استضافت مؤسسة الحوار الإنساني بلندن يوم الاربعاء 16 تشرين الاول/اكتوبر 2019 الكاتب والصحفي العراقي الاستاذ عبد المنعم الاعسم في أمسية ثقافية سلط فيها الضوء على ظاهرة التغييب القسري في العراق، وعلى حجم المشكلة وعينات منها، وعلى المواثيق الدولية المتعلقة بهذه الظاهرة وموقف العراق منها، والبعد الاجتماعي والحقوقي للظاهرة.
عبد المنعم الاعسم كاتب وصحفي، ولد في مدينة المحمودية ودرس فيها، تخرّج في دار المعلمين، غادر العراق عام 1978، حصل على ماجستير صحافة من جمهورية رومانيا، أصدر سبعة كتب في التراث والسياسة. كتب عمودا صحفيا يوميا عنوانه (جملة مفيدة) طوال 18 عاما، حصل على جائزة “شمران الياسري للعمود الصحفي” في مهرجان جريدة طريق الشعب السنوي. يشغل عبد المنعم الاعسم حاليا منصب رئيس النقابة الوطنية للصحفيين العراقيين.
المقدمة
إن (التغييب القسري) حسب الوثائق الدولية ومدونات حقوق الانسان هي حالات خطف الاشخاص لاسباب سياسية من قِبَل جهات سياسية أو جماعات مسلحة خارجة عن القانون لكنها تحظى بغطاء من جهات أخرى وجيوب حكومية متنفذة تحميها من القصاص، تقوم بتصفية خصومها عن طريق اخفائهم قسراَ ثم التنكيل بهم. وقد شهد العراق مراحل عدة خلال العقود الماضية، غاب خلالها الآلاف من العراقيين دون أن يعرف لهم مصير. فما بين الحكم الدكتاتوري وبين اليوم تنتظر آلاف الأسر أبنائها، ولا تزال الاف العائلات تكابد فجيعة اختفاء ابنائها منذ العام 2003 وقد تقطعت بها السبل في البحث عن مصائرهم، او في الاقل، الاسترشاد الى جثثهم لكي تكون لهم قبور مثل الاخرين، وأكثر فجائع هذا الملف تُقرأ في ما تركه الغائبون من ابناء صغار يكبرون على أمل عودة ابائهم، وفي امهات يعشن عاما بعد عام تحت جمرة الانتظار الحارقة، وقد قضت امهات واباء تحت لوعة هذه الفجيعة.
وإذ يعرف المغيبون قبل العام 2003 الجهة التي غيبتهم (حكم الدكتاتورية) فان مغيبي اليوم ضائعون بين جهات عديدة، لا تكشف عن مصائرهم، ولا تعترف حتى بمسؤوليتها عن اختفائهم، وفي هذا يكمن مشهد الجريمة الانسانية بالالوان الطبيعية، بالرغم من ان عائلات الضحايا ويوميات الاحداث الامنية التي مرّ بها العراق توجه اصابع الاتهام الى هذه الجهة (او الزعامة) او تلك ، لتصبح لدينا لائحة اتهام لا تعفي احدا من لاعبي المرحلة من المسؤولية، بل ان القوانين والمعاهدات الدولية تقضي باحالة كل من يشتبه بمسؤوليته المباشرة وغير المباشرة عنها(او يتماهل في واجبه حيالها) الى العدالة حتى تثبت براءتهم، وفي المقدمة منهم المسؤولين عن السلطة التنفيذية.
المواثيق الدولية
وافق العراق على الانضمام الى ” الاتفاقية الدولية للحماية من الاختفاء القسري” في القرار الذي اتخذه مجلس الوزراء في الخامس عشر من حزيران 2009 وخلال جلسته السابعة والعشرين، وكانت الاتفاقية قد اعتمدت من قبل الهيئة العامة للامم المتحدة في حزيران من العام 2008 بعد ان كانت بمثابة (اعلان دولي) اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرارها 47/133 المؤرخ 18 كانون الأول/ ديسمبر 1992 الذي يجرّم الاختفاء القسري، وليس من الغرابة ان لا توقعه حكومة النظام السابق التي تحتفظ بسجل مخز في اختطاف واخفاء معارضي النظام وكل من تحوم حوله شبهة عدم الولاء للحاكم المطلق.
