
الامام الشهيد اية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر شخصية استثنائية فريدة، ذاتُ أبعادٍ شديدة الوهج، كثيفة الابداعات، موّارة بالاصالة والعمق والتجديد والابتكار، لا في علوم الدين فحسب بل في شتى مناحي العلم والمعرفة، في الفلسفة كما في الاقتصاد، وفي التاريخ كما في العلوم العقلية، وفي السِيَر والسلوك كما في علم الحديث والرجال …
هذا فضلاً عن بلوغ أعلى القمم في “الفقه” وأصولِه …
شخصية فذة لا تتناول موضوعاً الاّ أَثْرَتْه وأغْنَتْهُ وطرحت فيه من النظرات والنظريات ما يُبهر …
اذا خَطَّ (سطراً) كأن (فَصْلاً) مُخلّداً
وفي كلِّ قلبٍ خُطَّ مِنْ حُبِّه سطرُ
وقال فيه كاتب السطور أيضا :
العلمْ والخُلُقُ العظيمُ تعانقا في ذاتِه وتوافقا مقدارا
فبناصعٍ مِنْ عِلْمِهِ وبساطعٍ مِنْ هَدْيِهِ تَرَكَ العقولَ حيارى
واذا كان قانون تناقص الفجيعة ساري المفعول في مصائبنا الكبرى بالأفذاذ من رجالنا، فان الفجيعة بالامام الشهيد الصدر لم تزدها الأيام الا رسوخاً والتهابا، ذلك أنّه الرجل – الامة، والمرجع الملهم، المتميز بقدراته على تقديم الوصفة الناجحة لما يعتري المجتمع من عوارض ومشكلات .
ومن هنا نعرف حجم الجريمة التي ارتكبها الدكتاتور المقبور باغتياله في 8 / 4 /1980، والتي حرمت الامة ،لا العراق وحده، من ينابيع عطائه
وفكره ومنهجه اللاحب في قضايانا كلها …
-2-
لقد كانت شجاعته باهرةً تُضارعُ تألقَه العلميّ، والاّ فبماذا تفسر إقْدَامَهُ على إصدار فتواه بتحريم الانتماء الى حزب العفالقة وهم في منتهى الطغيان والجبروت والاستعداد لاجتراح أفظع الجرائم ؟
انه خَشِيَ منهم على الدين والقيّم والمقدسات ، وَخَشِي على الشعب من عدوانهم واستهتارهم، وعلى الوطن من ممارساتهم الطائشة، ولم يَخْشَ على نفسه منهم .
لقد مشى الى الشهادة بقدميه ولم تُفرض عليه .
وهنا تكمن البطولة .
-3-
واذا كان الحديث عن شخصية الامام الشهيد الصدر لا تسعه هذه المقالة الوجيزة ، فحسبنا ان نقف قليلا عند قضية واحدة ، أثارَها في محاضراته عن التفسير الموضوعي للقرآن ، وهي المحاضرة الاخيرة التي نعى فيها نفسه …
حب الله وحب الدنيا .
انّ حب الدنيا هو (الداء الوبيل) وهو (المرض المهلك) في رؤية الامام الشهيد الصدر
يقول – نور الله ضريحه – :
” ان الله سبحانه وتعالى لا يجمع في قلب واحد ولاءين ، لا يجمعُ حُبيْن مستقطبين “
إمّا حُبّ الله وإمّا حُبّ الدنيا “
فعليُّ امير المؤمنين (ع) يقول :
” ما رايت شيئا الاّ ورأيتُ الله قبله “
ويقول السيد الشهيد الصدر :
” لان حب الله في هذا القلب استقطب وجداَنه الى الدرجة التي منعه من ان يرى شيئا آخر غير الله ،
حتى حينما كان يرى الناس كان يرى فيهم عبيد الله ، حتى حينما كان يرى النعمة الموفورة كان يرى فيها نعمة الله سبحانه ،هذا الربط بالله دائما وابدا يتجسد أمام عَيْنِهِ
المدرسة القرانية ص 191-193
أما حُبّ الدنيا فهو (رأس كل خطيئة) على حد تعبير الرسول (ص) والدرجة المهلكة من هذا الحب ان الانسان “يصل الى مستوى لا يرى شيئا الاّ ويرى الدنيا فيه وقبله وبعده ومعه ،
حتى الأعمال الصالحة تتحول عنده بمنظاره الى دنيا، تتحول الى متعة، الى مصلحه شخصية، حتى الصلاة وحتى الصيام ، حتى البحث ، حتى الدرس هذه الألوان كلها تتحول الى دنيا لا يمكنه ان يرى شيئا إلاّ من خلال الدنيا ، الاّ من خلال مقدار ما يمكن لهذا العمل ان يعطيه من حفنة مال او من كومة جاه، لا يمكن ان يستمر معه الاّ بضعة أيام معدودة) المدرسة القرأنية / ص 194
روى الامام الشهيد الصدر عن الامام الصادق (ع) :
” الدنيا كماء البحر مَنْ ازداد شرباً من ماء البحر ازداد عطشا ، فقال :
كلما شرب اكثر فاكثر من ماء البحر اصبح اكثر عطشا .
لا تقل فلآخذ هذه الحفنه من الدنيا ثم انصرف عنها ، فلأ حصل على هذه المرتبه من جاه الدنيا ثم انصرف الى الله ليس الأمر كذلك ،
فان اي مقدار تحصل عليه من مال الدنيا ، من جاه الدنيا ، من مقامات الدنيا الزائلة سوف يزداد بك العطش والنهم الى المرتبة الاخرى .
المصدر السابق ص 194
وقال الامام الشهيد الصدر :
” نحن أولى الناس أنْ نطلّق الدنيا .
اذا كان حب الدنيا خطيئة فهو منا .. من أشدّ الخطايا “
” هارون الرشيد يلتفت الى السحابة يقول لها :
أينما تمطرين يأتيني خراجك .
في سبيل هذه الدنيا سَجَنَ موسى بن جعفر (ع)
هل جرّينا أنَّ هذه الدنيا تأتي بيدنا ثم لا نسجن موسى بن جعفر ” ؟
أقول :
كأني بالامام الشهيد الصدر قد استشف ببصره الثاقب ما سيشهده العراق الحبيب من أحداث، وما سيقترفه المنتسبون اليه من ممارسات، فسجّل براءته منهم ،كما سجّل سخطه عليهم ، وتوّلى بنفسه كشف المستور من خباياهمُ الدنيئة وطرائقهم الرديئة …
-4-
ويشاء الله تعالى ان يسقط الصنم في نفس اليوم الذي اغتال فيه الامام الشهيد الصدر، بعد ثلاث وعشرين سنة، ليكون عبرة للطغاة الجبارين، علماً بانّ الامام الشهيد الصدر هو أولُ مرجع ديني يقتل في تاريخ العراق، فسلام عليه يوم ولد ، وسلام عليه يوم نهض بأعباء المرجعية العليا ، وسلام عليه يوم جاهد ونازل الطغاة، وسلام عليه يوم استشهد وضُمّخ بدمه الزكي، وزف الى جنان الخلد .
حسين الصدر