– د. ابراهيم الحيدري
الإسلام والحداثة
1- عصر النهضة في الإسلام مشروع تنويري لم يستمر
عندما نتحدث عن الإسلام علينا أولا تحديد مفهومه الذي يرد في مستويات عديدة. فالإسلام هو بنية عقدية ودين توحيدي يتسم بالشمولية والكمال، مثلما يجسد بنية روحية مثالية. وهو ثانيا تجسيد لتجارب وخبر قامت بها شعوب ومجتمعات ودول وفي مراحل تاريخية وعصور مختلفة قديمة ووسطى وحديثة، مثلما يرتبط بزمان ومكان جغرافي وبثقافات فرعية لها خصوصية، كالإسلام في العالم العربي وفي إيران والهند وجنوب أسيا وأفريقيا وغيرها, ولذلك فعندما نتحدث عن الإسلام علينا تحديد العصر الذي نريد دراسته ومرحلته ومجال البحث فيه وفترته الزمنية، وخصوصيته كالإسلام في فترة الخلافة الراشدية، أوعصر التنوير الإسلامي الأول، الذي تمثل بالنهضة العلمية والفلسفية العقلانية والازدهار الحضاري، في بغداد بصورة خاصة وفي بلدان الخلافة الاسلامية بصورة عامة، والإسلام في العصر الحديث.
مشروع النهضة
لقد وضع عصر النهضة الإسلامي الأول أسس مشروع تحديث وتنوير وتطوير اجتماعي واقتصادي وثقافي شامل . فبين القرنين الثالث والسابع الهجري (بين التاسع والثالث عشر الميلادي) حدثت نهضة فكرية واجتماعية وظهرت قوى عقلانية منورة، وبخاصة في المدن الاسلامية الكبرى وبخاصة في العراق وإيران ، رافقتها توترات عقلية خصبة ساعدت على تطور وتجديد وازدهار ملحوظ في كثير من عناصر الحضارة المادية والمعنوية. وقد حقق “أباء الحداثة” نقلة نوعية تنويرية، فتحت افاقا واسعة وجديدة بطرحها اسئلة قلقة في الفكر الاجتماعي والفلسفي النقدي، كان في مقدمتهم الجاحظ والفارابي وابن سينا وابن رشد وابن باجة والتوحيدي وابن مسكوية والحلاج وغيرهم الذين قدموا لنا نصوصا عقلانية نقدية ذات نزعة انسانية وضعت الانسان في مركز الصدارة وفي محور اهتماماتهم، كما تجلت لدى المعتزلة على المستوى الديني، ولدى الفلاسفة على المستوى النظري، ولدى علماء الفلك والفلاحة والبصريات على المستوى العلمي والتجريبي.(1)
وكان للتعدد والتنوع الثقافي وتداخل المعارف والثقافات دور كبير في مسيرة التطور العلمي والفلسفي وفي حركة التأليف والترجمة والنشر ونقل امهات الكتب العلمية والفلسفية من اللغات اليونانية والسريانية والفارسية الى اللغة العربية، وخاصة بعد تأسيس دار الحكمة ببغداد التي انجزت ترجمة امهات الكتب في الطب والفلسفة والفلك وغيرها وشرحها واضافة معلومات علمية اخرى اليها، ساعدت على اخصاب التجارب الانسانية وتعميقها ، وعبرت في ذات الوقت، عن التعدد والتنوع والتمازج الثقافي وحولت الثقافة العربية – الاسلامية آنذاك الى ثقافة عالمية.
وكان العرب والمسلمون يشكلون مرجعية ثقافية لمفكري اوروبا حتى عصر النهضة، حيث انعقدت علاقات ثقافية مباشرة، سبقت الحروب الصليبية بين المسلمين والاوربيين. وقد تأثر الاوربيون بمنجزات الحضارة الاسلامية في مختلف فروع المعرفة، خصوصا في الحركة الفلسفية والعلمية التجريبية، التي كانت اول حركة تنويرية، قامت على ايدي المفكرين و الفلاسفة العرب والمسلمين. وكانت حصيلة تلك العلاقات الثقافية نقل كثير من الاعمال الفلسفية والعلمية الى اللغة اللاتينية، خصوصا اعمال الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد، التي تولى نقلها الرهبان المسيحيين، مما ادى الى اغناء الثقافة الاوربية بأهم مصادر الثقافة العالمية آنذاك بعد نقلها ثانية الى اللغة اللاتينية.(2(
وقد اصبحت الثقافة العربيةـ الاسلامية اكثر حرية وعقلانية ونقدا واتسمت بالانفتاح على الآخر المختلف والمغاير ومستوعبة للثقافات الاخرى، حيث كانت هناك فسحة من الحرية اتاحت للمفكرين والفلاسفة ان يعبروا عن آراءهم وان ينتقدوا اسس الشريعة ورموزها. بحيث تطورت نزعة انسانية نتيجة للانفتاح والتفاعل بين الثقافات والحضارات والاديان.
