استضافت مؤسسة الحوار الانساني بلندن الدكتور فؤاد ابراهيم يوم الاربعاء 5 شباط/ فبراير 2020 في أمسية ثقافية تحدث فيها عن آفاق الحرية ودلالاتها في الاتجاهات الفكرية في الخليج اليوم.
فؤاد إبراهيم، كاتب وصحافي سعودي مقيم في المملكة المتحدة. حاصل على درجة الدكتوراه في الدراسات الشرق أوسطية من كلية الدراسات الشرقية والأفريقية، جامعة لندن. صدر له عدة كتب ودراسات فكرية وسياسية منها؛ “السلفية الجهادية في السعودية”، و”الشيعة في السعودية”، و”العقيدة والسياسة ..الوهابية وآل سعود مثالا”، و”الفقيه والدولة .. الفكر السياسي الشيعي”، و”داعش من النجدي إلى البغدادي”، و” صناعة الخوف .. الابعاد الاجتماعية والسياسية والدينية”
المقدمة
المعبر الالزامي لقراءة مسيرة التيارات الفكرية في الخليج وتطوّرها يبدأ بفهم:
ـ البنى الاقتصادية
ـ والاجتماعية
ـ والسياسية
النشاط الاقتصادي الذي بدأ تقليدياً: الزراعة، وصيد الاسماك واللؤلؤ، ورعي الماشية، والتجارة التقليدية (بيع التمور والمنتجات الزراعية واللؤلؤ). ثم انتقل الى الاقتصاد النفطي وكيف ترك تأثيره أولاً على الحال المعيشية للناس وعلى تبدّل وجهة الاقتصاد، ولاحقاً على تصوّرات الناس من الانفتاح عل الخارج، أو خلال انتقال العمالة الاجنبية، وتطور الوعي العمالي متمثلاً في الاضرابات العمالية لتحسين ظروف العمال ورواتيهم بالقياس الى الاجانب..
والبنية الاجتماعية حيث كانت الأسرة والعائلة والقبيلة والقرية هي الأنوية التقليدية النهائية المغلقة، ولم يتم تعرف بعد على مفهوم المجتمع الحديث الذي فرضه النشاط الاقتصادي الحديث والتعليم الحديث والتمدين ونشوء مؤسسات مدنية ونوادي اجتماعية وأدبية ورياضية، ونقابات، واتحادات عمالية، وانتشار الكتاب والطباعة والصحافة..
البنية السياسية: الحكم الوراثي والعائلي
التحوّل الاقتصادي صاحبه تحوّل اجتماعي وثقافي حيث ساهمت في مداخيل النفط في تطوير التعليم، وادخال مؤسسات حديثة الاعلام والطباعة والصحافة…
نشأة الاحزاب:
ـ القومية العربية بفروعها: وقد لعب ثورة يوليو 1952 دوراً محورياً في تعميم ثقافة عروبية عابرة للدول وتنادي بالوحدة العربية والنضال ضد الاستعمار..وفي هذا المناخ المتحفّز نشأت حركات قومية عابرة مثل:
ـ حركة القوميين العرب
ـ حزب البعث العربي الاشتراكي
ـ الحركة الناصرية
موضوعاتها:
ـ قضايا التحرر من الاستعمار
ـ الوحدة العربية
ـ القومية العربية (النزعة العروبية)
ـ التيار الاسلامي: الاخوان المسلمين التي دخلت الى دول الخليج كافة
تعود جذور جماعة “الإخوان المسلمين” في الجزيرة العربية الى المرحلة المبكرة من عمر الجماعة في بلد المنشأ، مصر، حين جاء الشيخ حسن البنا، المؤسس والمرشد العام، الى الحجاز في ثلاثينيات القرن الماضي.
في مكة المكرّمة، كان يلتقي البنا خلال مواسم الحج بقادة ورؤساء الوفود من مناطق متفرقة من الجزيرة العربية، ومن خارجها أيضاً، تبشيراً بفكرته، واستدراجاً للدعم الرسمي والشعبي، وطلباً لفتح فروع ومكاتب للجماعة في هذه المناطق.
