بقلم الدكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ
أريد أن أطرح هنا سؤالا عميقا. هل نحن بحاجة إلى نظرية سياسية حقًا؟ هل يمكن أداء وظيفة النظرية السياسية بشكل أفضل من خلال شيء آخر، كما الإيديولوجيات مثلا؟ لماذا نحتاج إلى نظرية سياسية؟ قد لا يمكن الإجابة هذا السؤال ما لم ندخل على أجابته من خلال الأسئلة الكبيرة عن الوجود البشري والحياة الجماعية. قُدمت العديد من الإجابات ولكن معظمها إجابة لمرة واحدة كما في الأديان والكوسمولوجيا. تؤدي الفلسفة / النظرية (وأنا استعمل المصطلحين هنا بمعنى متطابق) السياسية أربع وظائف تفسيرية ومعيارية مترابطة. إنها تفسر على المستوى الأكثر عمومية، وهي تقيم وتخبرنا بما يجب أن نفعله، وتتأمل أو تتكهن بحالتنا الحالية والمستقبلية. كما تخبرنا من نحن. قد لا تختلف هذه الوظائف عن المهام التي تؤديها الكوسمولوجيا والأيديولوجيات. لكني أرى أن الفلسفة/ النظرية السياسية تختلف عن كليهما. وأن للنظرية السياسية وظيفة خاصة في ظل الأوضاع الحديثة.
أريد أن أشير أبتداءً الى الأسئلة الكبيرة المجردة المهمة في الحياة البشرية التالية:
1- ماذا يوجد / يحدث في العالم؟ (فهم).
2- لماذا هناك أشياء / تحدث في العالم؟ (تفسير)
3- هل سيستمر شيء ما يجري في المستقبل؟ (تنبؤ)
4- هل هذا الموجود / يجري بشكل جيد أو سيء، صواب أم خطأ؟ (أخلاق)
5- ماذا علي أن أفعل؟ ما الذي يجب عمله؟ (المعياري)
6- من أنا؟ من نحن؟ (المعرفة الذاتية الميتافيزيقية)
إن حياة الإنسان مستحيلة تقريبًا دون توفر إجابات لكل سؤال من هذه الأسئلة. فتعلم الاجابة عن هذه الأسئلة يصبح الفرد انسانا. لا يمكن للبشر أن يعيشوا في مجتمع إلا إذا كان لديهم بعض الفهم لماهية طبيعة مجتمعتهم. فمن الأهمية بمكان، عن سبيل المثال، أن يكون لدى الفرد، في جماعة/ مجتمع هرمي في بناءه فهم لمنزلته وكذلك معرفة بالمكانة الاجتماعية للآخرين. لدى الفرد الذي هو في الموقع “الأدنى” مكانة من سلسلة النظام التراتبي القائم فهم عملي لهذا الوضع، ويعرف أنه يجب أن يكون مؤمنًا وخاضعاً بشخص أعلى منه. كذلك يشعر بمديونية المعنى و يفهم من داخل نفسه ما يحدث عندما يقف شخص يركع رأسه، ويخفض عينيه أمام رجل آخر أعلى مكانة منه. إنه يفهم أيضًا سبب حدوث ذلك. لديه تفسير لذلك. إنه يعلم أن الشخص يجب أن ينحني أمام شخص آخر لأنه أقل شأنا. مثل هذه التفاهمات والتفسيرات هي جزء من المعنى المشترك والحاسمة لعمل الجماعة كمجتمع. وبالمثل، فإن أعضاء مثل هذا المجتمع لديهم فكرة عما يمكن أن يأملوه. لا شيءعمليا للطبقات السفلى بينما للطبقات العليا كافة الامتيازات. ويرتبط كل هذا بفهم مشترك إلى حد ما لما هو صواب وماهو خطأ، ماهو جيد وماهو سيئ وإلى فهم معين للذات في مجتمع هرمي/ تراتبي يعمل بالشكل المطلوب، يعتقد الشخص الذي يعتبر أدنى أن الركوع أمام سيده أو من هو في مكانه أعلى منه هو الشيء الصحيح الذي يجب القيام به، وسيكون من الخطأ انتهاك هذه القاعدة، ومن الذنوب التي لاتغتفر. وبالتالي، فإن امتلاك إجابات لجميع هذه الأسئلة أمر حيوي لعمل مجتمع هرمي الترتيب. إن توفر إجابات مختلفة على الأسئلة نفسها تقريبًا يجعل من الممكن قيام مجتمع فعال.
