كان يمكن للسينما العراقية أن تقوم وتتأسس في بدايات القرن المنصرم، الا أنها ظلت في حالة ولادة عسيرة بين محاولات مبدعين حالمين وجهود قطاع خاص، الى حين تبلورها في نهاية الأربعينات. وبقيت تراوح في مكانها ولم تتطور لاحقاً، جراء ظروف معيقة ومعرقلة أحاطت بالعراق، من سياسات سلطوية وتسلطية وحروب وحصار.
وكما يتغير كل شيء الآن بروح التجدد والتحديث، تشهد السينما العراقية محاولات جريئة لشباب مبدع، للسير بعجلتها قدماً، ومواكبة ما يجري من ديناميكية وتجديد، برع من بينهم المخرج المجتهد محمد الدراجي، الذي قام بإخراج فيلمه الثاني (ابن بابل) بعد فيلمه الطويل (أحلام).
اعتمد فيلم ( ابن بابل) على موضوعة الفقد والبحث عن الأمل، وتمحور حول معاناة أم كردية تبحث عن ولدها المفقود أثناء حرب الخليج الثانية، في أحد سجون الناصرية في الجنوب، غير مكترثة بمرضها وجهلها باللغة العربية، معتمدة على حفيدها الصغير في مرافقتها وقراءة وترجمة ما تراه وتسمعه، وبعد معاناة رحلة طويلة، وسفر محفوف بمخاطر، وأوضاع أمنية غير مستقرة، أبان الاحتلال الأمريكي وسقوط النظام، لم تجد ولدها في السجن، فتبدأ رحلة أخرى الى المقابر الجماعية، مثلها مثل كثير من وجوه حائرة ومكلومة، من نساء ورجال يبحثون عن أعزاء لهم مفقودين، ولما فارقها الأمل في العثور عليه، تفارقها الحياة.
يعتبر الفيلم خلاصة مكثفة لحزن عراقي، ومأساة شعب أبان حكم النظام السابق، ويفتح جروح وجع من جور سلطوي استباح البلد، حيث دفن وغيّب أكثر من مليون شخص في أكثر من 300 مقبرة جماعية، كان في بعضها أكثر من 4000 انسان، ممن رفضوا الحرب، أو ممن ثاروا على مظالم، وأغلبهم من الشباب، مع عوائل بأكملها، لتكون النتيجة تالياً، ملايين من الأيتام والأرامل والثكالى، وكارثة انسانية وصفحات سوداء من انتهاكات وحشية لحقوق الانسان العراقي.
أدان البعض من معارضي موضوع الفيلم، الذي حكُم عليه بموضوعته السياسية لا الفنية، وأستكثر ناقدوه من عراقيين وعرب، فكرة تناول المقابر الجماعية، دون الإشارة الى جرائم الاحتلال، والى مجازر حدثت بعد تغيير النظام… وفي هذا المجال، لا يمكن لأحد أن يسكت ويشطب على تلك الجريمة ويتغافل عنها، لأن تسليط الضوء عليها، والإشارة الى مسبباتها وكوارثها، يمنع ما جرى من بشاعة أن تتكرر لاحقاً، و يمهّد لعلاقات جديدة متسامحة، مما يعني، أن لا ضير في أن تكون هناك أفلاماً أخرى عن أخطاء جسيمة أرتكبها الجنود الأمريكان وإدارتهم في بلدنا، فالعنف مرفوض سواء كان على يد ابن البلد أو على يد غريب، وليس طغيان الأجنبي أشد بشاعة من طغيان أهل البلد، فالمبدأ واحد، إدانة الجريمة والقائم بها، ولا يمكن تبرير فعل الجريمة أي كان مصدرها.
وبالتالي، يعبر فيلم ابن بابل، عن وحدة الجرح العراقي، ويمتد الى أكثر من حكاية فقدان ابن والبحث عنه، بل ترتسم فيه القيمة الانسانية في البحث عن العدالة وحق العراقي في عيش كريم، انه رسالة لجلب الانتباه الى كل المفقودين والمغيبين السياسيين في العالم، والى مديات وخطورة انتهاك حقوق الانسان. اننا في حاجة أن نبرر للجيل القادم ما حصل للأجيال التي سبقته من مخلفات الديكتاتورية، وما لم نضع يدنا على الجرح، لا يمكن أن نضمده.
وطالت الفيلم أيضاً انتقادات لاختيار بطلة كردية، رغم أن فجيعة شعبنا كانت لا تفرق بين قومية وأخرى، وربما رأى صانعو الفيلم ان ظاهرة المقابر الجماعية والتصفيات الجسدية لمعارضي الرأي تمتد من شمال العراق الى جنوبه ولا تقتصر على بقعة واحدة، وخير تجسيد لرحلة الألم الطويلة تلك، هو هذه المرأة الآتية من شمال البلاد، لتمتزج مأساتها مع مآسي نسوة أخريات من وسط وجنوب البلاد، وذلك دلالة على شمولية ظاهرة المفقودين، وكذلك اللغة المشتركة بين أولياء الضحايا والتي تجسدت في مونولوج المرأة الكردية والمرأة العربية على القبور، واللتان فهمتا إحداهن الأخرى بدون ترجمة، انها لغة الألم الشاملة الموحدة، لغة الانسانية التي لا تنحصر في عربي أو كردي، والتي فيها إدانة للجميع.
