الواحدة) والاحتكار الاقتصادي (المركزي أو الريعي) أدّت، حتّى لو كان الطابع الأيديولوجي يلهج بالمساواة والانفتاح، إلى تمزيق بناء الأمة ذات النسيج الهشّ.وجاء انهيار الأيديولوجيات الحديثة، الجامعة، مثل الماركسية، أو القومية العربية، أو الوطنية المحلية، عقب ظاهرتين كبيرتين، هما الخسائر العسكرية الكبرى لقادة هذه التيارات وانهيار الاتحاد السوفياتي، ومنظومة حلفائه في أوروبا الشرقية. ونشأ ما يشبه الخواء الأيديولوجي، والافتقار إلى المعنى. ترافق ذلك مع صعود الإسلام السياسي المحدث، بتركيزه على الشريعة والهوية. وتحوّل الحقل السياسي، في مجرى ذلك من سياسة الطبقات (Class Politics)، والسياسة القومية (National Politics) ، إلى سياسة الهوية (Identity Politics)، أي نشاط الجماعات دون القومية، سواء أكانت جماعات دينية، أم مذهبية، أم إثنية (غير عربية)، أم جهوية، أم قبلية. وقد أسهم عصر العولمة، بوسائل الاتصال والتفاعل المكثفة، العابرة للأوطان، بشكل مزدوج: تعميم قيم الديمقراطية، بوجه عام، وإذكاء الوعي الذاتي للإثنيات والجماعات حيثما كانت هذه تعاني (أو تتصور أنّها تعاني) الإقصاء والحرمان. كما أسهم انتصار الثورة الإيرانية (1979)، وتنامي الإسلام السياسي، بشقيه، في تعميق الانقسام المذهبي في عموم الوطن العربي، كما في دول شتى، بل تسييس هذا الانقسام، وجاءت حرب العراق (2003) لتضفي على التسييس طابعاً عسكرياً (الاقتتال بالسلاح). الإسلام السياسي، في الوطن العربي، طائفي، أو مذهبي بالتعريف، لعل آثاره تنحصر في المستويات الاجتماعية – الثقافية في الدول المتجانسة دينياً – مذهبياً، حيث تتركّز على آثار التطبيق المفترض للشريعة. أما في ما يتعلق بالحريات الفردية، والفصل بين الجنسين، وقانون الأسرة، ووضع المرأة، وقانون الإرث، وغير ذلك، فإن تأثيرات الإسلام السياسي، في الدول اللامتجانسة، مدمّرة، لجهة تمزيق الأوطان دينياً (الأقليات المسيحية، واليزيدية، والصابئة … إلخ)، أو تشطيرها مذهبياً (سنّة، شيعة، علوية، زيدية … إلخ). لعل المثال الأكثر سوءاً على مفعول سياسة الهوية (Identity Politics) المقترن بالإسلام السياسي، هو السودان[1]، والعراق. غير أن هناك دولاً أخرى، مهدّدة بهذا التحوّل من سياسة الانقسامات الاجتماعية، إلى سياسة الانقسامات الدينية – المذهبية، والجهوية. ينبغي التذكّر في هذه اللحظة أنَّ الدول المتجانسة، عالية التجانس، يمكن أن تتجه، بل إن بعضها يتجه إلى سياسة القضايا ((Issue Politics (تونس، والى حدّ معيّن مصر)، وهذا مآل حميد. أما المآل غير الحميد في دول اللاتجانس، فهو استشراء سياسة الهويات الجزئية. ولا يمكن وقف ذلك إلا بانتحار الإسلام السياسي أيديولوجياً (على الغرار التركي) كيما يستمرّ سياسياً كمساهم في بناء الأمة.
[1]- رغم أن سيل الكتابات العربية عن مسألة الهوية كثيرة، إلا أنّها لم تدرس دراسة وافية لجهة علاقتها ببناء الأمة. والاستثناء الأبرز دراسة مسألة الجنوب ومهددات الوحدة في السودان، الدكتور عبده مختار موسى، مركز دراسات الوحدة العربية، 2009. يعالج الكتاب مسألة الجنوب في السودان، في سياق تحليل عملية بناء الأمة في السودان، وعوامل فشل أو تصدع هذه العملية، بسبب خيارات النخب الحاكمة (الحلّ العسكري)، أو قصور النظر العقلاني للقضية (اعتبارها مجرد توزيع موارد ومناصب)، فالقضية في نظر المؤلّف تنطلق من مشكلة الهوية. ويحلل الكتاب تاريخ نشوء الدولة، والمجتمع في السودان، بأبعاده القبلية، والدينية، والطبقية، ليركز على الهوية – الإثنية كظاهرة أساسية وعنصر من مهددات الوحدة الوطنية.