خلق الإسلام التسامح –
قيمة التسامح في الفكر الغربيّ الحديث كانت هي المخرج من الحروب الأهليّة، تلك الحروب التي استمرت عقوداً بين المذاهب المسيحيّة؛ فكان الحلّ هو تكريس التسامح الدينيّ والتعايش (رغم أنّ هذا لم يتمّ مع المسلمين)، ثمّ ما لبث أن صار التسامح قيمة مدنيّة مناطها الحريّة الفرديّة، وتقبل ممارسة الفرد لتلك الحريّة دونما الالتزام بالقيم الدينيّة برمّتها، منتظراً أن يتمّ التعامل معه بتسامح أيّاً كان ما يفعله، ما دام لا يتدخّل في حريّة الآخرين، حتّى لو لم يكن له بهم صلة حقيقيّة سياسيّة، أو مدنيّة، أو اجتماعيّة.
أهم المقولات:
1.التسامح ليس مبدأ إسلامياً فحسب، إنّه أداة للإدارة الاجتماعيّة.
2.التسامح خلق للرسول ملزم لمن اتّبع سنّته.
3.قضايا التسامح في الإسلام لا تنحصر في حريّة الرأي بل تمتدّ إلى السلوك الاجتماعيّ والسياسيّ.
4.من منهج القرآن نتعلّم أنّ الإسلام لا يضع على أفواه الناس كاتماً للصوت لكنّه يُطالبهم بحسن الأدب.
5.شرعة الله في النقاش أنّه إن تخلّى المحاور عن الأدب واستهزأ فإنّ الردّ لا يكون بالعنف، بل بالتوقّف عن المجالسة والحوار.
6.التسامح بضمان الأمن عند القول والجدل مبدأ يضمن ألا تؤدّي مصادرة الأفكار لإكساب الحجة الباطلة ثوب الضحيّة.
والحق أنّ القيمة في ذاتها قيمة إيجابيّة الدلالة، لكن هذا لا ينفي كون لفظها مترجماً عن المعجم اللغويّ الغربيّ، لكن لأنّ المعاني القيميّة متشابهة ومشتركة بين الحضارات ودلالاتها وسياقاتها تختلف؛ يلزم العقل العربيّ العودة إلى كتابه الأمّ: وهو القرآن الكريم لاستجلاء الحقل الدلاليّ للمفاهيم واستكشاف الألفاظ التي استخدمها الفريقان للتعبير عن هذه المساحة من احترام الآخر وحفظ حقه في الاختيار والوقوف عند حدود خصوصيّته وكفالة حقّه في التعبير. وكذا الرجوع لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ تلك التي جسّدت القيم القرآنية سلوكاً وخلقاً يوميّاً.
المفهوم القرآنيّ للتسامح
بداية، يجب أن نفهم أن منهج القرآن – الكامن خلف نصّه – هو منهج يحترم العقل ويحترم خصوصيّة الفرد، ولا يُصادر الفكر المخالف، ولو كان منطق الشيطان، أو الحجج الجداليّة للكفر، حيث سجّلها النصّ القرآنيّ ليعلّمنا كيف نفكّر بشكل واعٍ؛ ونكون على دراية بكلّ حجّة ومقال، وكيف نردّ لا لفظاً فحسب، بل أدباً أيضاً، بل نمدّ الآراء على استقامتها ونفنّد أسسها. ولعلّ أوضح آية في الكتاب هي قول الله تعالى: “قل إن كان للرحمن ولد فأنا أوّل العابدين” (الزخرف:81).