وقد جسد الفلاسفة والعلماء والمفكرون المسلمون هذه المواقف الانسانية المتفتحة على العلوم الدنيوية العقلانية، فكانوا يجمعون بين علوم القرآن وعلم الكلام والحديث من جهة، ومعرفتهم الواسعة بالفلسفة وبخاصة فلسفة افلاطون وارسطو، اضافة الى معرفتهم بالتراث الايراني والهندي، من جهة اخرى. كما اخذوا يمزجون بين الدين والفلسفة وينفتحون عليهما، فيستشهدون تارة بالقرآن والحديث، وتارة بفلسفة ارسطو وافلاطون، من دون الشعور باي حرج. وكان فهمهم بالدين ومعرفتهم بالفلسفة ليست سطحية، وفي ذات الوقت غير قمعية وتعسفية، لان فهمهم واستيعابهم للعلوم الدينية والدنيوية كان يقوم على نزعة انسانية وكانت مواقفهم عقلانية رشيدة تقدم على احترام كرامة الانسان وثقة كبيرة بالفكر الانساني وامكانياته المتعددة على التطور ولإبداع.(3(
النمو الاقتصادي
رافق توسع الدولة العربية الاسلامية وامتدادها الى شرق البحر الابيض المتوسط وشمال افريقيا واواسط اسيا، ازدهار اقتصادي واجتماعي، واندفاع التجار العرب الى توسيع رقعة نشاطهم التجاري، مما ادى الى سيطرتهم على موانئ البحر الابيض المتوسط. وفرض الاسطول العربي ـ الاسلامي سيطرته خلال القرن الثامن الميلادي، على اغلب موانئه، من دون منازع، وقد ساعد الفتح العربي- الاسلامي لإسبانيا عام 711 م ووصول العرب الى مشارف الجنوب الفرنسي وتوغلهم في مقاطعات بروفانس، على الاختلاط بتلك الشعوب والاقوام واقامة علاقات تجارية وثقافية جيدة معهم.
كما عقدت معاهدات تجارية مع امراء سالرن ومالفي وحصل تجار بيزا وفلورنسا على امتيازات خاصة شجعت على توسيع العلاقات التجارية بينهما.
وخلال القرن التاسع الميلادي بدأت موانئ الشمال الافريقي تتمتع بازدهار اقتصادي ملحوظ، وخاصة بعد توسع تجارة الذهب وازدياد اهميتها التي بقيت حتى القرن الحادي عشر، اهم الصادرات من الشمال الافريقي الى الموانئ الاوربية.
كما رافق التطور الاقتصادي والتقدم العلمي والفلسفي والاجتماعي نمو طبقة وسطى شكلت الدعامة المادية للنزعة العقلانية التي ازدهرت ايام المأمون، ومن بعده، بسبب ازدهار الحركة التجارية وشبكة الطرق التجارية البرية وبخاصة طريق الحرير وطريق التوابل.(4(
والحال ان النهضة العلمية والفلسفية العربية ـ الاسلامية لم تعان من مواقف دينية متشددة. فالإسلام حث على طلب العلم والمعرفة لانهما يزيدان من ايمان المسلم وتقويته. وان اسباب التدهور والركود لا ترتبط بالهيمنة الدينية، بقدر ما ترتبط بالتغيرات المجتمعية من جهة، والتغيرات البنيوية التي طالت الثقافة العربية الاسلامية ،من جهة أخرى، التي رافقت تفكك الدولة العباسية وانقسامها الى دويلات وقيام الصراعات والحروب فيما بينها التي عملت على تفتيت الخلافة الاسلامية.