ومما ساعد على رواج المشروع الإخواني، تشرّب الطلاّب ورجال الأعمال الخليجيين الذين زاروا مصر في الأربعينيات لأفكار الجماعة، وسيّلوها في مشاريع حركية ودعوية في أوطانهم. فكانت شبكة جمعيات الاصلاح الإجتماعي في الخليج، ماعدا السعودية، المداميك الأولى لمشروع متعدد الوظائف، ليس الكوني مغفولاً فيه، حيث شكّلت بلدان الخليج المنصّة الأولى لإطلاق المشروع الأممي للإخوان، جنباً إلى جنب المشاريع المحلية.
وبرغم من تفرّد كل بلد من بلدان الجزيرة العربية برواية خاصة حول البداية الفعلية لنشاط الجماعة، وطبيعة التشكيلات الحركية بحسب أوضاع كل بلد، فإن دول مجلس التعاون الخليجي شكّلت نطاقاً جغرافياً موحّداً، من حيث السمات المشتركة لتنظيمات الاخوان المسلمين في كل بلد، فواعلها الاجتماعية، والثقافية، والسياسية، ومشروعاتها، والى حد كبير مآلاتها.
في القراءة الأولى، ثمة توافق على أن البوابة التي عبرت منها قوافل الإخوان المسلمين الى مجتمعات الخليج والجزيرة العربية كان التعليم أولاً وتالياً القضاء. تعاظم حاجة الدول الخليجية الناشئة الى تحديث مؤسساتها وتطويرها بما يتناسب وحاجاتها المباشرة أملى عليها جذب الخبرات والكفاءات العربية أولاً.
تطابقت حاجة دول الخليج الى رفد مؤسساتها التعليمية والتربوية والقضائية زمانياً مع منازلة سياسية وإيديولوجية بين مشروعين إسلامي وقومي، محمولاً على مبدأ إيزنهاور المعلن في 5 كانون الثاني (يناير) سنة 1957 في مكافحة الشيوعية ابتداءً، والمشروع القومي الناصري انتهاءً.
كانت وتيرة التجابة الإيديولوجي والسياسي بين السعودية ومصر تتصاعد منذ منتصف الخمسينيات وصولاً الى نهاية الستينيات، ومعها كانت وتيرة هجرة الإخوان الى بلدان الخليج، التي هي الأخرى لم تتوقف منذ انطلاقتها بصورة فعلية وجماعية سنة 1954.
نجحت جماعة الاخوان المسلمين في اختراق المجال السياسي وتسجيل حضور لها في البنى البيروقراطية لأنظمة الخليج.
أول حكومة إماراتية سنة 1971 ضمّت وزيراً إخوانياً من رأس الخيمة وهو الشيخ سعيد عبد الله سلمان من جمعية الاصلاح، وكان وزيراً للإسكان في الفترة ما بين (1971 ـ 1977). وفي آذار 1977، تمّ تعيين محمد عبد الرحمن آل بكر، وزيراً للعدل والأوقاف وكان إخوانياً، وفي عام 1979 أعيد توزير الشيخ سعيد سلمان وتسلّم حقيبة التعليم والشباب، إلى جانب توليّه منصب الرئيس الأعلى لجامعة الامارات حتى عام 1983. وتقلّد الشيخ سلطان بن كايد القاسمي – رئيس جمعية الإصلاح في رأس الخيمة- رئاسة لجنة وضع مناهج التعليم في الفترة ما بين 1977 ـ 1983، وتمكّن الإخوان من تثمير اللجنة بإصدار 120 مقرّراً دراسياً في الامارات، وهي فترة ازدهار إخوان الإمارات، إذ أتاح لهم تفوّقهم العلمي شغل مناصب حسّاسة لفترات طويلة، في قطاع التعليم على وجه خاص.