إن امتلاك فهم شامل بدرجة ما لمجتمع واحد لا يعني أن هذه معرفة متاحة كإجابات لكافة الأسئلة. ليس لدينا، في الواقع، أولاً أسئلة نطلب إجابات عنها. ولكن نبدأ في فهم عالمنا، فهم أعيدت صياغته كخلاصة وافية للإجابات على هذه الأسئلة الكبيرة عندما نتعلم، ككائنات مفكرة، طرح هذه الأسئلة. ولكن، ما هي الظروف التي نتعلم فيها إثارة هذه الأسئلة؟ هناك العديد من الأسباب وراء حدوث ذلك. أذكر ثلاثة منها. قد يحدث ذلك، أولاً، إذا كان فرد أو مجموعة معزولين عن بقية المجتمع لأي سبب من الأسباب. فقد يسأل هؤلاء الأشخاص المنفصلون: هل أنتمي حقًا إلى هنا؟ من أنا حقا؟ تؤدي هذه الغربة إلى أزمة تفاهم متبادل. ثانياً، يمكن أن يحدث هذا مع دخول الشخص الغريب الذي تثير تصرفاته الغامضة الفضول والتنافر الداخلي. لماذا يفعل هذا الرجل كل ما يفعله؟ كيف ينبغي لنا أن نتعامل معه ومع الآخرين مثله؟ ثالثًا، قد يكون سببها تغييرات غير متوقعة في العالم الطبيعي: المرض والفيضانات والزلازل وأي كارثة طبيعية. لماذا تحدث هذه التغيرات الدراماتيكية في الطبيعة؟ لماذا تحصل هذه المعاناة في هذا العالم؟ لماذا هناك معاناة في العالم؟ لماذا نولد على الإطلاق إذا كان يجب علينا أن نعاني؟ تغييرات لا يمكن التنبؤ بها في الطبيعة، ومجيء الشخص الغريب، وإمكانية تفكك المجتمع، كل هؤلاء يقودون البشر إلى طلب إعادة التعرف على ما أصبح غير مألوف.
ما هو إذن الدور الصحيح للنظرية الاجتماعية والسياسية؟ لماذا نحتاجها؟ دعني أوضح على الفور وظيفتين للنظرية السياسية تتقاسمانها مع النظرية الاجتماعية. لاتفصل الوظيفة الأولى عن العلوم الإجتماعية ولكن سمة مكملة لها بما في ذلك العلوم السياسية. وإذا كانت الفلسفة / النظرية تساعدنا على أدراك هذا الفهم وجعله واضحًا، فأنه بالنظر إلى الميزة الأولى – التي ذكرتها سابقا في مقالاتنا عن النظرية السياسية- فإن الأخيرة هي جزء لا يتجزأ من العلوم الاجتماعيه التجريبية. لا يمكنك تحديد ما ترغب في توضيحه أو شرحه به مالم يكن لديك أدراك مفاهيمي لماهية هذه النظرية أو الفلسفة وأن أحد مكوناتها المركزية ليس مجرد خادمة للعلوم الإنسانية ولكن أحد مكوناتها وسماتها الأساس. هذا هو الدور التأويلي والتفسيري لدور النظرية السياسية.
