ضيفت مؤسسة الحوار الانساني بلندن الدكتور محمد الربيعي في امسية ثقافية يوم الاربعاء 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2021 للحديث عن تأثيرات الوراثة والبيئة على الذكاء البشري، وقد حاول الاجابة على السؤال المركزي وهو: هل الذكاء وراثي ام بيئي ام كلاهما؟ .
د. محمد الربيعي بروفسور متمرس في الهندسة البيوكيميائية في جامعة دبلن، شغل العديد من المناصب العلمية في المملكة المتحدة والعالم، منها استاذ في جامعة برمنغهام البريطانية، واستاذ مرتبط بجامعة كوينزلاند الاسترالية، واستاذا زائرا في عدد من الجامعات الغربية، وشغل عضوية المجلس الاستشاري العلمي لشركة “سيغما” وشركة “فيفالس” وعضوية لجنة وضع سياسة الدولة الايرلندية للقوى العلمية العاملة. كما عمل مستشارا علميا لرئيس جمهورية العراق جلال الطالباني، ومستشار لمنظمة اليونسكو في العراق. وهو رئيس شبكة العلماء العراقيين في الخارج (نيسا) وزميل الجمعية الملكية البيولوجية، وزميل معهد كونواي للعلوم الطبية، وحائز على “ميدالية دونالد” العالمية، وجائزة مؤسسة العلوم الايرلندية وجائزة مؤسسة استيلاس اليابانية، ومحرر دورية “هندسة الخلايا”. الربيعي هو اول من إكتشف الموت الخلوي المبرمج في الخلايا المزروعة، ومن اوائل الذين تمكنوا من إنتاج كريات الدم الحمراء بصورة إصطناعية، وصناعة كبد من خلايا مزروعة خارج الجسم. نشر أكثر من 600 ورقة بحثية ومقالة وفصل في كتاب تعكس إهتمامه الواسع بهندسة زراعة الخلايا، والخلايا الجذعية، وموت الخلايا المبرمج، بالاضافة الى إهتماماته بسياسات التربية والتعليم.
مقدمة
كثيرا ما تتم مقارنة درجة ذكاء الأطفال بعوائلهم، فيثير دهشتنا طفل ذكي لأبوين بليدين، بينما لا نجد في الأمر غرابة عند رؤية طفل عادي الذكاء لعائلة قليلة الذكاء أو غير متعلمة، أو طفل خارق الذكاء لعائلة عريقة في المعرفة، فالأمر كما يبدو أن العلاقة بين الوراثة والذكاء مسألة محسوسة لا غبار عليها، إلا أننا نريد التحقق منن ذلك علميا فنطرح السؤل… هل الذكاء حقا وراثي؟
ما هو تعريف الذكاء في يومنا؟
هناك إجماع واسع حول النموذج الهرمي للذكاء والذي وضعه جون بيسيل كارول عام 1993 والمتكون من ثلاثة مستويات: في قاعدة الهرم هناك حوالي ثلاثين قدرة محددة ، مثل مهارات التفكير ، والذاكرة البصرية ، وسيولة الأفكار ، والطلاقة العددية ، والمفردات. في المستوى الثاني ، يتم تجميع هذه القدرات في ثمانية عوامل رئيسية، بما في ذلك الذكاء السائل ، والذكاء المتبلور ، والذاكرة ، وسرعة معالجة المعلومات ، إلخ. في الجزء العلوي من الهرم يوجد عامل ذكاء عام.
من بين هذه المفاهيم ، يمكننا تحديد عنصرين متعارضين:
- الذكاء السائل (أو المنطقي الرياضي) يجمع بين قدرات التفكير والمنطق. لا يعتمد على التعلم ولا على ثقافة الموضوع.
- الذكاء المتبلور (أو اللفظي) ، على العكس من ذلك، يعتمد على المعرفة أو المهارات المكتسبة: فهم اللغة وثراء المفردات ومهارات القراءة، إلخ.
حاليا، في علم النفس المعرفي، لا يستخدم مصطلح الذكاء الضمني. بدلاً من ذلك، يتم التحدث عن الأداء في مجالات مختلفة ، مثل الوظائف التنفيذية والمرونة والتحكم وسرعة المعالجة وقدرات الذاكرة العاملة والتفكير، وهي في الواقع العوامل الرئيسية لنموذج كارول. سيكون عامل الذكاء حسب هذا التعريف عبارة عن مزيج بين سرعتنا في معالجة المعلومات وقدرتنا على التركيز وإدارة المشكلة إلى جانب الذكاء المنطقي الرياضي واللفظي الذي يفضله النظام المدرسي . تسائلي ينصب على ما اذا كانت هناك ضرورة للاعتراف بوجود أشكال محددة من الذكاء في مجال الرياضة والرقص والموسيقى والعلاقات الاجتماعية. يقدم هوارد جاردنر رؤية واسعة جدا للذكاء. بالنسبة له، إنه “القدرة على حل المشكلات وإنتاج سلع لها قيمة في واحدة أو أكثر من الثقافات أو المجتمعات” (قدرة أو مجموعة من المهارات التي تسمح للشخص بحل المشكلات أو تصميم منتج تعتبر مهمة في سياق ثقافي معين).
