د. أكرم جلال
إنّ الاطّلاع على التراث الفكريّ العالميّ عموماً، أو الأوروبيّ على وجه الخصوص، وتحديداً مع انطلاقة الفلسفة اليونانيّة على يد روّادٍ أمثال بارمينيدس وإيمبيدوكليس وفيثاغورس وسقراط وأفلاطون وأرسطو، مروراً بعصر النّهضة وفلاسفة عصر الأنوار، أمثال كولوتشيو سالوتاتي وليوناردو بروني ونيكولو مكيافيللي ومارتن لوثر وجان بودين، وانتهاءً بأعمدة الفكر الحديث، أمثال جان جاك روسو ورينيه ديكارت وجورج هيغل وفرنسيس بيكون وإيمانويل كانط وفريدريك نيتشه، وغيرهم الكثير، يجعلنا ندرك أنّ الفلسفة حين تتّخذ من المنهج النقديّ وسيلةً للتفكير، فإنّها بذلك تسعى لقراءة الأشياء بمنظار جديد.
هذا الأمر، وإنْ كنّا قد رأيناه حاضراً في الفلسفة الحديثة، وتحديداً في فكر الفيلسوف كانط وأسلوبه، لكنّ الفيلسوف نيتشه، ومنْ خلال ما قدّمه، عدّه الكثيرون ناقداً للنقد ذاته، واعتبروا أنّ المنهج الذي رسمه يحمل أعلى مستويات المعرفة التي امتزجت مع الواقع الحياتي، لكونها الباعثة للقيم، وفيها تتجذّر الحقائق.
لذلك، نستطيع القول إنّ القيم والمثل العليا تشهد تراجعاً، متى ما كان الواقع الحياتيّ المعيش في طريقه نحو الانحطاط والتردّي، ليكون الحسّ النقدي واجب التواجد، من أجل تقويم الاعوجاج في الفكرة الفلسفية، وإيضاح ما التبس على العوام من الناس، وتنظيف ما أصاب الوعي الفكريّ من عفن الخداع في واحة الجهل والتّجهيل، فـ”لكلّ واحةٍ أصنامها”.
في هذا المقال، سنحاول الوقوف عند مفاهيم الكذب والخداع السياسي، انطلاقاً من أبعادها الفلسفيّة والنظريّة الإبستمولوجية، والعلاقة بين الكذب والخطأ والحقّ والصدق في حقل السياسة، وكيف أنّ الخرافة قد تنشأ وتترعرع ضمن الحدود والأبعاد الفاصلة بين الصدق والكذب، وأنّ الخداع اللّفظي أو الفعليّ في ميدان السياسة سيفضي إلى تزوير الحقيقة. كما أنّ الحقيقة قد تتحوّل بدورها إلى أداةٍ بيد المخادع، يستخدمها وقت شاء من أجل التمويه والتزييف، واختراع الأساطير، وصناعة التّجهيل، وتجذير الخرافة، وبناء الوعي الزائف.
الفكر الفلسفيّ توقّف يوماً ما عند “الأكذوبة النبيلة”، كما أسماها الفيلسوف اليوناني أفلاطون، حين قسم المجتمع في “المدينة الفاضلة” إلى 3 طبقات: الحكّام الذين اعتبر أنهم يمثّلون العقل، والفرسان الذين يمثّلون القوة، وعامة الناس الذين يمثّلون الشهوة.
واعتبر أنّ المدينة الفاضلة، التي يعدّ قوامها العدل والقانون، يكمن دوامها وسرّ بقائها في إقناع كلّ طبقة بعدم التدخّل في شؤون الطبقة الأخرى، إذ انتهج لأجل ذلك ما أسماه “الأكذوبة النبيلة”. وقد استعان بالبعد الغيبي في هذا التصنيف، مدّعياً أنّ الله تعالى هو الذي خلقهم على هذه الشاكلة!
لقد تشبّث العديد من السياسيين بالكذب والخداع، معتبرين أنهما “أكذوبة نبيلة” في مدينة أفلاطون، يتسلّقون من خلالهما سلّم الحقيقة، من أجل بلوغ مراتب المدينة الفاضلة، على حدّ زعمهم، وهو كذبٌ مركّب.
أصبحنا اليوم نعيش في زمن التفاهة، حيث أصبحت الخرافة منهجاً، وغدا التّجهيل فنّاً يتسابق إليه الجهّال للفوز بكرسي السياسة، فخرجوا إلينا بعلومٍ وفنونٍ وأفكارٍ وممارساتٍ خالية من القيم والأخلاق، بعيدة عن ثوابت الدين.