في سلطنة عمان أيضاً، كشفت الضربة المباغتة والشاملة للجماعة في أيار مايو 1994، والتي أدّت الى تفكيك الهيكل التنظيمي للجماعة وتقويض بنيانها من القواعد عن حركة منظمة تضم شخصيات في مواقع حساسة في الدولة العمانية، وكشفت رسالة من منظمة “ليبرتي” للدفاع عن الحريات في العالم الاسلامي، ومقرّها في لندن عن قائمة بأسماء 127 مواطناً عمانياً في مواقع بالغة الحساسية تمّ اعتقالهم من قبل السلطات العمانية بتهمة الانتماء لتنظيم الاخوان المسلمين. وكان من بين المعتقلين: سفير عمان لدى واشنطن أحمد محمد الراسبي، ومدير مكتب وزير الزراعة محمد عبد الله الكندي، ومدير مكتب وزير النفط عادل منصور آل جمعة، ومدراء عامين في وزارة الاسكان، والزراعة، والاعلام، والبيئة، ووكيل وزارة التجارة والصناعة ووكيل وزير الزراعة، وعضو مجلس شورى، ومدير الاذاعة العمانية، ومدير غرفة التجارة بظفار، وعدد من المدراء في وزارة التربية والتعليم، ومدراء المدارس ونوّابهم، ووكلاء المدارس، وضباط كبار في الجيش العماني . وتشي قائمة المعتقلين أن الاخوان الملسمين نجحوا في اختراق أجهزة الدولة العمانية ومؤسساتها المدنية والعسكرية، وقد يكونوا وصلوا الى مرحلة متقدّمة في مخطط تغيير نظام الحكم.
في البحرين كانت تحظى الجماعة بتمثيل رفيع في البرلمان والأجهزة الأمنية والقضائية، وكان هناك ثلاثة وزراء من الإخوان في حكومة 2014، قبل أن يتقلص الى وزير واحد (هشام الجودر)، في التشكيلة الوزراية المعلن عنها في 30 إيلول 2015.
والحال في الكويت قد يكون أكبر بسبب تداخل الجماعة مع الدولة، فضلاً عن الدور المالي المركزي الذي لعبه الاخوان المسلمون في الكويت والخليج عموماً، وله تمثيل برلماني وحكومي لافت، وله نشاط اعلامي وحزبي متميز.
قضايا التيار الاسلامي عموماً:
ـ اصلاح المجتمع (جمعيات الاصلاح الاجتماعي)
ـ تطبيق الشريعة الاسلامية
ـ إقامة الدولة الاسلامية
التيار الماركسي:
ـ نشأ نخبوياً وبقي كذلك، ولعل وجود في مجتمعات محافظة ساهمت في عزلته، ولكن لم يمنع أنه بقي يتحرك على مساحة الخليج عموماً، ويتغلغل في مؤسساته الثقافية والاعلامية والتعليمية.
موضوعاته:
مكافحة الامبريالية والدفاع عن حقوق العمال: حيث أفاد الاتحاد السوفييتي من نضال العمال في المنطقة الشرقية الغنية بالنفط ضد اجراءات شركة أرامكو المجحفة بحقهم وسعت الى تطوير خطاب مناهض للامبريالية وتعميم أدبيات النضال ضد الرأسمالية المتوحشة.
ـ النضال من أجل بناء مجتمع اشتراكي
ـ تحرير المرأة
ـ التحرر من الاحتلال والاستعمار بأشكاله
الليبرالية الخليجية وصفة خاصة
على الضد من تاريخ نشأة التيارات الليبرالية في الشرق الأوسط خصوصاً والعالم بصورة عامة، فإن نشأة التيار الليبرالي في السعودية تمّت في سياق التحولات التي شهدتها الدولة عبر برامج التحديث. فالدولة السعودية التي تم الإعلان عنها رسمياً عام 1932 شهدت تحوّلاً تدريجياً ضمن متطلبات عصرية تقوم على استحداث أجهزة دولتية وفق شروط مختلفة. وكان من الطبيعي أن يطال التغيير مجالات حيوية مثل التعليم والتنظيم الاداري والقانوني والمالي، وصاحب ذلك استيعاب المنتجات التقنية في الجهاز الدولتي.