نظرية وراثة الذكاء
لكي نجيب عن سؤال ” هل الذكاء وراثي؟” لابد أولا من إلقاء نظرة على مفهوم الذكاء وطرق قياسية، تعريف الذكاء لا يزال غامضا، ويشير في جوهره إلى ” القابلية على التفكير المجرد” ولا يعتبر البعض الذكاء قابليات أو قدرات متميز بعضها عن بعض بل هو بنية من السلوك المتوازن، وهو من حيث الجوهر جملة من العمليات الحية الفعالة، أو نظام معين لهذه العمليات، ولا نود هنا مناقشة نظريات الذكاء المختلفة ولكننا نريد أن نتعرف على علاقة الذكاء بكل من الوراثة والبيئة، ولمعرفة ذلك لابد من مقاييس معينة تحدد درجة الذكاء، وهي في يومنا هذا كثيرة ومختلفة بالرغم من ارتكازها على أسس مشتركة، وتشمل أسئلة مختلفة في الرياضيات ومفردات ومهارات التحليل المنطقي.
ارتبطت اختيارات الذكاء منذ البداية بنظرية الذكاء الفطري ودعمتها، وتسلم هذه النظرية بأن الذكاء هو القدرة الفكرية الفطرية الموجودة لدى كل فرد منذ الولادة وبكمية محدودة تختلف باختلاف الأفراد، والأمم كالأفراد تنقسم إلى أمم ذكية وأخرى غبية وكذا الأجناس المختلفة (البيض أذكى من السود) وأصحاب المهن المختلفة (صاحب المصنع أذكى من العامل)، والرجال أذكى من النساء…إلخ ، ويدعى أصحاب نظرية الذكاء الفطري أن اختبارات الذكاء تقيس السرعة الذهنية وخالص الذكاء ولقد أدعى بعض الباحثين أن 80%-90% من الذكاء يحدد وراثيا. وللتدليل على صحة هذه النظرية يستند أصحابها على نتائج الدراسات الكثيرة على التوائم المتشابهة، والتي ترعرعت في ظروف بيئية مختلفة وبقيت بالرغم من ذلك متماثلة الذكاء، وتتفق هذه الدراسات بشأن الارتباط معدل الذكاء ودرجة القرابة. ويعتبر حجم هذا الارتباط الحلقة الأساسية والمهمة التي تدعم نظرية الذكاء الفطري.
الانتقادات الموجهة ضد نظرية وراثة الذكاء.
بدأت الانتقادات لنظرية الذكاء الفطري في السنوات الأخيرة تتخذ طابعا علميا أفكار جديدة في مجابهة الأفكار التي سادت المدارس الغربية لفترة طويلة، والتي تمكنت من خداع الأوساط العلمية نتيجة الأنظمة السياسية التي وجدت في هذه النظرية تحقيقا لغرض ايديولوجي ألا وهو الاعتزاز عن النظام الاجتماعي الفاسد، وتبريرا للتفاوت الاقتصادي والاجتماعي الصارخ بين فئات الناس، وكذلك لتبرير الحملات الاستعمارية، والاستغلال شعوب بلدان العالم الثالث، لقد تبين بعد سلسلة من الدراسات أن كل البحوث السابقة في هذا المجال ينقصها التكامل وأنها تتضمن ملابسات إحصائية كثيرة، وعند تحليل بعض النتائج السابقة وجد أنها تثبت تأثير كبير للبيئة، كذلك أظهرت بعض الدراسات الحديثة نتائج جديدة تختلف تماما عن النتائج القديمة، فعلى سبيل المثال أظهرت دراسة أجريت في انجلترا أن الأطفال البيض يحصلون على درجات أقل من السود في فحوص الذكاء المختلفة، وفي دراسة أخرى أظهرت البنات تفوقا على الأولاد درجات الفحوص، وظهر في الولايات المتحدة أن ذكاء السود كما تحدده مقاييس الذكاء يقل كلما كان في أجدادهم عرق أبيض، ويبدو أن التحييز الواعي أو اللاوعي لعب دورا كبيرا في « فبركة» النتائج التي تدعم نظرية الذكاء الفطري حيث ثبت أن الخلفيات الاجتماعية للباحثين تلعب دورا كبيرا في تحديد نتائج الدراسة والمسألة الرئيسية لا تكمن في مدى صحة هذه المحاولات التجريبية، وإنما في مدى صحة نظرياتها حيث تبنى كل الادعاءات بوراثة الذكاء على تكهنات نظرية تعتبر قياسا للتركيب الاجتماعي وقياسا لتركيب فرضيات الفاحص، وقياسا للقابلية الدراسية للأشخاص المفحوصين. وقد يبدو التأكيد على عدم وجود أي تحديد وراثي للذكاء تطرفا علميا، في الوقت الحاضر لا يمكننا إثبات هذه الفرضية، السؤال المطروح حاليا هو هل هناك نتائج صحيحة وجديرة باهتمامنا تستدعي رفضنا هذه الفرضية؟ وهل هنالك مفهوم وتعريف واضح ومحدد للذكاء وتحديد طبيعته؟ إن كل ما يمكن قوله بخصوص أسئلة فحوص الذكاء هو أن الذين لا يستطيعون الإجابة عليها لم يتعلموا أساسا ما كان المدارس راغبا في تعليمهم إياه، بعدها يطلب منا الاستنتاج بأن الحصول على درجات قليلة في هذا الفحص يعني تخلفا وراثيا.
