من السهل القول ان العراق بحاجة الى مراجعة شاملة لمقتضيات التعايش بين مكوناته .. من السهل الحديث عن مؤتمر عام يجمع الفرقاء من داخل العملية السياسية العراقية وخارجها، للاتفاق على جردة حساب تنهي كل هذا التخبط والتضارب في قراءة مستقبل بلاد ما بين النهرين.
المولف: مصطفى الكاظمي
الاصعب هو تخيل خريطة طريق واضحة تضع الفرقاء العراقيين امام مسؤولياتهم التاريخية على الارض لا على قاعدة الفرضية والتنظير.
في عام 2003 كان العراق امام مواجهة من نوع مزلزل، فنهاية حكم ديكتاتوري تسلطي قبع على صدور السكان اكثر من ثلاثة عقود لم يكن فعلاً عراقية ذاتياً بشكل مطلق، بل تم على يد الجيش الاميركي ، الذي وضع العراقيين خصوصاً ذلك الطيف الاوسع المتضرر من نظام صدام حسين امام خيارات مربكة في الحسابات التاريخية، فهو من جهة يشكر القوات الاميركية لتضحياتها من اجل ازاحة نظام صدام حسين، ومن جهة اخرى لا يستطيع مجابه المنطق التاريخي نفسه الذي استخدمته المليشيات المسلحة السنية والشيعية تحت شعار “مقاومة الاحتلال الاميركي”.
تلك المحنة لا يجوز اغفالها ، ولا يجوز عبورها كأنها لم تكن اصلاً ، ولا يجدر التعامل معها باعتبارها قد انتهت مع انسحاب اخر جندي اميركي من العراق نهاية 2011.
الاصح ، ان يتم الانتباه الى حقيقة ان العراقيين كشعب واحد وايضا كمنظومات اجتماعية متنوعة دينياً ومذهبياً وقوميا وعقائدياً، كانوا ضحية التباس استمر بين عامي 2003 و 2012 لم يتح له ابرام عقد اجتماعي داخلي كامل ومفروغ منه للانطلاق في محاولات اللحاق بركب الحراك “العولمي” المتصاعد، مع ان الدستور العراقي الحالي والمختلف في بعض اسسه قد يكون قاعدة عقد بالإمكان التوسع في الاتفاقات حوله.
لكن الدستور يجب بدوره ان لا يكون خطاً احمر امام مثل هذا العقد، فالجميع يعرف ان الدستور مرر نهاية العام 2005 على رغم اعتراض مكون عراقي اساسي عليه هو المكون السني، وتمرير اتفاق واسع النطاق يتطلب وضع بنود الدستور نفسه تحت مجهر المراجعة والفحص.
ويمكن التذكير ان الدستور نفسه كان اشترط لسد النقص في التوافق الاجتماعي حوله اجراء تعديلات واسعة النطاق كان من المفترض ان تتم نهاية العام 2006 ، لكن البرلمان الذي فشل منذ ذلك الحين في الاستجابة الى سقف زمني صريح وضعه الدستور نفسه، كان يعمق الهوة بين هذا النص وقاعدة جماهيرية عريضة، مع العلم ان الدستور في جوهره هو مشروع عقد اجتماعي توافقي ، وان تجارب الامم الاخرى خلصت الى ان دساتيرها لا تمرر بتصويت الغالبية البسيطة، بل بالاقتراب من اكبر نسب الاجماع الشعبي الممكنة.
الازمات التي يشهدها العراق منذ انسحاب اخر جندي اميركي مقاتل بداية العام الماضي ، لا تتعلق بوجود هذا الجندي على الارض العراقية من عدمه، وانها لا تتعلق بتلك الرؤية الشرق اوسطية المتجذرة عن “مؤامرة” غربية ضد شعوب هذه المنطقة، وضد العراق كمحرك اساسي لتفاعلاتها.
المشكلة في صميمها تكمن في ان العراقيين ممثلين بالأوساط السياسية الحالية، لم يتفقوا على عقد جديد لبناء الانسان العراقي قبل بناء اسس الحكم ومفاهيمه وحدوده.
يجب القول ان تواريخ 2003 و 2012 ليست مجتزأة من تاريخ الازمات العراقية التي تمتد عميقاً في الماضي على شكل ارتباكات دينية، ومذهبية يبدو من المستحيل اصلاحها، لكن الاعتراف بها وتذليل الافتراق حولها هو مناخ للتعايش.
تلك المهمة يؤديها رجل الدين العراقي والمثقف جنباً الى جنب، ولهذا فأن اي خريطة طريق للخروج من ازمتنا الحالية لا يمكن ان تمر من دون العبور على هذين الممثلين الاجتماعيين.
المبدأ الاساسي المطلوب في العراق وفي غياب شخصية جامعة كرئيس الجمهورية جلال طالباني هو تحقيق حراك ديني وثقافي يكون بمثابة الغطاء لأي تحرك سياسي لعقد اجتماع ممثليات اجتماعية وسياسية تحت ظل الدستور وقواعد اللعبة السياسية وقوانينها لا خارجها.
لكن الدستور والقوانين لن يكونوا بدورهم بمعزل عن مراجعات جردة الحساب العراقية المقترحة، فالسؤال المطروح في ظل الاحتجاجات السنية وتصاعد النبرات الانفصالية لدى المكونات الثلاثة (سنة وشيعة واكراد) لا يخص كيف نشكل حكومة او كيف نقيل اخرى .. تلك قضية اجرائية وشكلية في نهاية المطاف، يمكن ان تتحقق عندما يمتلك العراقيون قاعدة سياسية جامعة متفق عليها تتشكل في اطارها الحكومات وتقال، ويدار الصراع ، وتعالج القوانين ويتفق او يختلف عليها، من دون ان يهدد ذلك بتقسيم البلد.