محمد الربيعي*
“ليس الجهل، لكن الجهل بالجهل هو موت المعرفة” – ألفريد نورث وايتهيد.
هذا النوع من الأمية يهددنا جميعا. إنها ليست الأمية التقليدية بمفهومها المتعارف عليه حيث لا يستطيع الشخص القراءة والكتابة. اننا نعيش اليوم تحت تأثير خطير من هذا الشكل الجديد من الأمية. وفقا للمفهوم المتعارف، “يُعامل الشخص البالغ من العمر سبعة أعوام فما فوق، والقادر على القراءة والكتابة بفهم بأي لغة، على أنه متعلم”، الا اننا نشهد الآن شكلاً من أشكال الأمية يتسلل إلى أولئك المتعلمين. اليوم، تحت تأثير العولمة “العالم قرية صغيرة” والتقنيات الرقمية والثقافة البصرية السائدة، يبدو اننا نقرأ (ونرى) بفهم أقل؟ هذا الشكل الجديد من الأمية له علاقة بنواقص معينة في الفهم. القراءة أكثر من مجرد رؤية الكلمات او حفضها. انها امر يتعلق بفهم الكلمات، حول اكتشاف وبناء المعنى حيث انه لا يتم جمع معنى الكلمات التي نقرأها من القواميس وحدها. اننا نحتاج الى الفهم لإدارة مهام الحياة اليومية التي تتطلب مهارات قراءة تتجاوز المستوى الأساسي بحيث تمكننا من المشاركة في جميع الأنشطة التي تتطلب معرفة القراءة والكتابة من أجل الأداء الفعال للمجتمع وأيضاً لتمكيننا من الاستمرار في استخدام القراءة والكتابة من أجل تطويرنا الشخصي وتطوير مجتمعنا.
ربما تكون الامية المقنعة أخطر أنواع الأمية وأكثرها تدميرا. لقد ذكرت في مستهل سؤالك مصطلحات كالامية الاكاديمية العلمية والامية المنهجية الفكرية والامية التقنية والامية الثقافية، وهي التي لا نمتلك فهم وإدراك جيدان للمشاكل المرتبطة بهذه الأنواع من الأمية. فإذا ما لاحظت أفرادا أميين غير متعلمين واميين وظيفيا، فأنت على دراية بالإحباط وخيبة الأمل الناجمة عن افتقارهم إلى معرفة القراءة والكتابة. هؤلاء الأفراد يدركون مشكلتهم وكثيرا ما يعزون فشلهم الى هذه المشكلة وهذا ما يعرف ويعترف المجتمع بها. ومع ذلك، هناك نوع آخر من الأميين وهم الافراد الذين يمكن أن يكونوا خطيرين ومدمرين بسبب نوع الأمية لديهم وهي ما اسميتها بالامية المقنعة وانا احب بتسميتها بالامية المختبئة ومن يتصف بها اسميه بالامي المختبئ. التسمية ليست بالمهمة وما يهم هو ان الأميين المقنعين يجهلون أميتهم. أميتهم مخفية عن أنفسهم. ولأنه لم يتم التعرف عليهم مطلقا فهم مخفيين عن الآخرين أيضا. الأميين االمقنعين يجهلون جهلهم. لا يعرفون أنهم لا يعرفون. إنهم لا يفهمون تماما المعلومات والأفكار التي يتم تلقيها أو دراستها أو تطبيقها ولا يدركون أنهم لا يفهمون. تقوم أفعالهم ومشاعرهم ومعتقداتهم على افتراضاتهم وأفكارهم ومفاهيمهم الخاطئة غير المعروفة. يمكن أن تتراوح مشاكل ونتائج كونك أميا خفيا من الهزل إلى الكارثة.
من هو الامي المقنع؟ هناك مثالين مختلقين عن الامي المقنع، الأول هو الفرد الذي يعاني من اضطراب في منهجية التفكير من ناحية، وقصور الفكر الجدلي من ناحية ثانية مما يجعله غير قادرا على الفهم بنوع من العجز يدفعه أحيانا الى اطلاق الاحكام المسبقة والاراء المتسرعة والادعاء بالقدرة على حل المشاكل دون ان يجشم نفسه عناء الجهد الفكري لتحليل الواقع وفهمه. والمثال الثاني يكمن في الجهل الوظيفي كموظف المكتب الذي لا يعرف الأنظمة واللوائح التي تحدد وظيفته ولا يعرف واجباته، او الطبيب الذي يصف لك عدد من الوصفات لا علاقة لاي منها بمرضك، او الميكانيكي الذي “أصلح” سيارتك ثلاث مرات لنفس المشكلة.
تظهر المشاكل التي تسببها الأمية المقنعة في القوانين التي لم تدرس مضامينها، او المنتجات التي لم تكتمل صناعتها، او الوظائف سيئة الأداء، او “الثقافة” الضارة. نحن بحاجة إلى مواجهة الحقيقة الصارخة المتمثلة في أن المشكلات التي غالبا ما توصف بأنها مشكلات “الإنتاج” أو “الجودة” أو حتى مشكلات “القهر والتسلط” قد تكون في الواقع مشكلات تعليمية. علامة التعليم الحقيقي هي القدرة على تكوين افراد متعلمين ومثقفين وإنتاج منتجات عالية الجودة بكميات كبيرة. الأمية المقنعة تمنع الإنتاج الجيد مهما كان مجال العمل، وهي كنتيجة لفقدان التعليم الحقيقي الذي يمكنها ان تؤدي الى حظر تدفق الأفكار في أي مجال تعليمي بطريقة تؤدي بدورها إلى قمع المزيد من الفهم والى تكوين افراد يمكن وصفهم بأنهم اميين مقنعين.
لربما من الصعوبة تصور وجود أساليب فاعلة لمكافحة هذه الظاهرة في ظل الانتشار السريع لوسائل الاتصال والحسابات الشخصية وصفحات التواصل التي حولت المثقف والمتعلم الى ممارسين لهواياتهم عبر الرسائل الفيسبوكية والتغريد وانغمارهم في حوارات وهمية وقضايا عامة، بالإضافة الى انتشار الفساد الإداري والمالي والذي يؤدي الى استغلال الموظف لموقعه وصلاحياته للحصول على مكاسب ومنافع غير مشروعة وبدون الحاجة الى بذل جهود إضافية للتعلم واكتساب المعرفة والخبرة. مع ذلك، يكمن أسلوب طويل المدى لايقاف انتشار الظاهرة في التعليم المستمر مدى الحياة والذي يهدف الى الحصول على خبرات تعليمية دون ربطها بعمر محدد او فترة زمنية معينة او مرحلة دراسية ويزيد من الثقة الشخصية عند الفرد ويشجع على تعزيز دور المشاركة الاجتماعية عنده، بالإضافة الى بناء الشخصية المتكاملة وتفعيل الفعل الثقافي الجاد والمستنير وتشجيع التفكير النقدي في المدارس والجامعات والذي يساعد في تعزيز قدرة الدماغ على التحليل المنطقي، من خلال دعم مهارات الافراد الشخصية المرتبطة بالفهم.
- من حوار شامل حول التعليم نشرفي مجلة “الثقافة الجديدة” عدد: 419-420 اذار 2021.