وظهر في الفيلم طرح حضاري بدا مطلوباً، تمثل في شخصية (موسى) وتقديمه للمساعدة للجدة والحفيد بروح انسانية متشذبة، رغم رفض الجدة لشخصه ولعونه في البداية، لكونه خدم في الحرس الجمهوري سابقاً، في إشارة واضحة، الى مفهوم التسامح مع الآخر المختلف، فيما لو برهن بصدق عن تغير إيجابي، وأن ليس كل من كان ضمن مؤسسة النظام السابق، شخص مدان ومنبوذ، وأنه كان مجبراً على تلبية أوامر لا يؤمن بها، كما حالة ابن الجدة، الجندي الذي التحق بالحرب دون رغبة منه، بل بدافع الخوف والإكراه.
خرج (ابن بابل) من عباءة السينما العراقية الواقعية، وقام بتوثيق وتوظيف الموضوع السياسي بالفن، فغدا الحدث هو البطل الذي أوصل للجمهور رسالة هامة، وهي أن أحلامنا ممكن أن تنهض بعد أن كنا نظن أنها و آمالنا تعوقت، فلا عجب أن حصد الفيلم أكثر من عشرين جائزة في كثير من المهرجانات، ومن العديد من المنظمات العربية والعالمية.
أعتمد المخرج على مؤثرات سينمائية بسيطة ومحدودة، وتنوعت موسيقى الفيلم ما بين مواويل كردية وعراقية حزينة للمثلين أنفسهم، ومزمار خشبي يتشبث به الحفيد (أحمد)، في إشارة رمزية الى الامتداد الحضاري لجيل والده، والى كمشة أمل في حياة جميلة ومتواصلة، رغم أحزانها ومطباتها، حيث لا يوجد أكثر دلالة من الفولكلور والموسيقى والتراث، على حياة الشعوب.
ورغم أن البطل في الفيلم، هو الحدث الموضوعي لفترة زمنية ماضية، فقد أعتاد المخرج الدراجي على انتقاء ممثليه من بين غير المحترفين، فقد قامت الجدة ( شازدة حسين) بدورها وكأنها تمارس حياتها الطبيعية دون وجود كاميرا أمامها، لكونها عاشت في حياتها الحقيقية نفس القصة، فجاءت الصورة لحياة واقعية ولأناس عاديين تتبعهم كاميرا المخرج، وكذلك الفتى ( أحمد) الذي تربى مع جدته على مأساة فقدانه لأبيه، مثله الأعلى، ونضج الولد الصغير أثناء الرحلة أكثر، وأدرك كثيراً من الأمور ما كان يتعلمها لولا تجاربه في تلك الرحلة، وتجلى عناده في المطالبة بحقه فيما يدرك بأنه استغلال موجّه اليه، مما يرمز الى أمل رصين في جيل قادم، يدرك حقائق ما دار ويدور حوله، رغم مرارتها، وينهض من رماد واقع متلبك، بعنين طافحتين بإصرار عنيد ورغبة جامحة في المعرفة والتبصر والعمل.
راوح مخرج الفيلم ما بين بطء سير بعض اللقطات وسرعة الأخرى، التي ربما كانت تتطلب الوقوف الأطول إزائها، نظراً لأهمية الحدث و بلوغه لذروة وانعطافه تصاعدية، كما وبرزت أوجه تشابه في أسلوب الإخراج بين الأفلام الإيرانية الحديثة ورؤية المخرج للفيلم.
انتج الفيلم بميزانية منخفضة، وغاب عنصر المال المحلي في دعمه، وكان يمكن أن يكون أفضل من ذلك لولا ظروف انتاجه الصعبة، حيث طرق المخرج (حسب قوله) كل الأبواب، من الشمال الى الجنوب، كرحلة بطلة فيلمه، ماراً بالجبال الخضراء حتى المنطقة الخضراء، وخضع لمساومات حكومية لتغيير بطلة الفيلم من كردية الى عربية، مقابل تغطية 15% من تكاليفه، وأبدت حكومة أقاليم كردستان رغبتها في المساعدة المالية مع فرض بعض الشروط وإدخال بعض التعديلات على قصة الفيلم، الأمر الذي رفضه المخرج، ولجأ الى طلب المساعدة من عرب وأجانب، وأبرزها شركة (بيراميديا) التي أسستها وترأسها الإعلامية المشهورة نشوى الرويني.
ونلفت أنظار الدولة العراقية ومؤسساتها الى أهمية مثل تلك الأعمال الفنية السينمائية، وصدى فضاءاتها في أكثر من دولة ومحفل عالمي، مما يتطلب ضرورة رعاية الانتاج السينمائي ودعم المخرجين الشباب، للدور الذي يقوم به الفن السابع اليوم، كأرقى وأنجع وسيلة لترسيخ القيم الحضارية والتأثير داخلياً وعالمياً، وللدفع والحث على التغيير الإيجابي، ونشر مفاهيم ثقافتنا المعاصرة في أمسّ الحاجة اليها، من تصالح وتسامح وأمل بغد أكثر إنصافاً.
ينتهي الفيلم بموت البطلة الجدة على مشارف مدينة بابل العريقة، بدلالة على أن الظلم يجهض منجزات الحضارة، وبتطلع حفيدها الصبي الى الآثار، دلالة ثانية على الأمل في الجيل القادم، الذي تقع عليه مهمة مد جسور وطيدة بين الزمن العريق الماضي، والحاضر المخرّب الناهض، نحو المستقبل الخالي من أمتهان لكرامة الانسان وإذلاله، والمحفز على تمكين الفرد من خلق مصيره بنفسه، لأن بلد كالعراق أنجب تلك الحضارات على أرضه، سيظل حتماً قائماً وشامخاً رغم ما ابتلى به من قادة وحكام جاهلين وظالمين.
فيحاء السامرائي
لـــندن