إخراج كلّ الآراء إلى النور حتى يميز العقل الإنساني ما بين الخبيث والطيب هو منطلق الرسالة الإسلامية. والتسامح بضمان الأمن عند القول والجدل مبدأ يضمن ألا تؤدّي المصادرة لإكساب الحجة الباطلة ثوب الضحية، فيتعاطف معها الناس برغم فساد أصلها، لأنها محرومة من أن يكون لها صوت، ومن منهج القرآن نتعلّم أنّ الإسلام لا يضع على أفواه الناس كاتماً للصوت، لكنّه يطالبهم بحسن الأدب، فإن تخلى عنه المحاور واستهزأ فإن الرد لا يكون بضرب العنق ولا بقطع اللسان، بل بالتوقف عن المجالسة والحوار حتى يستقيم أسلوبه أو ينتقل إلى قضية أخرى كما ذكرت الآية 140 من سورة النساء.
لكن قضايا التسامح لا تنحصر في حريّة الرأي، بل تمتدّ إلى السلوك الاجتماعي والسياسي، وهنا فإنّ التسامح يظلّ مناطه الجماعة والأمة لا الدولة والنظام. ففي السياسة هناك عدل وقانون، إذا بلغ النظام خرقاً للعدل أو اعتداءً على القانون. فلا يوجد مجال للتسامح عندما يتمّ الاعتداء على العرض أو النفس أو المال. لذا كان الحديث النبويّ “ادرؤوا الحدود بالشبهات” و”تدافعوا الحدود فيما بينكم”، تلك التي حملت نصحاً للجماعة أن تعتبر الفعل مسؤوليّة اجتماعيّة مشتركة، كالتضامن في دفع الدية (العاقلة) في القتل الخطأ، والستر على الزاني، وغضّ الطرف عمّن سرق ليسدّ جوعه. بل تواتر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّه أعرض عن «الفتى ماعز» حين جاء يعترف بالزنا، وأشاح بوجهه عنه، وشكّك في عقله. وفي أكثر من مرة كان السارق يؤتى به للخليفة فيسعى للقيام بدور كانت الجماعة أولى به فيستجوبه ويقول «أسرقت؟ قل لا!».
في التصور الإسلامي بين القانون وأجهزة الدولة والفعل الإجراميّ مساحة من المناطق العازلة الاجتماعيّة التي تضمن الرحمة، وتتيح الستر وتحضّ على التوبة وتدافع الحدّ، إذا ما تجاوز فعل حدّاً من حدود الله. فالتسامح الاجتماعيّ وتقديم التنازل والعفو المتبادل هو من دلائل رحمة الشريعة التي تتجاوز وتعلو. ومن هنا كانت مقولة (الرحمة فوق العدل)، والأصل فيها أنّ العدل فوق نصّ القانون، والجماعة فوق الدولة، بدون أن يعني هذا استهانة بسيادة القانون وواجبات حفظ الأمن، وكما قيل: يجدُّ للناس من الأقضية بقدر ما يُحدثون من الفساد.
جانب آخر من التسامح في الإسلام هو ما عبّر عنه الإسلام باعتبار أهل الكتاب أهل ذمّة. فعلى الرّغم من تفنيد عقائدهم ودحض مقولاتهم؛ كفل لهم حريّة العقيدة والعبادة. بل إنّ العهدة العمريّة ـ نسبة إلى عمر بن الخطاب ـ ضمنت لهم تعليق صلبانهم ودقّ نواقيسهم، وهو ما يتأسّس عليه ولاؤهم للدولة إن مكّنتهم من دينهم وحفظت ورعت عبادتهم حتّى في وقت الحرب.
لكن هناك بعداً هامّاً للتسامح في القرآن غاب في معظم الكتابات المعاصرة، وهو التسامح في المعاملات والتسامح في الأسرة. ففي المعاملات التجاريّة نصّ الحديث على التسامح في البيع والشراء تقديماً للعلاقة الإنسانيّة على قيم السوق، وتهذيباً لنفس المؤمن من التكالب على درهم أو دينار يزيد في الربح يدوس من أجله في تنافس شرس على قيم الأخوة، ودعا ألا (يبيع بعضنا على بيع بعض)، و(رحم الله عبداً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا اقتضى)، كما أنّ هناك حضّاً واضحاً على العفو عن الدَّيْن والصدقة الخفيّة.
