
د.أمل الأسدي
ترتكُز العمليةُ التواصليةُ علی ثلاثةِ عناصرٍ: المرسِل، المرسَل إليه، الرسالة، وحين نبحثُ عن خطابٍ تواصليٍّ أمثل، أو نبحثُ عن الصورةِ المثلی لحريةِ التعبيرِ عن الأفكارِ والرؤی والمشاعرِ، سنجدُها في الخطابِ الإلهيِّ القرآنيِّ، أو بصورةٍ أدقٍّ نجدُها في الحوارِ القرآنيّ بين اللهِ تعالی والأنبياء، ونجدُها في خطابِ الرسولِ الأعظمِ وأهلِ بيتهِ (صلوات الله عليهم) فكلامهم دونَ كلامِ الخالقِ وفوقَ كلامِ المخلوقينَ، ولو أنعمنا النظرَ في الخطابِ الإلهيِّ(الحوار) المباشرِ أو غيرِ المباشرِ ستتجلی لنا حريةُ التعبيرِ، والاستيعابُ المطلقُ بالشكلِ الذي يهذِّبُ الإنسانَ ويربّيهُ ويروّضهُ علی تقبّلِ الآخرِ والإصغاءِ إليهِ .
الأنموذج الأول:حوار الله تعالی مع الملائكة:
حوارُ اللهِ تعالی مع الملائكةِ حينَ خلقَ آدمَ(عليه السلام) وأمرهم بالسجودِ لهُ،ومع أن الأمرَ صادرٌ من الأعلی إلی الأدنی إلاّ أن ربَّ العزةِ والجلالةِ سمحَ للملائكةِ بالحوارِ وطرحِ الأسئلةِ والاستفهامِ والتعبيرِ عن رؤاهم علی أتمِّ وجهٍ كما في قولهِ تعالی:(( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ۞وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ۞ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۞قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ۞وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ)) سورة البقرة ، الآيات:٣٠ -٣٤
ويمكنُنا تصورَ المشهدِ عن طريقِ تكرارِ الفعلِ (قال) بصيغهِ المختلفةِ في هذه الآيات، فهو مشهدٌ حواريٌّ غيرُ مقيّدٍ، فعلی الرغمِ من أنّ ابتداءَ الرسالةِ أو الخطابِ،كانَ من الباري عزَّ جلَّ وبسياقٍ ثابتٍ ومؤكَّدٍ بقولهِ:(إني جاعلٌ..) إلاّ أنَّ الملائكةَ اعترضوا وأبدوا رأيهم مستفهمينَ ومفترضينَ بقولهم(أخلقت فيها من يفسدُ فيها ويسفك الدماء؟!)
ولم يكتفوا بذلك ؛بل اعتدّوا بأنفسِهم قائلينَ:( ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) ومع حوارِهم هذا استمعَ جلّ جلالُه لهم، وبيّن لهم حقيقةَ الأمرِ الذي كانَ غائبًا عنهم،وقدّمَ لهم الحجةَ علی ذلك حين( علم آدام الأسماء كلها) بينما هم لم يكن لهم علمٌ بها، ألا وهي أسماءُ الأنوارِ المحمديةِ(فاطمة وأبوها وبعلها وبنوها)
وداوم الحوارَ مع الملائكةِ حتی اقتنعوا وسجدوا وأطاعوا، بينما رفضَ إبليسُ الاستجابةَ حتی بعد البينةِ، ومع ذلك أتاحَ لهُ الباري الفرصةَ للحوارِ والتعبيرِ عن موقفهِ،بل وأمهلهُ حتی قيامِ الساعةِ!!
((قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ۞ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ۞قَالَ أَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ۞ قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ ۞ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ۞ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ۞ قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا ۖ لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ ))
سورة الأعراف،الآيات:١٢ -١٨
فعلی الرغم من إصرارِ إبليس علی موقفهِ وعنادهِ وجدالهِ إلاّ أنه تعالی سمحَ له بالحوارِ وعاملهُ بحِلمٍ شديدٍ، امتدَّ هذا الحِلمُ الی هذه اللحظةِ!!