اجهاض حركة النهضة
يرى كثير من المفكرين بان محاولة النهوض الاولى التي شهدها العالم العربي الاسلامي في العصور الوسطى كانت قد اجهضت ولم تستطع الاستمرار طويلا لأنها لم تحظ بدعم من طبقة اجتماعية وسطى متفتحة كطبقة البرجوازية في اوروبا التي قامت على اكتافها النهضة والتنوير والتقدم العلمي والتقني. ففي العالم العربي والاسلامي لم تستطع الطبقة التجارية النامية ان تزدهر وتتقدم، وسرعان ضمرت بسبب تحول الخطوط التجارية للعالم القديم.
وكانت أول قطيعة معرفية مع الفكر الاسلامي النقدي بدأت مع مجيئ السلاجقة الى الحكم، الذين قضوا على التعددية الفكرية والعقائدية واسسوا التعليم التقليدي الذي عطل الفكر وافقده حيويته وشجع على نشر الفكر الصوفي والطرق الصوفية الشعبوية التي وقفت ضد الفكر الفلسفي العقلاني النقدي، التي استمرت حتى بداية العصر الحديث.(5(
فمنذ خلافة الواثق ودخول العسكر الرعوي السلجوقي الى قمة المؤسسات العسكرية والادارية تطورت طبقة جديدة من الاقطاعيين والاداريين والعسكرين من المماليك والترك والسلاجقة، قوت الاتجاه البيروقراطي والثيوقراطي ـ الابوي الذي اخذ ينمو بالتدريج، مما دفع الى تدمير بنية الدولة ومرافقها واللعب بمصير الخلافة الاسلامية. وكان المعتصم العباسي استعان بالأتراك ليكونوا آلة حرب بيد الخلافة وفوض السلاجقة بإدارة الدولة الى جانب مهامهم العسكرية. وبالتدريج نمت طبقة عسكرية بيروقراطية سيطرت على جميع مفاصل الدولة. وسرعان ما تآمروا على المعتصم فقتلوه وسيطروا على الخلافة وتركوها اسما بدون مسمى. وهو ما ساعد على تزايد وتيرة الانقسامات والثورات وتفتيت وحدة الدولة الاسلامية .
وكان البويهيون قد استولوا على السلطة في بغداد بعد فترة من الاضطرابات العسكرية والادارية، -بحيث لم يعد للوزارة غير الاسم، واخذوا ببسط نفوذهم في كل الامور واتخذ امراؤها لقب الملوك وحولوا “الديوان ” الى نظام بيروقراطي متكامل.
وهكذا بدأ تفكك الدولة الاسلامية باستقلال بعض الاقاليم استقلالا ذاتيا، كما حدث في دول شرق الخلافة الاسلامية والشام ومصر والمغرب وكذلك في الاندلس التي انتهت الى ” دول طوائف ” متصارعة .
سقوط بغداد
غير ان سقوط بغداد على يد التتر عام 1258 م شكل مرحلة حاسمة في تاريخ العرب المسلمين كنتيجة من نتائج التدهور والتفكك والانحلال الذي ظهر في مفاصل الدولة والمجتمع والحضارة، وفقدان الدولة المركزية لقوتها بعد انقسامها الى دويلات ومماليك.
وكانت الخلافة آنذاك تمر بأسوأ فترة في تاريخها السياسي والاجتماعي والثقافي وذلك بسبب تفشي الفساد في دواوين الدولة والرشوة في ادارة البلاد، الى جانب تسلط قواد الجيش من الاتراك على جميع مقاليد الحكم.
ومن الطبيعي ان يرافق تفكك الدولة العربيةـ الاسلامية وتدهور الحركة الفكرية العقلانية وركود الفعاليات الاقتصادية والثقافية وتزايد الصراعات والحروب والفوضى والكوارث مما ادى الى انخفاض تدريجي لقوى ووسائل الانتاج وادواته ودخول العالم العربي والاسلامي عصر الظلام ولم يفق الا على مدافع نابليون وهي تدق شواطىء مصر.
المصادر :
1) محمد اركون، نزعة الأنسنة في القرن السابع الهجري، دار الساقي، بيروت1966،ص284
2) ابراهيم الحيدري، صورة الشرق في عيون الغرب، دار الساقي ، بيروت 1996 ، ص 12
3) محمد اركون، نزعة الأنسنة ، نفس المصدر السابق
4) ابراهيم الحيدري ، نفس المصدر ،ص 10-11
5) محمد اركون ، قضايا في نقد العقل الديني ، بيروت 1998 ، ص330-332