أمّا البعد الثاني فهو التسامح في علاقات النسب والزواج. وفي سورة البقرة أدب عال رفيع في التعامل مع قضايا الطلاق وفسخ العقد قبل الدخول بتسامحٍ وفضلٍ وتعفّفٍ عجيبٍ عن المال، بل فرض الله التسامح مع الزوجة حتّى إن كرهها الزوج، فأيّ تسامح وسماحة أكبر من حسن المعاشرة بالمعروف مع تقرير القرآن أنّ الرجل قد يكرهها، لكنّه عليه آنذاك أن يقرأ قوله تعالى: “وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم” (البقرة:216)، وقوله تعالى: “فإن كرهتموهنّ فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيرا” (النساء:19).
التسامح أداة لإدارة المجتمع الإسلامي
التسامح ليس مبدأ إسلامياً فحسب، إنّه أداة للإدارة الاجتماعيّة، وخلق يدخل في السلوك اليوميّ للمسلم في بيته، وفي متجره، وفي الطريق، وفي كلّ دائرة يدور فيها. فقد عذر رسول الله بالجهل من بال في المسجد، وتحمل غلظة الأعراب وسوء أقوالهم، وأعرض عمّن وقع في الكبيرة أملاً في توبته وستراً للحرمات، وقد كان صلّى الله عليه وسلم أورع الخلق وأحرصهم على حدود الله، لكنّه أراد ألا تتعلّم الأمة التعالي بالطاعة، بل تتراحم وترحم العاصي حين تورثه المعصية ذلاً وانكساراً، فيسأل العبد الله العافية ولا يستكبر بالطاعة ويخفض جناحه رحمة بالخلق وجبراً للضعف، كما كان رسولنا قدوة الأمّة يفعل مع أصحابه، بل رحمة وتسامح حتّى مع أعدائه، وهل هناك تسامح أعلى من السؤال عن الجار المؤذي حين غاب أذاه، ثمّ على المستوى السياسيّ العفو العام يوم الفتح، لا ثأر ولا تنكيل بل رأس مطأطأة شكراً لله ونفس سمحة تقبل الرجوع والتوبة، وتربية على العفو قبل أو بعد العقوبة، والرحمة قبل وبعد تسوية الخلافات، والترفّع عن الحقد والحسد والغلّ، وكان من نصحه للمسلم وتنبيهه: “شرّكم من لا يقيل عثرة ولا يقبل معذرة”.
التسامح ليس قيمة اجتماعيّة فحسب، بل هو من خلق الرسول في عصر نسي فيه المسلمون أنّ خلق الرسول عليه السّلام ملزم للأمة، وأنّ المعرض عن سنّته في الفعل والترك والعفو لا خير في تمسّكه بسنته في عادة زمانه، إذ قد استبدل المتغيّر بالثابت – والفرع بالأصل.
الرحمة والعفو والفضل والعدل هي الألفاظ القرآنية التي تعبّر عمّا يسمّيه الغرب التسامح. حدّد القرآن، وأرشدت السنة، أين ومتى وفي أيّ مساحات وبأيّة معايير نتسامح. حفظت الحقوق لكنّها حضّت على الرحمة، وضمنت القصاص، لكنّها قدّمت العفو. وقاست ووازنت العلاقات، لكنّها حثّت على الإيثار والفضل. وأقامت قواعد السياسة على دستور أوضح العلاقة بين السلطات والقواعد التي تشتقّ منها القوانين، لكنّها قدّمت العدل على النصّ والنّاس على السلطان.
أشرف من تسامح وتسامى كبشر كان محمداً صلّى الله عليه وسلّم. اقرؤوا سنّته وكيف كان خلقه.. القرآن، كان سبيله الرحمة ومنهجه العفو ومقصده العدل. هذه هي قيم الشهادة على العالمين التي تجعل الإسلام منهج حياة.
د. هبة رؤوف عزت