الوظيفة الثانية للنظرية السياسية هي: نظراً لأن تتمتع بعض الظواهر الاجتماعية والسياسية وعلى نطاق واسع بحيث لا يمكن لأي تحقيق تجريبي محدد أن يترجمها أو يعبر عنها؛ ولا يمكن أن تنتج، ايضاً، عن مجموعة محددة من التفاصيل التجريبية. ومن غير الممكن مطلقًا أن يكون جمع البيانات والاستقصاء المتحكم فيه كافيين لفهم التكوينات الاجتماعية الكبيرة ولتفسير التغييرات التي تحدث داخلها أو أيً تغييرات من نوع إلى آخر. لذلك، لا يمكن مطلقًا فهم أو تفسير تفسير صعود الرأسمالية أو الانتقال من الإقطاعية إلى الرأسمالية دون قدر من التكهنات المستقلة عن البحث التجريبي. ولا يمكننا أن نفهم تمامًا طبيعة الحداثة، أو مجموعة متنوعة من المآزق الإنسانية في العالم الحديث، أو الصفات العامة للتبعية في مجتمع يستعمره مجتمع آخر فقط عن طريق البحث التجريبي الخاضع للسيطرة. إنه من الأفضل القيام بهذه المهمة من خلال النظرية الاجتماعية والسياسية. يتم التعرف على هدف هذا الاستقصاء بحد ذاته على مستوى عام جدًا ولا يمكن التحكم بشكل أوضح في فهمه أو تفسيره بشكل كامل بواسطة البيانات التجريبية ولأنه يتطلب قفزة تأملية تخمينية أو قفزة غيبية كما يسميها استاذنا عرفان عبد الحميد. لذا على النظريات السياسية أن تؤدي هذه الوظيفة الثانية المتمثلة في توفير نظرة وفهم للنمط العام للممارسات الإنسانية والتغيير الاجتماعي. يسميه بيخو باريخ هذا الدور التأملي للنظرية السياسية.
Bhikhu Parekh, ‘Political Theory: Traditions in Political Philosophy’, in Robert Goodin and Hans-Dieter Klingeman (eds), A New Handbook of Political Science, Oxford: Oxford University Press, 1996, p. 509.
ومن أجل فهم الوظيفة الثالثة للنظرية السياسية، من المهم تسجيل الفرق النوعي الثاني بين العالم الطبيعي والعالم الاجتماعي، وبالتالي، الفرق بين العلوم الطبيعية والإنسانية. ليس من المنطقي طرح أسئلة أخلاقية وذات صلة بالذات البشرية تجاه العالم الطبيعي. فمن غير المنطقي طرح السؤال التالي: كيف يمكننا تقييم قوة الجاذبية أخلاقيا؟ هل هناك أي شيء جيد أو خير فيما يتعلق بقوانين الحركة؟ هل المركبات الكيميائية لديها المعرفة الذاتية؟ لكن ايضا لابد من التأكيد على أن الأسئلة الأخلاقية والمعيارية تقع في قلب العالم البشري.
لماذا ذلك كذلك؟ لننظر الى ما يتعلق بتبعية الفعل في العالم البشري. إنه لمن الصحيح يمكن تفسير الفعل البشري وأعطاء سبب حدوثه. وفي هذا السياق لايختلف تفسير فعل ما عن تفسير أي حدث طبيعي. لكن، في حالة الفعل البشري، يمكننا طرح سؤال آخر: هل سبب الفعل هذا سبب جيد أو خير؟ فأن تقول، مثلاً، أنه سبب وجيه يعني تأييد العمل وتبريره. فلا يتم تفسير الفعل فحسب، ولكن يُبرر. وكما قلت، يتم تحقيق هذا التبرير دائمًا في ضوء فكرة ما اذا كان جيداً أو سيئأ صائباً أم خاطئا.ً
أريد أن أخلص الى خاتمة عامة؛ وهي: القول بأن العالم البشري يعتمد على الفعل، يعني إنه يستند إلى مجموعة معينة من الأسباب من بين عدة أسباب متاحة، وأن خيار التصرف بناءً على واحد بدلاً من الآخر يتم في ضوء فهم الشخص وحكمه على ما هو جيد أو حق في السياق. هذا الفهم يمكن تقييمه من قبل الآخرين. يمكننا أن نسأل ما إذا كان حكم الشخص على ما هو جيد هو حكم حق وصحيح. علاوة على ذلك، فإن ما ينطبق على الفعل البشري ينطبق أيضًا على الحالة التي يتعلق بها الأمر. أي شيء ناتج عن عمل بشري موجود من بين العديد من الاحتمالات وجزء من سبب وجوده لأن الفرد أو الأفراد المعنيين قاموا به في ضوء فهمهم لما هو جيد أو صحيح. على الرغم من أن أي فعل لا يتم تحديده دائمًا من خلال الخيًر أو الصحيح، فإنه يتم على خلفية تمييز نوعي بين الخير والشر، الصواب والخطأ.يمكن تقييم الفعل البشري والعالم الذي يخلقه بالضرورة لأن المكون المعياري جزء لا يتجزأ منه.