ملّة التشدد.. واحدة –
محمد خضر
في السنوات الأخيرة طرح موضوع التشدد والتطرف بشكل واضح من قبل الكتاب في الصحف، خصوصاً في أعمدتهم الصحفية، وفي منابر إعلامية أخرى، هذا المفهوم الذي بدا أكثر تداولاً بعد عدد من الأحداث التي مر بها العالم والعالم العربي بالأخص، كما ساهم في هذا ارتباط مفهوم التشدد بعدد من القضايا الاجتماعية والدينية وبعض الحركات المتشددة التي قامت بالكثير من الأعمال التخريبية أو الإرهابية. لم ينطلق الكُتاب في الغالب من موقف عدائي وجاهز سلفاً، بل من رؤية تحاول دراسة ظاهرة التشدد خلال السنوات الماضية التي وصفت من كتاب بارزين في الغرب بأنها سنوات التشدد والأكثر دموية في تاريخ البشر، أما ما قبلها وخصوصا في التسعينيات فخير من يعبر عنها هو كاتب أرجنتيني اسمه ماسيدونيو فرنانديز حيث يسميها أعوام عطالة الحوادث.
وبين يدي كتاب جديد لأستاذ وكاتب مرموق من السعودية هو الدكتور حمزة بن قبلان المزيني، وهو أستاذ لسانيات سـعودي معاصر، جمـع عدداً من مقالاته المنشورة سابقا في الصحف والإنترنت طيلة أعوام في كتاب صدر مؤخراً تحت عنوان «في مواجهة التشدد».
التشدد السعودي
يركز هذا الكتاب على التشدد في السعودية، وفي الخطاب الديني الرسمي وغير الرسمي. ويسرد الكثير مما مر بالكاتب أثناء مشاهداته أو ملاحظاته حول التعليم وما يحتوي من شروحات أو تعليقات تحسب أحياناً لصالح التشدد.
ويشير في عدد من مقالاته إلى نتيجة مفادها أن التعليم- مثلاً- وفي هذه الحدود قد أحدث تأزماً في الوضع الاجتماعي والثقافي بل والوطني في السعودية، وساهم في تأزيم العلاقات بين مكونات المجتمع السعودي المختلفة عن بعضها كما هي الحال في كل الدول الحديثة.
لم يكتب حمزة بن قبلان المزيني هذه المواجهة ليضع معياراً للخطاب المتشدد والمعروفين به والمنتسبين له، أو تشكيل تحزب ضدهم أو إقصاءهم بقدر ما هو «محاولة لإرساء مشروع يكون هدفه تدارك هذه المشكلة من أجل تجنيب هذا المجتمع مزيدا من الانجرار وراء بعض القضايا التي تسهم في إثارة النزاع بين مكوناته الفكرية المختلفة، كما يشير المزيني، وبعض القضايا الملهية عما هو أولى من الاشتغال على تقدم المجتمع وتطوره وحداثته علميا واجتماعيا واقتصاديا وتربويا وغير ذلك، إذ ينبغي بذل الجهد للحيلولة فيما لا يعيدنا إلى نفس الدائرة من النقاش العقيم الذي لا يثمر شيئا»ً.
يطرح الكاتب عدداً من القضايا عبر تلك المقالات التي تقارب المائة مقالة موزعة على 382 صفحة، ساعد على نشرها في الصحف السعودية التوجه المنفتح الإعلامي في السعودية حيث ازدهرت مسارات الإصلاح والانفتاح، وغالباً ناقش المزيني في مقالاته شؤوناً محلية راهنة تشبه تعليقاً طويلاً على ما يستجد، وتحمل رؤية إصلاحية نحو قضايا مجتمع مدني، مواضيع أثيرت في الأونة الأخيرة مثل: التكفير والاختلاط والطفرة والصحوة والإيديولوجيات الدينية.