وقبل الكشف عن مصير قرار مجلس الوزراء والاجراءات التي اتخذت لتنفيذه لفتح ملف عشرات الالوف من المغيبين والمختطفين الذين فقدوا طوال اكثر من ثلاثين سنة، ينبغي المرور بابرز مضامين الاتفاقية، سيما بعد ان ظهرت علائم وفيرة على غياب فهم واستيعاب احكامها والتزاماتها واتجاهاتها بالنسبة للجهات والشخصيات والمحاولات الاعلامية التي اوكلت لها وناقشتها، عدا عن الغموض المتعمد احيانا حيال ما يفرق حالات الاختفاء القسري المحددة في الاتفاقية عن سواها من حالات التنكيل والاضطهاد التي شهدها العراق.
تتضمن الاتفاقية ديباجة (مقدمة) و45 مادة موزعة على ثلاثة اقسام وتستند “إلى العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وإلى العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وإلى الصكوك الدولية الأخرى ذات الصلة بمجالات حقوق الإنسان والقانون الإنساني والقانون الجنائي الدولي” وترفع حالات الاختفاء القسري” في ظروف معينة يحددها القانون الدولي، الى مصاف جريمة ضد الإنسانية”.
وتلزم الدول بـ ” مكافحة إفلات مرتكبي جريمة الاختفاء القسري من العقاب”.وفي الجزء الاول -المادة الاولى (2) تحرم الاتفاقية التبريرات التي تطلق للتقليل من شأن هذه الجريمة فتنص على ان ” لا يجوز التذرع بأي ظرف استثنائي كان، سواء تعلق الأمر بحالة حرب أو التهديد باندلاع حرب، أو بانعدام الاستقرار السياسي الداخلي، أو بأية حالة استثناء أخرى، لتبرير الاختفاء القسري” وعلى جميع الدول العمل (المادة 4) ” لكي يشكل الاختفاء القسري جريمة في قانونها الجنائي”.
وإذ يجري التستر على الفاعلين المباشرين وغير المباشرين والتهوين من مسؤولية الموظفين من اصحاب العلاقة في افعال الاختطاف والاخفاء القسري فان (المادة 6) تقضي، في نصوص واضحة، بمعاقبة كل “من يرتكب جريمة الاختفاء القسري، أو يأمر أو يوصي بارتكابها أو يحاول ارتكابها، أو يكون متواطئا أو يشترك في ارتكابها، او كان على علم بأن أحد مرؤوسيه ممن يعملون تحت إمرته ورقابته الفعليتين قد ارتكب أو كان على وشك ارتكاب جريمة الاختفاء القسري، أو تعمد إغفال معلومات كانت تدل على ذلك بوضوح؛ او كان يمارس مسؤوليته ورقابته الفعليتين على الأنشطة التي ترتبط بها جريمة الاختفاء القسري؛ او لم يتخذ كافة التدابير اللازمة والمعقولة التي كان بوسعه اتخاذها للحيلولة دون ارتكاب جريمة الاختفاء القسري أو قمع ارتكابها أو عرض الأمر على السلطات المختصة لأغراض التحقيق والملاحقة، كما لا يجوز التذرع بأي أمر أو تعليمات صادرة من سلطة عامة أو مدنية أو عسكرية أو غيرها لتبرير جريمة الاختفاء القسري”.
وتلزم المواد الثامنة والتاسعة الدول على التعاون في ما بينها لتأمين معاقبة اولئك الذين ارتكبوا جرائم الاختطاف والتغييب، فيما تشدد المادة (10) ” على كل دولة طرف يوجد في إقليمها شخص يشتبه في أنه ارتكب جريمة اختفاء قسري أن تكفل احتجاز أو تجري تحقيقات عادية لإثبات الوقائع. وعليها أن تعلم الدول الأطراف الأخرى بنتائج تحقيقها الأولي”.وقراءة سريعة في نصوص الاتفاقية قد تساعدنا على الاجابة عن السؤال: لماذا تجري عرقلة تشريع قوانين واضحة بملاحقة ابطال هذه الجريمة، وبينهم من نطالع وجوههم يوميا؟.
الموقف الحكومي من الملف
ويعد (موقف التفرج ) من قبل الحكومات على هذه الجريمة (والتباطؤ) في ملاحقة المجرمين بمثابة شبهة تقع عليها او على ركن من اركانها في ارتكاب جريمة التغييب القسري لاسباب سياسية شنيعة، ولدينا في العراق ضحايا لها يستيقظون في منازلهم صباح كل يوم، يتساءلون عما حل بقضيتهم العادلة.
