حسن المياح
ما قلناه عن الحقيقة من أنها مطابقة الفكرة للواقع، فإن هذا ينطبق بالتمام على النقد من أن الفكرة والتفكير والرأي يتطابق مع الشيء الموضوع في الخارج . وهذا الشيء يتبع الميدان الذي ينتمي اليه أصالة موضوع، كما هو في أي ميدان من ميادين الحياة الأدبية واللغوية والبلاغية والإجتماعية والنفسية والإقتصادية والحقوقية والسياسية، وما الى ذلك من ميادين، والسياسية هي أساس موضوعنا الذي نركز عليه.
والشيء هذا الذي هو الموضوع في الخارج المراد نقده، متعدد الوجودات وألوان الماهية، وكما قلنا أنه تبع الميدان الذي ينتمي اليه عنوان موضوع … ففي الحقل الأدبي مثلآ الرواية والقصة بأنواعها، والقصيدة الشعرية والمنثورة، والمسرحية والتمثيلية، والخاطرة والمقالة د وما الى ذلك من نشاطات أدبية .
فكل واحد منها كنوع نشاط هو موضوع في الخارج، ولا بد للناقد الذي يتناول أي نشاط منها تحليلآ وتفصيلآ، وفهمآ ووعيآ، ومذاق جمال تجربة إنتاج نشاط أدبي، وبحثآ عن الجيد والمتهافت منه، وتقييمآ وووووو…الى أن ينتهي الأمر الى إصدار حكم على ذلك النشاط الأدبي، ويقول رأيه وفكرته وما توصل اليه تفكيره من حكم وتقييم..فإن وافق رأيه وتفكيره وفكرته وما أصدره من حكم وتقييم، النص الموضوع بين يديه وتحت بصره وفي متناول ذهنه وتفكيره (النشاط الأدبي الذي هو الموضوع في الخارج المزمع نقده)، وتطابق الرأي مع ما هو موجود في النص الموضوع في الخارج مطابقة صحيحة تامة، واصفة حقيقة ما في النص من مكونات ومكنونات..فإنه نقد حقيقي موضوعي، لا شوب إختلاف بين ما هو موضوع، وبين ما هو فكرة وتقييم ناقد…فيكون هذا نقدآ بانيآ مثمرآ واعدآ لما هو أفضل وأصلح .
وطبعآ هناك نوع إختلاف بين ما هو الحقيقة، وبين ما هو نقد، من حيث درجة التطابق، وذلك لدخول عنصر الذاتية في الحكم والتقييم النقدي، الذي لا وجود له في تطابق فكرة الحقيقة على موضوعها، لأن الحكم – “حكم الحقيقة” – حدي جاد صارم لا يقبل للذاتية أن تكون عنصرآ من عناصر مكونات الفكرة التي تطابق الواقع، فالتفاحة تفاحة، لا غير، ولا شيء يشبهها أو يماثلها تطابقآ، فهي أما تفاحة..أو لا تفاحة ؛ بمعنى أنها شيء آخر، ولا يجتمع هذا الشيء الآخر مع التفاحة، ويطلق عليه أنه تفاحة، أبدآ ومطلقآ … وذلك لأنه لا إجتماع بين الحقيقة والخطأ.
بينما في النقد يمكن للذاتية – وبصورة غالبة – أن تكون عنصرآ داخلآ وفاعلآ في الحكم والتقييم، ويمكن لها أن تضئل من صدقية الرأي المراد تطابقه للموضوع، بدرجة تسبب بعض الخدش الذي يؤثر على تمامية المطابقة بين فكرة ورأي الناقد وبين الموضوع المتناول في النقد، لأن الإنسان مركب من عقل وعاطفة، ومتى ما تغلب العقل حكمآ، فهو يصيب المطابقة دنو التمام وإقتراب الكمال، ويحقق أكبر درجة من التطابق، ويكون نقدآ حقيقيآ موضوعيآ بالجانب الذي هو محض عقل، وهنا تتحقق وتكون درجة المطابقة درجة ومرتبة الحقيقة عنوان مصداق..