عكست التحوّلات تلك نفسها على النظام القيمي للمجتمع، ورغم ما قيل عن نجاح استثنائي حققته الدولة السعودية في امتصاص التكنولوجيا دون آثار أيديولوجية، فإن ذلك يصدق جزئياً على مرحلة كانت تفرض فيها الدولة سيطرة شبه كاملة على وسائل التوجيه والاتصال، ولكن منذ بدأ الانفتاح الاجتماعي في الخمسينيات من القرن الماضي على الخارج عن طريق العمال الوافدين العرب والاجانب، واستقدام المعلمّين العرب، وبدء البعثات التعليمية الى الجامعات العربية (بيروت والقاهرة حصرياً) والاجنبية الاوروبية والاميركية، وإدماج بعض القوانين الحديثة في النظام القضائي والاداري لدولة، وإقرار المناهج التعليمية الحديثة في مقابل نظيرتها التقليدية، كل ذلك وغيره ساهم في تهيئة شروط ولادة تيار حديث يستمد قوته واستمراره من حركة التحوّلات التي شهدتها الدولة نفسها. ولذلك، أمكن القول بأن الاخيرة وبصورة قهرية تحمّلت ظروف تكوين المولود الليبرالي منذ البداية. لا شك أنها لم تكن تملك بديلاً آخر سوى القبول بوجود جنين يكبر في جوفها دون أن تتبناه بصورة رسمياً.
ربما كان المجتمع الديني السلفي أول من شعر بخطورة ولادة تيار ليبرالي حداثي يهدد وجوده في مجالات سيادية كانت لفترة طويلة من الزمن حكراً عليه وحده مثل التعليم والقضاء. عارض علماء الوهابية نشأة المدارس الحديثة لكونها مدخلاً لنفوذ علوم الكفار والصليبيين مثل الجغرافيا واللغة الانجليزية والعلوم الحديثة، وازدادت حدة الخلاف بين العلماء والأمراء بعد إدماج القوانين الحديثة في النظام القضائي، والذي اعتبره بعض علماء الدين مثل الشيخ محمد بن ابراهيم المفتي الاسبق في عهد الملك فيصل بأن ذلك بمثابة عمل بغير ما انزل الله، وقد نسج على منواله عدد من علماء وطلبة العلم في المدرسة السلفية، وشكّلت رسالة تحكيم القوانين التي كتبها الشيخ ابن ابراهيم للرد على قرار ادماج قوانين حديثة في النظام القضائي للدولة أساساً احتجاجياً لكثير من الذي ناكفوا الدولة في بعض المراحل مثل جيهمان العتيبي، ومشايخ الصحوة في التسعينيات من القرن الماضي، وصولاً الى جماعات السلفية الجهادية المشتقة من تنظيم القاعدة.
حتى نهاية الثمانينات لم تكن للتيار اليبرالي كينونة ثقافية واجتماعية واضحة سوى ما كان يمظهره من حضور ثقافي واعلامي وأدبي، ولم ينشغل بعد سياسياً باستثناء الارتدادات العابرة التي تتركها المناظرات الايديولوجية على صفحات الجرائد أحياناً، ولكن مع اطلالة التسعينيات، وإبان حرب الخليج الثانية على وجه الخصوص، بدأ التيار الليبرالي ينشط سياسياً عبر عريضة تقدّم بها الى الملك فهد طالب فيها بادخال اصلاحات سياسية واقتصادية وقضائية، وكانت تلك أول تجسيد سياسي للتيار الليبرالي.
ولأسباب معروفة، فإن النشاطية السياسية للتيار الليبرالي غالباً ما تفتقر الى الاستمرارية ليس لعدم تماسك التيار وغياب الضابط التنظيمي القادر على تفعيل حركته واستدامتها فقط، وانما لكونه متواشجاً مع الدولة نفسها التي يعمل فيها ويحمل قيماً متقدمة عليها، أي بكلمة أخرى هو يمثل التطلع المأمول والمنتظر في مسيرة الدولة، ولكنه لا يعدو أن يكون مجرد دعوة هادئة لتحويلها، ولكنه قد يكون آخر من يدفع الثمن لتغييرها، خصوصاً حين لا يرى أفقاً للقيام بخطوة جراحية قد تهدد مصالحه الخاصة.