وتكشف هذه المقالات عن قدر هائل من تصريف الانفعال حيال القضايا نفسها وحيال الفتن التي تولدها. ويبدو أن المزيني وهو يشجب ويحلل ويقارن قد لمس عن كثب أن التشدد يدمر نفسه بنفسه وكأنما هو انتحار.
لم يقل ذلك صراحة لكن الكتاب يقرأ واقعاً متأزماً يسير في دائرة واحدة منذ عهود في غالب قضاياه، والتحسن لا يبدو سوى طفيف وعابر وينبئ عن حالة من الموات.
هناك مقولة جميلة تلخص ما قد يكون عبر إلى الكاتب وهو يكتب مقالاته عن التعليم والمناصحة ومجتمع الخرافة وهي: «هم الذين يرتكبون التشدد لكن نحن الذين أردنا ذلك..».
بمعنى أن حتى الأخلاقيات التي يتجاوز عنها أصحابها في لحظة ما والقضايا التي يدافع عنها أشخاص في لحظة ما تحمل لديهم على الأقل مسوغاً مقبولاً ويرضيهم لأنهم لا يجدون البدائل التي تقترح وتبحث وترى القضايا من وجهات نظر متعددة.
فهناك من يرى الإقصاء واجباً بينما يراه الكاتب أمراً غير عادل، وهناك من يرى أن مسألة نقاشهم أمر مرفوض لأنهم يتحدثون عما هو صحيح بينما البقية هم مجموعة من التابعين.
كل هذا قد يكون قد خطر ببال الدكتور حمزة المزيني وهو يسبر أغوار هذه التجربة المثيرة، يحاورها ويقربها للواقع، ويحدث تسوية على الأقل. لم يكن المزيني متساهلا فيما يخص قضايا الإنسان والعدالة والحق والخطأ الجلي، بل مما يلفت صوته الواضح والمقنع وهو يعالج هذه الإشكاليات ضمن مجتمع كالسعودية ذي ثقافة محافظة إجمالا لكنها الثقافة التي تحمل تعددية وانفتاحا في الوعي وموروثا وتاريخا وعمقا يرفض أن يغلق عليها التشدد دائرته.
التشدد الليبرالي
لكن من جهة أخرى لا بد من مساءلة الكاتب عما يمكن أن يحدث باستثناء التشدد الذي ليـس في حد ذاته سوى ذهنيةُ مجموعةٍ مختلفة كذلك فيما بينها ومتفاوته، بل وهناك نوعيات أخـرى للتشدد الفكري مع كافة الأطياف الأخرى فلا يختلـف المتشدد الليبرالي مثلاً عن غيره في هذا.. ألا يبدو هذا كله كما أشار الكاتب في مقدمته نقاشا عقيماً إذا ازداد عن حده والعالم اليوم يناقش وخصوصا لدى الغربي قضايا التشدد البيولوجي والإرهاب النووي والحرب الالكترونية والبكتيرية؟
وقد أتفق مع الكاتب أن هذه هي معطيات ثقافتنا وواقعنا لكنها دعوة لفتح أفق الدائرة أو المشي باتجاه زوايا أخرى أكثر انفراجاً.
كتاب المزيني يكشف الكثير من القضايا حول التشدد. ويمنح فرصة مهمة لمراجعة خطاب التشدد خلال الفترة الماضية عبر الأحداث والتغيرات ومن أهم تلك المقالات: «الإقصاء الفكري» و»الطفرة والصحوة» و»عودة الوعي» و»التوحش المهزوم».
وللمزيني كتب أخرى سبق وأن نشرها هي «اختطاف التعليم في المملكة العربية السعودية» و»اللغة ومشكلات المعرفة»- ترجمة كتاب نعوم تشومسكي، و»دلالة الشكل في العربية في مرآة اللغات الأوروبية المعاصرة»- ترجمة كتاب اللساني الأميركي ديفيد جستس و»آفاق جديدة في دراسة اللغة والعقل»- ترجمة كتاب نعوم تشومسكي و»العولمة والإرهاب: حرب أميركا على العالم» وغيرها.