الخطابُ الإلهي وحرية التعبير(2)
الأنموذج الثاني:
حوار النبي إبراهيم (عليه السلام)مع الله تعالی:
ومن المشاهدِ الأخری الدالةِ علی حريةِ التعبيرِ، حوارُ النبيِّ إبراهيم (عليه السلام).في قوله تعالی:((وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)) سورة البقرة،الآية 260 ، فنلاحظ الاستماعَ إلی الرأي والاستجابةَ للطلبِ والمحاورةَ مع النبي إبراهيم علی الرغم من أنّ المفروضَ أن يكونَ الإيمانُ أوالاطمئنانُ أمرًا مفروغًا منه بالنسبةِ للنبيّ إبراهيم الذي اصطفاهُ اللهُ ليكونَ خليلًا له، وبعيدًا عن دوافعِ النبيِّ إبراهيم التي حركتهُ للسؤالِ، سواءً إن كانت إرادةُ اللهِ في جعلهِ جزءا من بيانِ قدرتهِ تعالی وشاهدا عليها، أم هو نتيجةً لموقفٍ آنيٍّ عاشهُ النبيُّ إبراهيم بعد قصته مع النمرود،يبقی هذا الحوارُ درسًا فريدا في حريةِ التعبيرِ عما يجولُ في الخاطرِ، حريةٍ مصحوبةٍ بتقديرِ الذاتِ المتكلمةِ، وهذا ما لحظناهُ في حوارِ الملائكةِ أيضا، وهو أمرٌ في غايةِ الأهميةِ، إذ يعلِّمُنا اللهُ تعالی أن نرفعَ رؤوسَنا ونخاطبَ ونبسطَ حجتَنا،ونستفهمَ ونستدلَ،ولا نسلِّمَ لرأي ما من دونِ حجةٍ وقناعةٍ.
🔴الأنموذج الثالث:
حوار الله تعالی مع النبي موسی(عليه السلام)
ثم ننتقلُ الی مشهدٍ حواريٍّ قرآنيٍّ آخر، ألا وهو حوارُ النبيِّ موسی(عليه السلام) مع ربِّ العزةِ والجلالةِ:(( فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَىٰ ۞ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ۖ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى۞وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىٰ ۞ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ۞ إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ ۞فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لَّا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَىٰ ۞وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَىٰ ۞ قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ ۞قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَىٰ ۞ فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ ۞قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ ۖ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَىٰ ۞ وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَىٰ جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَىٰ ۞ لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى ۞ اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ ۞ قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ۞وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ۞وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي ۞ يَفْقَهُوا قَوْلِي ۞وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي ۞ هَارُونَ أَخِي ۞اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ۞وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ۞كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا ۞ وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا ۞ إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا ۞ قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَىٰ۞وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَىٰ )) سورة طه: الآيات :١١-٣٧
جسّدتْ هذه الآياتُ مشهدًا حواريا عجيبا،كيف لا والمحاوِرُ هو الباري عزّ وجل، الذي بدأ خطابَهُ بسياقٍ فخمٍ مؤكدٍ ( إني ، أنا، ربكَ) ثم أمرهُ فورا بـ خلعِ نعلِه(فاخلع نعليك) إنك بالوادي المقدس (طوی) فهنا المشهدُ رهيبٌ وعظيمٌ، صادرٌ من الجهةِ العليا الی الدنيا، رسالةٌ وحوارٌ مباشرٌ تضّمن مجموعةً من الآوامرِ الربانيةِ:(استمع، أطع، اعبد، أقم…)، ثم تحوّلَ الخطابُ من العظمةِ والرهبةِ إلی اللينِ:(وما تلك بيمينك ياموسی) فردّ عليه النبيُّ مفصِّلًا:( عصاي، أتوكأ عليها،أهش بها، ولي فيها مآرب أخری) فجاءه الأمرُ بإلقائِها، فألقاها، فإذا هي حيةٌ تسعی، فسكّنَ اللهُ روعَهُ وثبّتهُ وواصلَ الحوارَ معهُ كاشفًا عن الرسالةِ أو التكليفِ المناطِ بهِ، وعلی الرغمِ من رهبةِ الموقفِ وجلالهِ إلاّ أنَّ النبيَّ موسی (عليه السلام) أخذَ كفايتَهُ من الحديثِ وعبّرَ عمّا في داخلِهِ وطلبَ مجموعةً من الأمورِ، وطلبها بشكلٍ متعاقِبٍ ومتسلسلٍ، ولم يُخفِ ولم يَخفْ ولم يِضمِر شيئا :(اشرح لي صدري،احلل عقدة من لساني يفقهوا قولي، اجعل لي وزيرا،من أهلي، هارون أخي، اشدد به أزري،أشركه في أمري)، فيستمع المولی لحديثهِ و يستجيبُ لطلباتِهِ كلِّها، فأيةُّ حريةٍ تلك؟!! وأيةُّ تربيةٍ؟!! وأيُّ منهاجٍ عظيمٍ يرسمهُ اللهُ لنا، يربّي الإنسانَ علی الاعتزازِ بذاتِهِ، والإيمانِ بحريتِهِ،حريةٍ فكريةٍ تامةٍ، فحتی حين كان الحوارُ في حضرةِ المَلِكِ الجبّارِ، وكان حوارا تكليفيا رساليا، كانت حريةُ التعبيرِ حاضرةً بقوتِها، والاستماعُ والاسيتعابُ حاضرينِ علی أتمِّ صورةٍ!!