نعم، أصبحت السياسة اليوم فنّ الممكن، فلا مكان للأخلاق في نظر ميكافيللي، بل إنّ العكس بات هو الصحيح، فالسلطة والحكم والعلاقات الدبلوماسية ترفع شعار الصدق في العلن، لكنّها تنتهج الكذب والغشّ والخداع وسيلة، فلا مكان للحقيقة في عالم السياسة، حتّى نُقل عن السياسي والدبلوماسي الشهير هنري ووتون، وهو من أعلام السياسة البريطانية في القرن السابع عشر، في معرض وصفه للدبلوماسية، قوله: “رجل أمين أرسل إلى الخارج، ليكذب من أجل مصلحة دولته”. واعتقد أتباع الأميركي اليهودي من أصل ألماني ليو شتراوس، وهو من المحافظين الجدد، أنّ “الجماهير لا يمكن أن تُساس وتُحكم إلا بالكذب”.
لقد أصبح السياسيون اليوم يسكنون في قصور الغشّ والخداع، ويسبحون في بحر الكذب والتزييف، ويتنفّسون هواء الأطماع والشهوات، ظنّاً منهم أنّهم حمّال فلسفة وصنّاع دولة، وقد تناسوا – يا لجهلهم! – أنّ أهل الفكر يعملون انطلاقاً من منظور نقديّ بحت، وأنّهم بذلك يسعون لتثبيت صرح الحقيقة. أمّا تجّار السياسة، فإن منهم منْ يسرح بالفكر والفلسفة خدمةً لقتل الحقيقة، وشتّان ما بين هذا وذاك!
كيف يمكن لسياسة الكذب أن تنتج المثُل حين تكون المعرفة مشوّهة!؟ إنَّ كانط وما حمله من إمكانية الأحكام التأليفية القبليّة في فلسفته النظريّة، لا يمكنه إنتاج المثل التي تقود الحياة وتقدّس الحقيقة، ولا يستطيع شخص مثل أفلاطون بناء المدينة الفاضلة بأساس الأكذوبة النبيلة، أليست هي في الواقع سجنٌ للعقل الفلسفي والفكر البنّاء؟
حين تكون السياسة مبنيّة على أساس المثل والقيم، فإنّها تكون قد تسلّحت بالمعرفة أمام كلّ ما يهدّد الحياة، ويسحق العقل، ويؤدلج ضمائر الناس، ويحوّلهم إلى قطيع من الأغنام، فتكون الدولة والنظام أشبه بالغابة، حيث الوحوش الكاسرة، والقويّ فيها لا يبقي على الضّعيف.
إنّ الَّذي ينتهج سياسة الغدر والكذب والخداع هو في الحقيقة يرفض منهج الحياة التي تقوم على أساس المعرفة؛ تلك التي لا يكون هناك مشروع للحياة من دونها، بلْ إنّه في حقيقته لا يمتلك إرادة المعرفة لبلوغ الحقيقة وتفرّعاتها وانعكاساتها على الحياة.
إنّ السياسيّ الجاهل هو ذلك الَّذي ينتهج الكذب ويمتهن الغشّ، وهو ليس إنسان الحقّ. لذلك فهو بعيدٌ عن الحقيقة. أمّا السياسيّ العارف، فهو الَّذي يقدّس المعرفة ويحملها فكراً وسلوكاً، فهو إذاً يعطي ولا يأخذ، ويضحّي ولا يغدر. إنّه في سير دؤوب طلباً للحقيقة وتثبيتاً لأركانها.
لقد سعى سياسيو الأنظمة الشمولية إلى التلاعب بالواقع كما يشاؤون، فهم يحرّفون الحقيقة وفق ما تقتضيه مصالحهم، ويجزّئونها، ويتلاعبون بأبعادها، وينْظرون إليها من نافذة المنفعة والمصلحة، ولا وجود للحقيقة في منهجهم وسلوكهم.
لقد تزيّفت الحقيقة، وتحوّلت إلى أسطورة يوظّفها السياسيون، ويغلّفونها بغلاف قوميّ أو ديني، ويعرضونها بضاعةً في سوق الكذب والخداع، ويستعينون بلغة الخطابة وفنون المراوغة والتضليل، ليستميلوا بها مشاعر الأفراد والجماعات وعقولهم، من أجل إضفاء المشروعيّة على برامجهم ومخططاتهم التسلطيّة.
وقد تحوّل الكذب والخداع والغشّ والمكر والغدر إلى منهج سلوكي وثقافة يومية يمارسها سياسيو التزوير، حفاظاً على مصالحهم ومنافعهم، وتثبيتاً لوجودهم. وقد لا يعلمون أنّ عاقبة هذا المنهج والأسلوب هي التخلّف والدمار والضعف وعدم الاستقرار والضياع الأمني والاقتصادي.
إنّ الكذب ليس فعلاً نبيلاً، والخداع لا يمكن أن يكون وسيلة لغايات وأهداف سياسيّة بنّاءة تحمل في طيّاتها برامج تنمويّة وخططاً مؤسَّساتيّة تعمل من أجل بناء الدولة، كما أنّ أهل السّلطة، مهما أوتوا من قوّة، لا يمكنهم، بأي حال من الأحوال، طمس الحقائق الواقعيَّة وتشويه صورها، حين يكون هناك رأي صادق تحمله أمّةٌ واعية شجاعة، تقدّس المعرفة، وتمتلك الإرادة، ولا تنخدع بالحقائق المشوّهة.