ويبدو أن فكرة كون الإنسان آلة غامضة أقوى من أن تقاوم، فقد احتضنت المدارس النفسية الغربية فكرة برمجة الإنسان لإنتاجه وفقا لشفرة وراثية معينة وتناسب الإثباتات العلمية التي تؤكد على تأثير البيئة القوى في شخصية الإنسان وتصرفاته ورغباته وذكائه، والنتيجة أننا دائما يمكننا تغيير طراز حياتنا إذا ما تم لنا تغير بيئتنا.
وكما هو بالنسبة إلى الخواص الأخرى للتصرفات المعقدة ولربما أيضا إلى بعض الصفات الجسيمة، فإن الصفة المعينة هي بالتالي نتيجة التداخل المستمر بين المؤثرات الخارجية على الكائن وتلك الاستجابات التي يؤديها ذلك الكائن، والأكثر من هذا تعتمد استجابات التصرفات عند الإنسان في أكثر الأحيان على الخبرة المكتسبة من بيئات سابقة بعضها يصنعها أو يؤثر بها الشخص نفسه.
وهذا يعني أن البيئة تكون مندمجة بالحالة السيكولوجية (النفسية) للشخص حيث تكون استجابته معتمدة على الخبرة السابقة، وعندما نتعامل مع عملية تاريخية من هذا النوع، فإن نسبة الاستجابة النفسية التي يمكن أن تعزى إلى الوراثة او الى البيئة غير واضحة بالتأكيد.
ونحن نرى أن القدرات العقلية بما في ذلك الذكاء تتطور أثناء نشاط الإنسان اليومي، وهذا قد يعني انها فطرية تتأثر بالبيئة، والذكاء وظيفة الدماغ وهو لا يظهر إلا عن طريق تبادل المعلومات مع البيئة حيث ينشأ أثناء عملية الممارسة الواعية، ولا شك في أن الحدود القصوى للسعة الذهنية تقرضها بنية العقل وهي الدماغ، والتي تحدد من قبل جينات ومن الموضوعي أيضا أن نفرض أن تلك الحدود القصوى للسعة الذهنية من شخص لآخر حيث تعتمد على الكيفية التي تعمل بها الجينات وهذا يعني وجود حدود قصوى للمعلومات المخزنة في ذاكراتنا، كما أنه لابد من وجود حدود قصوى للسرعة التي يعمل بها الدماغ، فمثلا رسالة الألم ، تأخذ بعض الوقت لكي تصل إلى الدماغ عند احتراق الإصبع ، كذلك تحتاج الرسائل إلى بعض الوقت ولو كان ذلك ضئيلا جدا للانتقال من مكان في الدماغ إلى آخر، وما أحب أن أؤكد عليه في هذا السياق هو انعدام الأهمية التطبيقية للحدود القصوى المقررة وراثيا، لأننا لا نتمكن أبدا من الوصول إليها، فحتى أكبر عباقرة العالم وعلمائه وفلاسفته، لا يستغلون إلا أقل من نصف قوتهم الذهنية الشاملة ، أما الإنسان العادي فلا يستعمل إلا جزءا ضئيلا جدا من القابليات الذكائية المتاحة له ، لذلك يجب تجنب التركيز على القابليات المحدودة والتفكير القاصي، بل يجب التأكيد على إعطاء اهتمام أكبر لإمكانية توسيع هذه القابليات وتطوريها، فالطفل يولد بعبقرية متوازنة متكاملة ، وقابليات كامنة وقدرات اجتماعية مثيرة لا يظهر أي منها إلا عندما يمنح فرصا متكاملة للنمو ولتصل بعدئذ إلى أعلى مستوياتها عند توفر الظروف البيئية المثلى.