الأنموذج الرابع:حوار اللهِ تعالی مع النبيّ عيسی(عليه السلام)
ومن نماذج حريةِ التعبيرِ الأخری قوله تعالی:((وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ ۖ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ۚ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ۚ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ۞ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ۚ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ ۖ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ۞ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ۖ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )) سورة المائدة،الآيات:١١٦ -١١٨
تدور آراءُ المفسرينَ في توجيهِ هذه الآياتِ أو المشهدِ الحواريّ علی أنه مشهدٌ سيكونُ في يومِ القيامةِ،أو أنه مشهدٌ قام حين رفع اللهُ تعالی عيسی( عليه السلام) إليه، أو أنه خطابٌ تحذيريٌّ الی النبيّ عيسی،أي إياكَ أن تقول هذا الكلام!! أو أنهُ إخبارٌ للنبيّ بأن قومَهُ أشركوا باللهِ تعالی ونسبوا الكلامَ إليه. يُنظر علی سبيل المثال:.تفسير الطبري،تفسير القرطبي،تفسير الطبرسي
ونحن هنا نودُ التحدثَ عن نقطتينِ مهمتينِ، الأولی :متعلقةٌ بدلالة هذا الحوارِ وأهميتهِ ضمن هذا السياقِ القرآنيِّ، فبعيدا عن توجيهاتِ المفسرينَ للآياتِ الكريمةِ،نری أن هذه الآياتِ وتمظهرَها بهذا الشكلِ الحواريِّ بين اللهِ تعالی والنبيِّ إنما هو إنباءٌ من اللهِ تعالی لما ستكونُ عليه الأمورُ المستقبليةُ بالنسبةِ للنصاری، أي أنه إلقاءُ حجةٍ تامةٍ عليهم،بوساطةِ نفي نبيهم لألوهيتهِ وأمهِ(عليهما السلام) وإقرارهِ بالعبوديةِ للهِ تعالی!! ورغمَ هذا الإنباءِ والتحذيرِ نجدُ من يقولُ حتی عصرِنا هذا : إن اللهَ ثالثُ ثلاثة!!
أما النقطةُ الأخری :فهي متعلقةٌ بموضوعِنا عن الخطابِ الالهيِّ وحرية التعبير، فقد استفهمَ اللهُ تعالی من النبيّ عيسی عن حقيقةِ قولِهِ، فأجابه النبيُّ بكلِّ أدبٍ وبشكلٍ تفصيليٍّ يتناسب مع استفهامِ ربِّ العزةِ والجلالةِوتقريرهِ:
١- قدّم ما ينزِّه اللهَ تعالی عن الشركِ فقال: سبحانك!!
٢ – واصلَ ردَّه نافيًا أن يصدرَ عنه مالا يحقُّ قولُه!!
٣- بسطَ حجتَه أكثرَ أمامَ المولی عزّ وجلّ فقال: إن كنتُ قد قلته فأنتَ تعلمُ به!
٤- تعلمُ مافي نفسي،ولا أعلمُ مافي نفسِكَ، وكأنهُ يعلنُ عن جهلهِ بعلةِ استفهامِ المولی رغم أنه يعلمُ مافي نفسِ النبيِّ ويعلمُ توجهَهُ وسلوكَه مع قومهِ.
٥- أكدّ للمولی أنه عليمٌ مطلعٌ علی الغيب فقال:إنكَ أنتَ علاّمُ الغيوب
ويمكنُ للمتلقي أن يتأملَ في لوازمِ التأكيدِ في السياقِ(إنّ ـ أنتَ،علاّم،الغيوب)كلها تجعل السياقَ مؤكداً قوياً ثابتاً.
٦- نفی النبيُّ عن نفسه أنه قال شيئا سوی ما اُمِر به، وهو
الأمر بعبادةِ اللهِ تعالی وهو ربُّهُ وربُّهُم.
٧- إن اطلاعي علی قومي مرهونٌ بوجودي بينهم، عدا ذلك فإنكَ أنتَ الرقيبُ عليهم!
٨- اختتم النبيُّ إجابتَهُ بإحالةِ الأمر لله تعالی، فهم عبادُهُ والأمرُ متروكٌ إليه، يغفر لهم أو يعذِّبهم، إنه العزيز الحكيم.
فنلاحظُ مدی حريةِ التعبيرِ في حضرةِ المولی،فحين سألَ الجليلُ سؤالا واحدا، ردّ عليه النبيُّ رداً مفصلا مبسوطا، أظهر فيه براءتَه وقدّمَ حجتَه بطريقةٍ حواريةٍ شفافةٍ، استغرقتْ وحداتٍ لغويةٍ عديدةٍ، تلقّاها ربُّ العزةِ وتقبّلها قبولاً حسنا إذ واصل حوارَهُ مع النبيّ :((قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ))سورة المائدة،الآية :١١٩