على أية حال، فإن معركة التيار الليبرالي لم تكن مع الدولة، ولربما أرادت الاخيرة له ذلك، فمنذ التسعينيات باتت المواجهة الفكرية بتفاعلاتها الاجتماعية بينه وبين التيار الديني السلفي. ولابد من الاشارة الى ان المواجهة بدأت تطفو على السطح في السبعينيات حين بدأت الدعوات الضمنية والمباشرة الى تقليص دور المؤسسة الدينية المجسدّة بصورة جلية حينذاك في هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، الامر الذي دفع بكثير من العلماء الى التعبير عن سخطهم من تدهور الوضع الديني في المجتمع بحيث سمحت الدولة لمثل تلك الدعوات بأن تنشر على صفحات الجرائد وأن يعبر عنها بطريقة مباشرة. في الثمانينات اخذت المواجهة الفكرية شكلا اجترارياً لموضوعات الجدل التي كانت مثارة في مصر وبلاد الشام حول علاقة العلم بالايمان والايديولوجيا والدين، وتولّت جرائد محلية مثل (الرياض) ومجلات مثل (اليمامة) نشر هذه المناظرات وانتقلت فيما بعد الى جرائد اخرى.
لعل أهم ماحققه المحسوبون على الفكر الليبرالي انهم كسروا بعض المحرمات الثقافية والفكرية من خلال ممارسة فكرية ناقدة للرؤية الدينية المحافظة حيال موضوعات الفن، والمرأة، والنقد الأدبي، والرسم، والثقافة الحديثة بصورة عامة، وقد هال التيار الديني انه اكتشف بأن المؤسسات الاعلامية الرسمية خاضعة لسيطرة التيار الليبرالي، وقد خصّص عدد من مشايخ الصحوة حلقات من دروسهم الدينية والاجتماعية وكذلك خطبهم السياسية في حرب الخليج الثانية لتقديم جرد حساب تفصيلي لهيمنة ما كانوا يصفونه الحداثويين على الصحف والمجلات ومؤسسات الاذاعة والتلفزيون وحتى الاجهزة الادارية التابعة للدولة.
حين أطلق الملك فهد العنان للتيار السلفي في بداية الثمانينات لمواجهة آثار الثورة الايرانية على المنطقة بصورة عامة، كرّس التيار جزءً من نشاطه لمواجهة الفكر الحداثوي ايضاً، وتنبىء محاضرات عدد من مشايخ الصحوة ابان حرب الخليج الثانية عن متابعة حثيثة لمسيرة التيار الحداثي الليبرالي، الذي حمّله، جزئياً على الأقل، بعض المسؤولية لما جرى من غزو نظام صدام حسين للكويت في اغسطس 1990.
ولأول مرة تكسر المرأة تابو اجتماعي وايديولوجي وسياسي، عبر مسيرة نسائية في السادس من نوفمبر 1990 للمطالبة بقيادة المرأة للسيارة.. نحو خمسون أمرأة من مختلف المكوّنات السكانية والمناطق..
أشعلت المسيرة صراع التيارات الفكرية المتناقضة في المملكة السعودية. شن التيار الديني حملة مضادة، أدت الى انحسار التيار الليبرالي مجدداً، ودخل مرحلة الكمون بانتظار فرصة أخرى سانحة التي لم تتوافر الا بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر فعادت ثقافة العرائض، وتقدّم بعريضة (رؤية لحاضر الوطن ومستقبله) في يناير 2003
من المفارقات اللافتة، أن الليبرالية بما تنطوي عليه من نزوع استقلالي في التفكير والسلوك معاً، وخصوصاً حين يتعلق الأمر بالحد من تحرر العقل وانطلاقه، وغالباً ما تكون الدولة التجسيد الأبرز لهذه القوة، فإن هذه الليبرالية لم تهب هذه القيمة الى دعاتها في السعودية، رغم ما يعرف عنهم من جموح متفجر نحو الاستقلال الفكري حد الاستعداد للمواجهة مع خصومهم من خارج اطار الدولة.
لم يكن الخليج عموماً بمنأى عن السجالات الفكرية في المحتدمة في السعودية، فالانقسام على أساس أيديولوجي ومذهبي يكاد يطبع المجال الخليجي العام.
لاريب أن تفشي النزوعات الفئوية والقبلية والطائفية داخل التيار الليبرالي، أبقت الأفكار التحررية في حدها النظري التجريدي، أي ليبرالية فكرية وأدبية وعكست نفسها على السلوك الشخصي للأفراد المصنّفين ليبرالياً، ولكن هذه النزعة ما تلبث أن تتلاشى حين تصبح على محك السياسة، حيث يرتد أغلب الليبراليين الى الانتماءات الفرعية (المذهب، القبيلة، المنطقة). وقد يلحظ المراقب كيف تكسو الطائفية والقبلية والمناطقية لغة من تشرّبوا الليبرالية فكراً وسلوكاً تحررياً في لحظات أحوج ما تكون فيه الليبرالية الى التعبير عن نفسها في هيئة حركة اصلاحية تغييرية في بنية النظام السياسي.
