الفضل شلق
يطالب الناس الطبقة الحاكمة بأن تقوم بالأعمال البسيطة التي تجعل الدولة لكل الناس لا لهذه الطبقة وحدها؛ دولة تخدم الناس ولا تقمعهم؛ دولة تعبر عن حاجات الناس وتحاول تلبيتها؛ دولة تستخدم الإمكانات الاقتصادية المتاحة لمكافحة البطالة بدل تهجير الناس سعياً وراء الرغيف؛ دولة يكون لها القرار الاقتصادي دون أن تتركه لغيرها. يريد الناس أن يعيشوا سوية؛ طبقات وطوائف مختلفة. يتشكل البلد من طبقات أيضاً لا من الطوائف وحدها. الطوائف وحدها، دون تنمية اقتصادية، هي مشروع حرب أهلية. القلة تولد النقار. لا يحتاج الناس إلى التقاتل على تقاسم الجبنة عندما يكون إنتاج الجبنة وفيراً يفيض عن الحاجات. يقول مسؤولو قطاع المصارف إن لديهم من الودائع في لبنان ٨٤ مليار دولار، وفي الخارج ١٦ مليار دولار. لا يريد العامة شيئاً منها؛ يحترمون الملكية الخاصة وحقوق اصحابها. لكنهم يريدون من الدولة التي يشاركون فيها، أن تشرح لنا كيف يكون لبنان بلداً غنياً بينما حكومته مَدينة وشعبه فقيرا ومَدينا؟ يُراد من السلطة أن تقول كيف تنوي توجيه الاقتصاد اللبناني من اجل استخدام الأموال المتوفرة في لبنان من اجل تسليفات لأعمال إنتاجية؟ أم إننا سوف نستمر نشاهد يومياً إغلاق عدد من المصانع وإهمالا للأرض بسبب قصور ذات اليد؟ هل تنوي السلطة أن تكون لديها خطة اقتصادية أم أنها سوف تستمر في معارضة أية خطة اقتصادية، حتى ولو اقتصرت على اعمار البنى التحتية، استجابة لمقولات نيوليبرالية تفرضها عليها مؤسسات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي؟ لا يفهم الناس كيف يجري الاعتماد على مؤسسات الإقراض الدولية في حين أن المصارف اللبنانية لديها فوائض تمويلية لا تجد لها منافذ للاستثمار إلا في المجال العقاري مما يؤدي إلى ارتفاع أثمان العقارات بشكل غير مسبوق، وغير محتمل، وغير مقبول. وهناك الصناديق التمويلية العربية والإسلامية التي ما انفكت منذ اتفاق الطائف، تمد لبنان بالقروض والمساعدات، بشروط أفضل من البنك الدولي والصندوق الدولي. مشكلة لبنان، هنا أيضا، هي أن التمويل المتاح من الخارج للبنى التحتية متراكم، ليس بأكثر مما يحتاجه لبنان، وحسب، بل بأكثر مما تنوي الإدارة السياسية تنفيذه؛ وليس ذلك بسبب العجز عن التنفيذ بل لان الحكومة وأجهزة الاستملاك والمالية فيها تتلكأ دائماً وتتردد بشأن توفير التمويل للاستملاكات الضرورية لإنشاء جميع مشاريع البنى التحتية (إضافة إلى التردد والتمنع عن دفع حصّة الدولة الرديفة للقروض والتي تبلغ ١٠ إلى ١٥ ٪ من كلفة المشاريع). ليست المشكلة بطء التنفيذ، في مجلس الإنماء والإعمار، او في الأجهزة البيروقراطية لدى الوزارات، بل بسبب بطء السلطة في القيام بما يتوجب عليها من إدارة سياسية ومالية واقتصادية. يتوجب على السلطة الكريمة (والمعذرة من المواطنين إذ نصف السلطة بالكريمة ولو على سبيل المجاز فقط) أن تدرك أن توفير الكهرباء ٢٤ ساعة في اليوم حقّ للمواطن، للفقير قبل الغني؛ وذلك أمر ممكن تحقيقه في غضون أشهر قليلة فتعود الكهرباء إلى ما كانت عليه في النصف الثاني من التسعينيات حين تحسنت الجباية وتم توفير الكهرباء على كامل الأرض اللبنانية. وصارت مؤسسة كهرباء لبنان لديها فوائض مالية أودعتها لدى وزارة المالية (اسألوا مهيب عيتاني). وعندما تقول السلطة الآن إن الكهرباء كلفتها كذا وكذا بسبب النفط وغلائه، فإنها تتجاهل أولا أن للكهرباء كلفة ومردوداً، وان الكلفة أمر على الدولة تأمينه، وان المردود على الدولة جبايته؛ وانه إذا لم تتم جباية المردود بما يعادل او يفوق الكلفة فهذا مؤشر على عجز السلطة الحاكمة، وليس مؤسسة كهرباء لبنان وحسب. باختصار على الدولة تأمين الكهرباء للمواطنين على مدار الساعة، وهذا حقّ لهم؛ أما شؤون الكلفة والمردود فهذا شأن إداري ـ سياسي، وعلى الحكومة أن تحل المشاكل المترتبة عليه، هذا إذا أرادت الحكومة أن تكون سلطة تمثل