وأما الجانب الآخر الذي فيه خلطة نعومة عاطفة، ومزجة ميل عاطفة وتعاطف، فأن الحكم المعطى جرعة من العاطفة الملينة للعقل الصادر والتقييم، لا يمكن أن يكون نقدآ حقيقيآ خالصآ موضوعيآ درجة الكمال والتمام، وهو النقد المبحوث عنه والمراد وهو المطلوب ؛ وإنما هو نقد – على أي حال – يقترب من الموضوعية درجة دنو قليلة ضئيلة حسب تغالب التأثير بين العقل والعاطفة ؛ لكنه لا يعبر عن تمام الحقيقة، ولا عن كمالها المطلق، وهو الذي يسمى- لو صح التعبير، وهو صحيح – بـ “النقد النسبي”، لما للذات فيه من تأثير، ويمكن أن يعبر عنه بالنقد النسبي الذاتي الذي فيه نوع من الجقيقة الموضوعية التي لا ترتقي به الى مصاف ودرجة ومرتبة الحقيقة التي تتطابق فيها الفكرة والموضوع مطابقة تمام وكمال، لا شوب للذات درجة مدخلية أو مثول، كما هي التفاحة أنها تفاحة، وليس غير..؟
وهذا الخلط الذي هو شبيه بالتناقض – وليس هو تناقض – جاء من جراء إمتزاج مصاحبة العقل والعاطفة تقاسم إصدار حكم مشترك على إنعزال وفرقة، كل له حصته بقدر درجة تأثيره، ولم نقل عنه أنه إمتزاج تفاعل وصراع تحويل وإلغاء هوية ليكون تناقضآ، وينتفي دور كل من العقل والعاطفة، وينتج شيئآ جديدآ، لا هو عقل، ولا هو عاطفة، بسبب نفي الهوية من جراء الصراع اللاغي، والمنتج إثبات هوية شيء آخر.
وهذا فارق جوهري ومائز أساسي بين الحقيقة التي هي مطابقة الفكرة للواقع تطابقآ كاملآ تامآ لا مدخلية لعنصر الذاتية في الحكم ..وبين النقد الذي هو مطابقة الفكرة (الرأي) للواقع تطابقآ مقاربآ للتماثل التام لولا دخول العنصر الذاتي في إصدار الحكم ونوعية التقييم..ولكن النقد يبقى نقدآ موضوعيآ خالصآ متى ما آعتمد العقل وحده أساس الحكم ومصدره المنبع، وتوافر هذا النوع يتبع نوع النشاط المراد نقده والتعرض له تقييم حال صحة وجودة نشاط، وكذلك الحال يكون في النقد النسبي الذاتي الذي تتراوح درجة تأثير سلطان العاطفة في إصدار الحكم على النشاط تبعآ للميدان الذي ينتمي اليه عنوان موضوع، وما للعاطفة من درجة ومرتبة سلطان تأثير.
ومن هذه الثغرة يتعرض الناقد الى اللوم والتعنيف، والمهاجمة والتسقيط، والإبتعاد عن المهنية والتكذيب، والتهوين والتسخيف، وما الى ذلك من معاول التحبيط والهجوم العنيف، والتسفيل والإنحراف، تبعآ لدرجة نقده لذاعة وشراسة ونوع تعنيف، وربما يزاد عليه بطشآ وقسوة، وبلطجة إستهتار وإرتفاع شدة معول تهديم لشخص الناقد، وتعرضه وعرضه وشرفه الى السباب والشتائم وفحش القول والكلام التافه السفيه اللامسؤول الخبيث الهابط السخيف..وأنه ربما يتحول الى خصام وعداء، وثأر وآعتداء، وتعرض وإقتحام، وكل ما هو طلب رد فعل وإنتقام.