فقد تبيئت الليبرالية الخليجية اجتماعياً وسياسياً، فخضعت لممليات الانقسام على قاعدة اجتماعية وسياسية ومذهبية، وتحوّلت الى مجرد ممارسة ثقافية وشكلية طفولية، ما جعلها ليبرالية عقيمة على المستوى السياسي، حيث يعود أفرادها الى الروابط البدائية التي زعموا بأن انتماءهم الليبرالي قد حرّرهم منها.
تصبح الليبرالية ليبراليات مصنّفة بحسب النزوعات التقليدية، فهناك ليبرالية قطرية (ليبرالية كويتية وليبرالية سعودية وأخرى بحرينية) بل حتى داخل القطر الواحد هناك ليبرالية نجدية وأخرى حجازية وثالثة إسلامية (سنية وشيعية)، وليس من بينها ما يمكن وصفه بليبرالية وطنية الا على نطاق محدود. فقد استجابت الليبرالية في الخليج الى الانقسامات ـ والاستقطابات الاجتماعية والفكرية، ما جعلها عاجزة عن أن تكون ليبرالية حقيقية فاعلة ومؤثرة في المعادلة القائمة ورافعة لعملية إصلاحية منفتحة.
تثبت الليبرالية في الخليج أنها أسيرة لرهانات سياسية ومذهبية، الى حد توظيفها أحياناً في معارك داخلية وخارجية، ولحظنا كيف يجنح الليبرالي النجدي الى الطائفية الشرسة بحسب شكل الصراع الذي تخوضه الدولة مع خصومها في الداخل والخارج. وبإمكان المراقب لمواقع ليبرالية على شبكة الانترنت وكذلك صحف خليجية يديرها ليبراليون كيف تتلاشى الألوان المائزة بينها وبين أشد المواقع السلفية طائفية، حيث تتبدّل قائمة الموضوعات المتداولة من منظور ليبرالي الى آخر طائفي.
في حقيقة الأمر أن الليبرالية في الخليج كما الصحوة السلفية، بكونها التظهير السياسي والحركي للتيار الديني الجامع بين السلفية الوهابية والحركية الاخوانية، نشأت في رد فعل على الشعور بالتهديد إزاء الآخر. وقد افادت الظاهرتان من الأوضاع السياسية كما من منتجات الحداثة لتعميم خطابها والترويج له، وفي الوقت نفسه محاربة الخصم. انكسارات طرف ينعش الطرف الآخر: في مطلع الثمانينات حظيت الصحوة الاسلامية بدعم الدولة فشكّل ذلك تهديداً للتيار الليبرالي، وبعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر انتعش الأخير، وفي عهد عبد الله كذلك وأخيراً في عهد ابن سلمان واصلاحاته الاجتماعية وتقليص دور المؤسسة الدينية.
الاصلاح السياسي كان هو الخط الفاصل والقاسم بين الشقوق الليبرالية في الخليج. هناك من يناصر الاصلاحات الاجتماعية والثقافية، وهناك من يرى بأن الاصلاحات السياسية هي الأولى وهي مقدمة على أي صلاح آخر. هناك من يرى في تقليص نفوذ التيار الديني هدفاً ليبرالياً نهائياً يغني عن بقية الأهداف.
اذا كانت الليبرالية مصمّمة تاريخياً لوضع قيود على السلطة وتقليل دورها، وإبعادها عن السوق وتوسيع الحريات المدنية..فإن السياسات الاقتصادية والاجتماعية فضلاً عن السياسية قد جاءت بنتائج معاكسة لليبرالية. التيار الليبرالي في الخليج لم يقدم شيئًا ملموسًا لمجتمعاته، فهو يهتم بقضايا دون سواها، فالمرأة والمؤسسة الدينيَّة هي جل إهتمامه، دون أي اكتراث بالقضايا الحيويَّة الأخرى مثل الفقر أو الفساد، وإصلاح النظام السياسي