الجمهور، أي الشعب، ولا تريد أن تخصخص، أي أن تبيع ممتلكاته بالرخص؛ وكل تجهيزات ذات أعطال، ولا تعمل كما يجب، فإنها ستباع بالرخص. أما الهاتف، فقد تراجعت الخدمة على صعيد الشبكة الثابتة وعلى صعيد الخلوي. وقد كانت الخدمة أفضل من ذلك بكثير في التسعينيات، بفضل إجراءات بسيطة، ودون إصلاحات كبرى. وقد رأينا منذ أيام تعبير الخصخصة هو ملخص خطة الهاتف على شفاه الوزير المغادر والوزير القادم في جلسة الاستلام والتسليم، فكأنها، أي الخصخصة شيء مسلّم به في قطاع يفترض أن يكون مردوده على الدولة، بحالته الراهنة، حوالى مليار دولار سنوياً؛ هذا إذا لم تتجاهلوا التقارير الجدية حول الموضوع (والحديث هنا صادر عن خبرة شخصية). أما بقية قطاعات البنى التحتية من مياه، وصرف صحي، وطرقات، ونفايات صلبة ومدارس، وجامعات، فهي أيضاً حقوق للمواطن، ويتم تأمينها حتماً، سواء عن طريق المواطن مباشرة او عن طريق الدولة بواسطة الضرائب التي تجبيها من المواطن. وإذا أرادت السلطة أن تتنصل منها، فلتقل لنا إنها عاجزة عن القيام بما يقوم به المواطن فردياً. وكذلك الحقوق الاجتماعية من تعليم وطبابة وضمان شيخوخة وضمان اجتماعي، فهذه أيضاً ضرورات يتوجب تأمينها، وهي حتماً تتأمن عن طريق المواطن مباشرة او عن طريق الدولة بواسطة الضرائب المجباة منه. في الحالتين يدفع المواطن كلفة هذه الخدمات، إلا إذا قالت لنا السلطة إنها لا تستطيع، او لا تريد، استخدام أجهزتها لهذا الغرض؛ وفي ذلك إقرار بالعجز او التنصل من المسؤولية. ولا ندري أيهما أسوأ. الإمكانات التقنية والإدارية متوفرة بكثرة لدى اللبنانيين؛ ونحن نرى اللبنانيين، أفراداً وشركات، مقاولين ورجال أعمال، يسافرون (يهاجرون) إلى بلدان الخليج وأفريقيا وأوروبا وكندا وبقية العالم، ويساهمون مساهمة جلية في اعمار تلك البلدان وفي إنهاضها وتقدمها. والكثيرون منهم لا يمانعون في العودة إلى لبنان والعمل فيه. والبركة أيضاً في اللبنانيين المقيمين، الذين يعملون في بيروقراطية الدولة وخارجها؛ لديهم إمكانات تقنية وأخلاقية هائلة. لا يحتاجون إلى إصلاح وتأهيل، بل إلى تشغيل. وكم من وزارة جيء إليها بوزير قادر واستطاع تشغيلها دون إصلاح هيكليتها ودون معاقبة موظفيها واهانتهم (بالإصلاح) ودون استصدار قوانين جديدة. الدولة فيها هيكليات وقوانين تكفي لمن يريد العمل والإنتاج، ولمن يعرف ويريد ذلك. لا يلزم أهل السلطة إلا أن يكون لديهم على رأس الوزارات من هم على استعداد لذلك. هناك إذن، حاجات للناس هي حقوق لهم، وهناك أموال متوفرة، وهناك إمكانات تقنية. على أهل السلطة أن يقولوا كيف سيضعون هذه العناصر في إطار برنامج لبناء الدولة. ليست الدولة إصلاحاً لقوانين ومعاقبة لموظفين ورسماً لهيكليات تنظيمية جديدة. الدولة هي سياسة استخدام الإمكانات المتاحة لتلبية حاجات الناس، هي اخذ القرارات ووضعها في إطار، هي إدارة الإمكانات المتوفرة (وهي متوفرة بكثرة)، هي خطة العمل التي تلتزم بها السلطة تجاه مجتمعها. يقول الناس بصراحة: لا يهمنا برنامجكم الوزاري إذا لم يشمل هذه الأمور، إذا لم يحو خطة تجمع بين الإمكانات المالية المتوفرة، والإمكانات التقنية المتوفرة، وحقوق الناس المحجوبة عنهم؛ وإذا كنتم قد نسيتم فإن هناك خططاً كثيرة في الدولة، وهناك خطة شاملة في مجلس الاعمار لا تحتاج إلى تحديث، لأنها وضعت منذ زمن وجيز؛ إلا إذا كنتم تريدون تجاهل كل ما لا يدور في رؤوسكم. الخطط موجودة، والإمكانات متوفرة، ولا لزوم للإنكار؛ إلا إذا كانت هناك خطط خفية. يقول الناس أيضاً لأهل السلطة إن عهد المعجزات قد ولّى وانقضى؛ ولا يتوقعون منهم المعجزات. كل ما يريدونه منهم هو أن يقولوا لنا كتابة، وفي البيان الوزاري ماذا سيفعلون بشأن الإمكانات المتاحة وتلبية حاجات الناس. لا يطلبون منهم الكثير، ما يطلبونه هو الحد الأدنى. بهذا الحد الأدنى يصير للدولة قوام، وتصير الدولة إطاراً ناظماً لكم ولنا.