سرّ الحرية أن الله خلق الإنسان تختلف حركته عن آلية الحيوان وأدائه إذ شاء إبداعه على صورته، وصورة الله عند بعض من آبائنا حريته، وبهذا لم يأتِ الجنس البشريّ في ما فيه إرادة من طبائع الحيوان. الغرائزية المطلقة ليست من عالم الإنسان. هناك تحريك لها أو ضبط لها أو إشراف عليها. اذا قبلنا أن الإنسان فصيلة قائمة بنفسها تمتاز أولاً بحرية الاختيار، نجرؤ على القول إن هذا يستتبع اختيار الإنسان لدينه أي لقبوله أو تركه، ويستتبع احترامنا لهذا الاختيار قبولاً أو تركاً، وهذا ما نسمّيه الحرية الدينية التي تتضمّن التبشير أو الدعوة .
حرية البقاء على دين والدك أو رفضه ناتج من حبك للحقيقة، ولا حق لإنسان أن يرغمك على رؤيته هو للحقيقة. لا يستطيع مخلوق عاقل أن يقول للناس أنا أفكّر عنكم. لم يعطِ الله احدًا تفويضًا أن يتحكّم بضمائر الناس أي أن يدخل عقله عقولهم وكأن خيارهم ليس من عقولهم.
أنا أفهم أن يرى حاكم من حكام هذه الدنيا أن دينه صحيح، لكني لست أفهم أن يُلزم الناس اياه اذ يكون، عند ذاك، مقتحمًا لعقولهم أي لاغيا قرار اعتناقهم لدين آخر. “لا إكراه في الدين” أقبلها قولا أبديا، نهائيا لا يُلغيه اعتبار آخر، قولا سباقا لكل قولة تشبهه في الكلام التشريعيّ الحديث من هيئة الأمم المتحدة صدر أَم من فلاسفة الأنوار وما تبعهم من ثورات.
الفلسفة السياسيّة التي انبثقت من هذه الثورات أو بثقتها هي التي أتتنا فعليا بالحرية الدينية حسبما يعلّمون اليوم مع أن أول من شرّع الحريّة الدينيّة هو الامبراطور قسطنطين الكبير، وهو بعد اهتدائه الى المسيحية لم يبطل حرية الوثنيات المتفشّية في الامبراطورية الرومانية، غير أن الموقف الذي أدافع عنه هنا ليس مؤسسا على الفلسفة السياسيّة.
•••
قد تكون الحرية الدينيّة التي ظهرت في العصر الحديث دافع بها الإنجيليون (البروتستانت) عن كيانهم في الدول الكاثوليكية وتلقّفها الفلاسفة وواضعو الدساتير في الدول المتحضّرة. ليس دفاعي عن الدساتير. إنه طاعة لله. ربما استعرت صورا من الفكر المسيحيّ لأنقل تعبيرا قرآنيا: “لا إكراه في الدين”. الفكر المسيحي في هذا الصدد قائم على الوحدة الكاملة بين ما تؤمن به بالقلب وما تعترف به باللسان ولا يشرف أحد على قلبك ولا يسود عليه لأن الله وحده مالكه، واذا لم يكن من ثنائية بين القلب واللسان، واعتقدت من عمق كيانك أن الله ينطق في قلبك، لا تستطيع أن تُلغي قلبك ليقول لسانك كاذبا ما يقوله القويّ الذي يمنع عنك الصلة بين الباطن والظاهر.
انت لا تستطيع أن تُصمت الألسنة اذا قالت لك انا معبرة فقط عمّا نقلته اليّ القلوب. وانت لا تقدر أن تُخضع القلوب لقلبك اذ ليس عندك دليل حاسم على أن كلمة الله في قلبك وليست في قلب آخر. فلأن القلوب يبصرها ربك ولا تبصرها عليك أن تقبل قرارها.
هذا يحتّم التعدّد الدينيّ. هناك تاليا مواقف في الدين مغلوطة الله وحده يصحّحها والدعوة تصحّحها أو تؤذيها، لكن الغلط مع القناعة أفضل من الإكراه لأن الغلط بشريّ والإكراه ليس إنسانيا.
أين الحكم من كل هذا؟ جوابي أن المجال الديني لا يدخل في الحكم الذي هو بطبيعته قسريّ، والقسرية هي الاستبداد. ليس للحكم حكم على القلوب. له أن يتدخّل اذا آذى دين من الأديان بسبب من تسيّسه الأمن أو الاستقرار أو كان سببا للاصطدام بين أتباع الأديان. وسيلة الحكم ليست الاصطفاف في دين ولكن حفظ الأمن. يكون قد بقي، اذ ذاك، في مجال السياسة.
الدولة لا تستطيع أن تكون دينيّة. الدين هو الأشخاص أو في الأشخاص، والدولة متفرّجة عليهم. أنا لست أناقش الأديان التي تقول إنها تبتّ ايضًا أمور الدنيا. هذا من باب الرأي ورأي هذا وذاك آخر.
قد يتناقش علماء الأديان. هذا لهم، وليس في هذا ضرر إن عصمنا القلم واللسان عن الشتم والتقبيح. هناك أسلوب أكاديمي في النقاش وهذا يوسّع المعارف، ويعطي إطلالات من لاهوت على لاهوت، ويمكّن من الحوار، والحوار يجعلك تقتبس ما شئت من القول الآخر كما يجعلك أن تردّه بتهذيب.
الحوار فيه نقاش، لكنه ليس بالضرورة سجالا حادّا، ولا هو بالضرورة منافٍ للسلام. أعرف أن ليس بين الأديان انصهار، ولكن المجتمعات لا يُطلب منها أن تكون منصهرة على كل صعيد. يوحّدها الماء والخبز والكهرباء والطبابة ووسائل العيش كلها، وهذه في العقل العصريّ مقبولة معاييرها ومتّفق على الكثير منها. اذا كانت هذه مؤمّنة، يكفي الدولة هذا التأمين، وتصلّي على طريقتك وآخر على طريقته. وقد يأتي يوم يرى فيه الإنسان أن طريقته لا تذهله كما كانت تذهله في الماضي. هذا أمره مع ربه أي هذا تحرّك ضميره، وانت لا تقدر أن تعطّل ضمير آخر فإنك إن أرغمته فكأنك تقول إن ضميرك وحده هو حق، وتكون بذا قد ألغيت الآخر وصرت مستبدّا، وهذا يعرّضك لاستعمال العنف.
عليك أن تختار بين العنف والحرية الكاملة. بحيث إذا اخترت العنف لا تُسكت فقط الألسنة والأقلام ولكنك تمنع القلوب من أن تُحسّ كما شاء لها ربّها أن تُحسّ. الله يسمح (ولا يأمر) أن تُحسّ خطأ لتكتمل كرامة الإنسان.
المطران جورج خضر