مرة بعد اخرى، احاول ان اقتحم منظومة افكار الاعتدال لدى العلامة السيد حسين الصدر، سعيا الى تاشير حقيقتها في الممارسه، فثمة كثيرون، من علماء الدين يعلنون ايمانهم بفكرة الاعتداء ونبذ الغلو وإدانة التشدد والتطرف، لكن الغالبية الساحقة منهم يكتفون في حدود الدعوة اللفظية لهذه القيم الانسانية والسماوية، وينأون عن ممارستها في الحياة العامة والعلاقات، بل ان البعض من اولئك العلماء (وهنا المفارقة السوداء) ينادون بالاعتدال ويزاولون نقيضه.
العلامة الصدر، يقدم افكاره عن جدوى الاعتدال، بكلمات بسيطة وعميقة، وشديدة الايجاز، ولا يأخذ من وقت مستمعيه كثيرا وهو يتحدث عن حاجة العراقيين الى قيم التسامح والاعتدال، فان ثمة الكثير من الوقائع “دفعنا ثمنها من الدماء والالام بسبب التطرف والتخلي عن الاعتدال” ويزيد القول “لا يكفي بان نؤيد قيم الاعتدال والتسامح بل المطلوب ان نمارسها وقبل هذا ان نقتنع بها” ولا يشك المتمعن في قسمات وجهه وهو يختار عباراته المكثفة ليصف بها الاعتدال في صدقية هذا العالم الجليل، ورجاحة موقفه.
كان هذا في زيارة العلامة الصدر للعاصمة البريطانية قبل اسبوعين، وحرص خلالها ان يلتقي بجمهرة العراقيين المقيمين في المملكة المتحدة على هيئة مجموعات، ثم، في ندوة مفتوحة، وكنت بين المجموعات، وايضا، ضمن مجموعة مختارة من الديمقراطيين والليبراليين الذين ينشطون في اطار جماعة ضغط للدفاع عن خيار الدولة المدنية في العراق، وقد خصّ موضوع الاعتدال واخطاره اهتماما لافتا، واعطاه مساحة كبيرة من مناقشاته، وشاء ان يكرر، مقولة الامام علي ” الناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق”.
الاعتدال طريقنا الى السلامة والاستقرار والبناء، والمعرفة اساس البناء، والمعرفة هي نوع من أنواع العلم، والعلم هو سلاح ذو حدين، من الممكن أن يكون للبناء أو للهدم. اني اعتز بمذهبي واعتز بالمذهب الاخر. سبب الحملة التي يتعرض لها الاسلام هو ان هناك من يطرح الاسلام من منظور متطرف . الثقافة مهمة وضوروية للمجتمع، والثقافة يجب ان تكون وطنية، والصراع الطائفي دليل عدم وجود ثقافة وطنية لدى الشعوب، وعندما تغيب الثقافة الوطنية تطفو الثقافات التجزيئية، المذهبية او العرقية، ويصبح الدين مقابل الاخر او الحزب مقابل الحزب الاخر”.
هذه مواجيز رسالة السيد الصدر، ومنطلقات مفهومه للاعتدال، فيما يترجل من المنبر او المنصة لكي يقدم نفسه انسانا شديد التواضع والكفاية والتوازن، يدّ يده الى الجميع ويحتضن الجميع، ويخص الجميع، من كل الالوان والصبوات والاعتقادات، لفتة التعاطف، سليمة النية، سامية الهدف، رقيقة العرض، عميقة التعبير، وعنده ان قيمة الاعتدال تكمن في ممارسته في ميدان الممارسة: الواقع.
*
“لا احب كلمة التسامح، لكن لا اجد كلمة افضل منها”.
غاندي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في جريدة(الاتحاد) بغداد يوم الاثنين 31/11/2011