حمدة خميس –
تبوأت ثقافة التسلية موقع الصدارة في الزمن الحاضر، بينما توارت الثقافة الجادة وراء جدران العزلة والمزاج الفردي المحض. هذا ما يقوله أغلب الناس، وما تؤكد عليه منابر الإعلام في أكثر الدول العربية والخليجية على وجه التحديد، فما هو المعنى المعجمي لكلتا الثقافتين؟ يقول المعجم الذي تأبدت فيه اللغة العربية، إن التسلية مصدرها سلا- سلوا وسلوانا: فلانا نسي الشيء وعافته نفسه، أما الجدية فإن مصدرها جدّ: أي اجتهد واهتم للأمر وحققه وأحكمه. إذن فضد الثقافة الجادة هي الثقافة التسلية. وإذا كان القليل من ثقافة التسلية مطلوباً أحياناً لإراحة النفس من ثقل القلق والهم التي تولدها مشكلات العيش العسيرة دوماً، فإن تكريسها وتسييدها عبر الإعلام اليومي يفرغ الفكر من اجتهاده والنفس من سموها والفرد من ارتقائه، والمجتمع من تطوره، ويحول المعرفة إلى معلومة سهلة المحو والنسيان.
إنني أتساءل كيف لنا نحن العرب على الأقل أن نهزل ونتسلى ونقهقه فارغي البال في ذات الوقت الذي يقتل فيه أطفال ويشردون، وتغتصب نساء وتترمل، ويموت فيه شباب وشيب، وتنهار طموحات وأحلام، وتنتهك فيه أبسط حقوق الإنسان، وتسود فيه أساليب الاستبداد والقهر، وتتسع فيه السجون، وتضج فيه المنافي. وتهيمن فيه المصالح الفردية والجشع والخيانات، والاستغلال، وتتساقط فيه قيم الاستقلال والحرية والسيادة، تلك القيم التي ناضلت من أجلها شعوب، وتساقط من أجلها ملايين الضحايا في كل الأزمنة؟ لقد أصبحت لفظة «المصلحة الشخصية، والأفكار العدمية والسلفية» هي إمبراطور هذا العصر، والحاكم المستبد والمتسيد على الرقاب والمصائر. ولو أنها مصالح شعوب لوجدت مبررها، لكنها مصالح فئات وأفراد، وقلة تملك مقابل أغلبية مسحوقة ومشردة وضائعة وجائعة ومتخلفة. وهذه القلة لا رادع لها من ضمير، ولا ضابط من قيم إنسانية ولا احتساب للموت والدمار والخراب التي تذهب ضحيته الأغلبية. ومع كل ذلك يراد للناس كل الناس أن تلهو وتتسلى وتفرغ من الثقافة «الجادة» لتملأ وتكتنز بثقافة التسلية التي تعني الفراغ والنسيان والغفلة والسطحية.
هل حقاً أن سياسة الإعلام العربي تسعى لتكريس الجهل والتخلف والأمية المعرفية والفراغ الفكري، ونحن نعاني منها أشد المعاناة، وفيها تكمن جذور تخلفنا المريع هذا؟ هل حقا أن الإعلام العربي يحارب المفكر والمثقف المنشغل بقضايا الإنسان والواقع ويحاصره ليكون إما تابعاً وإما جائعاً أو منزوياً، يكتب ويبدع لخلاص روحه الفردية من غثاثة الواقع؟ أيمكن أن تضيق منابر الإعلام على كثرتها بالمبدع والمثقف وتضيّق عليه، بينما تتسع لكل أشكال التسلية؟. أيمكن أن نصدق دسيسة وخديعة كهذه وننجرف في تيارها وندعي أن شعوبنا العربية هذه لا تحتاج إلى أدب رفيع وثقافة تنويرية رغم ما يحيط بها من محن وهزائم وانكسارات؟! أم أن ثمة ذعراً خفياً من أن تنير الثقافة العميقة والجادة عقول الناس فتكتشف الأسباب الخفية والحقيقية لتخلفها!!