وتُحمّل الامم المتحدة وفق “الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري لعام 2006” الحكومات المسؤولية المباشرة عن مصائر اولئك الذين اختطفوا وغيبوا، وتكون تحت طائلة الحساب والمساءلة في حال اهملت هذه المسؤولية او حتى عجزت عن ملاحقة المجرمين، وفي السجل الدولي ثمة الكثير من الحالات التي اضطرت فيها حكومات الى الاستقالة في حال لم تتمكن من اقناع الرأي العام بجدية البحث عن المختفين قسريا، ويمكن بهذا الصدد قراءة ملف المغيبين في تشيلي بامريكا اللاتينية ومسؤولية الدكتاتور اغستينو بينوشيت الذي حكم بلاده بين 1973 و1990 والذي تم إعتقاله في لندن العام 1998 وتسليمه الى سلطات بلاده بعد سنوات.
المادة 12 من الاتفاقية (الفقرة 1) تلتزم الدول الموقعة بالتحرك على وجه السرعة لملاحقة المجرمين بان “تكفل لمن يدعي أن شخصا ما وقع ضحية اختفاء قسري حق إبلاغ السلطات المختصة بالوقائع وتقوم هذه السلطات ببحث الادعاء بحثا سريعا ونزيها وتجري عند اللزوم ودون تأخير تحقيقا متعمقا ونزيها. وتتخذ تدابير ملائمة عند الاقتضاء لضمان حماية الشاكي والشهود وأقارب الشخص المختفي والمدافعين عنهم، فضلا عن المشتركين في التحقيق، من أي سوء معاملة أو ترهيب بسبب الشكوى المقدمة أو أية شهادة يدلى بها” ثم، في (الفقرة 2) تجري السلطات ” تحقيقا حتى لو لم تقدم أية شكوى رسمية” ويشار ايضا الى ضرورة تامين الصلاحيات والموارد اللازمة لسلطات الملاحقة والتحقيق ” بما في ذلك إمكانية الاطلاع على الوثائق وغيرها من المعلومات ذات الصلة بالتحقيق الذي تجريه” فضلا عن “سبل الوصول، وعند الضرورة بإذن مسبق من محكمة تبت في الأمر في أسرع وقت ممكن، إلى مكان الاحتجاز وأي مكان آخر تحمل أسباب معقولة على الاعتقاد بأن الشخص المختفي موجود فيه” كما جاء في (الفقرة 4).
ويعد التضييق على المعنيين بالاختفاء والمشتبه بتورطهم في اعمال الاختطاف من مسؤولية الحكومات التي ينبغي وفق (الفقرة 4) من المادة (12) ان تتخذ التدابير اللازمة ” لمنع الأفعال التي تعوق سير التحقيق والمعاقبة عليها. وتتأكد بوجه خاص من أنه ليس بوسع (المتهمين) بارتكاب جريمة الاختفاء القسري التأثير على مجرى التحقيق بضغوط أو بتنفيذ أعمال ترهيب أو انتقام تمارس على الشاكي أو الشهود أو أقارب الشخص المختفي والمدافعين عنهم، فضلا عن المشتركين في التحقيق”.
وتنزع الاتفاقية الصفة السياسية من جرائم الاختفاء القسري في حالة واحدة حين يكون المتهم بارتكاب هذه الجريمة قد قبض عليه في دولة اخرى، حتى لا تستخدم الصفة في الحيلولة دون تسليمه الى حكومته ( حالة بينوشيت). وفي المادة (13) تحديد دقيق لاليات تعامل الدول الموقعة على الاتفاقية مع المجرمين وسبل تسليمهم فجريمة الاختفاء “لا تعتبر جريمة سياسية، أو جريمة متصلة بجريمة سياسية، أو جريمة تكمن وراءها دوافع سياسية. وبالتالي، لا يجوز لهذا السبب وحده رفض طلب تسليم يستند إلى مثل هذه الجريمة” فيما هي “من الجرائم الموجبة للتسليم في كل معاهدة تسليم مبرمة بين دول أطراف قبل بدء نفاذ هذه الاتفاقية” وفي الفقرة (3) اشارة الى التزام دول الاتفاقية “بإدراج جريمة الاختفاء القسري ضمن الجرائم المسوغة للتسليم في كل معاهدة تسليم تبرمها لاحقا فيما بينها” وتمنع الاتفاقية تذرع بعض الدول بعدم وجود اتفاقيات بينها تلزم بتسليم المطلوبين، فتعد الفقرة (4) هذه الاتفاقية “بمثابة الأساس القانوني للتسليم فيما يتعلق بجريمة الاختفاء القسري” وطبعا لا تجيز الفقرات اللاحقة للحكومات التصرف خارج موصوف الاختفاء القسري بغرض “ملاحقة الشخص أو معاقبته بسبب نوع جنسه أو عرقه أو دينه أو جنسيته أو أصله الإثني أوآرائه السياسية، أو انتمائه إلى جماعة اجتماعية معينة” ولهذا معالجات في اتفاقيات ومعاهدات اخرى.. وله ابطال واسنان ومشانق.