ضيفت مؤسسة الحوار الانساني بلندن الاستاذ لقمان الفيلي يوم الاربعاء 5 أيار/مايو 2021 على منصة زووم في امسية ثقافية تحدث فيها عن امكانية اعادة بناء الوئام بين العراقيين .
لقمان الفيلي حاصل على درجة البكالوريوس في الرياضيات وعلوم الكومبيوتر عام 1988 من جامعة مانشستر متروبوليتان في المملكة المتحدة، اضافةً الى نيله درجة الماجستير في أدارة الاعمال والدبلوم العالي في انظمة الكومبيوتر واستخداماتها في المجالين الصناعي والتجاري. تقلد الاستاذ الفيلي مناصب مهمة، من ابرزها سفير جمهورية العراق في الولايات المتحدة وسفير جمهورية العراق لدى اليابان لثلاث سنوات لعب خلالها دوراً كبيراً في تعزيز وتوطيد اواصر التعاون والعلاقات السياسية والاقتصادية بين العراق واليابان وجلب الاستثمارات والشركات الآسيوية الى الوطن، وذلك لما يمتلكه من خبرات واسعة نتيجة عمله مع كبريات المؤسسات المتخصصة في قطاع تكنلوجيا المعلومات وأدارة الاعمال في المملكة المتحدة، اذ شغل مناصباً ادارية مرموقة في ادارة المشاريع في إثنتين من اهم الشركات الامريكية الناشطة في المملكة المتحدة في تقنيات المعلومات هما شركة ( Ceridian Centrefil) وشركة ( Electronic Data Systems )، اضافة الى ترؤوسه المناصب الاستشارية في مؤسسات اخرى متخصصة في نفس المجال وهو عضو في معهد ادارة المشاريع الامريكية(PMI). كان لقمان الفيلي احد ابرز وجوه المعارضة في المملكة المتحدة التي عملت ضد النظام الدكتاتوري السابق، و عرف بنشاطه السياسي والاجتماعي وكان محل ثقة منظمات المجتمع المدني الناشطة في بريطانيا.
المقدمة
يجد الصراع الإثني الطائفي بين المكونات الإثنية الدينية المتنافسة جذوره في ضعف التماسك أو انعدامه بين الأركان الأساسية التي تُدعم علاقة الدولة العراقية بمجتمعها، وتتمثل هذه الركائز بتوزيع النفوذ والتأثير بين الدولة والدين والثقافة (وتسمي في بعض الحالات بالأعراف) للدولة العراقية التي أسست في بداية عقد العشرينيات من القرن الماضي، وأن التوافق الأكثـر بين هذه الأركان سيفضي إلى بيئة سياسية واجتماعية سلمية اكثـر، ومن أجل التصدي للتوتر المتزايد بين الأغلبية والأقليات العراقية يجب علينا أن نبدأ بإعادة توزيع القوة بين هذه الأركان الثلاثة. فبعد عقود من الدكتاتورية يجب على الدولة العراقية استعادة نفوذها الإيجابي الذي يعود بالنفع على مواطنيها.
في هذه الامسية سأسلط الضوء على نقطة مفادها أن الافتقار إلى الانسجام المجتمعي بين الأركان الأساسية للمجتمع العراقي يمثل العامل الرئيس في عدم الاستقرار؛ ومن اجل معالجة هذه المشكلة فإنه من الضروري تحديد القضايا من خلال زيادة التعاون بين الدولة والمواطنين في البرامج الوطنية والدينية والاجتماعية المدعومة من قبل الدولة، وفي نهاية المطاف فإن هذه البرامج الوطنية من الممكن أن تؤدي إلى مزيد من الاندماج بين الأركان الثلاثة، وسيفضي كذلك إلى وجود علاقة إيجابية مبنية على احترام التعددية الثقافية والدينية والسياسية والتسامح.
إن التسامح في العراق بين الطوائف أو الجماعات المختلفة ضعيف، وبالتالي فإن وتيرة تطور الجماعة ضمن المجتمع بطيء ولا يسير بخطى مناسبة لحاجتها، فمنذ عام 2003 والدولة العراقية عاجزة عن تقديم أجوبة على الكثير من احتياجات المواطنين، وهذا يؤدي إلى هشاشة الهوية الوطنية، التي كانت ضعيفة بالأساس بفعل سياسات النظام السابق، وكذلك ظهور الهويات الأخرى على حساب التنمية الوطنية والتماسك والاستقرار.
إن تطور الدولة لم يكُ أمراً سهلاً بالمرة، وأنها لم تتطلع لأن تكون على الطريق الصحيح طالما استندت السلطة الشرعية السياسية والنظام إلى الأسس الإثنية العرقية (او ما يُعرف بالمحاصصة) ولم تكن مؤسسة وطنية، وحاليا فالدولة هي أضعف مكون مؤسسي في المجتمع العراقي بالمقارنة مع المؤسسات الأخرى الدينية والثقافية (مثل العشائرية)؛ وهذه تعطي حافزاً بأن يجعل أصحاب المصلحة العراقيون المؤسسات الدينية والثقافية أن تعمل مع الدولة من أجل تعزيز قوة جهاز الدولة وبالتالي سلامة وتطور المجتمع.
ركن الدولة:
من أجل أن تعمل الدولة بفاعلية وكفاءة لابدَّ من تحديد دور المواطنين ومسؤوليتهم والركائز المؤسسات الثلاث. وحينما تحاول الدولة اتخاذ إجراء فإنه من الضروري أن تأخذ بعينِ الحسبان قوة ومصادر نفوذ تلك الركائز ضمن ذلك البلد، وفي الوقت الذي يُنظَرُ في البلدان الغربية إلى الدولة بتوفير احتياجاهم إلّا أن بعض البلدان تلقي الأركان الأخرى (الدين والثقافة) على سلطة الدولة، التي طالما يتحوّل فيها القانون الديني إلى قانون وطني أو محلي، ومن المهم ايضآً تحديد أصحاب النفوذ الذين يمتلكون السلطة والقوة في المجتمع؛ لأنه من دون القوة الموضوعية لا تتمكن الدولة من القدرة على فرض سياساتها.
إذا كان من الواضح ضمن مجتمع ما أن الدين أو الثقافة هما القوتان الرئيستان الدافعتان للسلوك، فحينها ستكونان غير كافيتين وغير فعاليتين في محاولة تنفيذ التغيرات وفرضها ضمن قوانين الدولة ولوائحها فقط، ولاسيما إذا كانت هذه اللوائح لا تتماشىيان مع القيم الثقافية أو الدينية لذلك المجتمع، الّا أن الدولة تستطيع إلى تركيز اهتمامها على التأثير بالمؤسسات الدينية أو الثقافية من أجل تنفيذ وقبول التغيّر المقترح من قبل الدولة بدلاً من محاولتها بأن تكون المؤسسة الوحيدة في المجتمع التي تدعو إلى التغيير.
إن الدولة تقدم ما هو أساس وأكثر أهمية لسير العمل الداخلي للمجتمع، وهي تحدد المبادئ التوجيهية لمواطنيها ومؤسساها وتضع خارطة الطريق لتوضيح السلوك القانوني المقبول للموطن، وقوانين الدولة هي آليات لتحديد سياسة الدولة ومن ثم الوسائل التي يتم فيها تنفيذ تلك السياسة، وتعتمد شرعية الدولة على ما إذا كانت السلطة في الدولة متجذرة في النظام القانوني الرسمي أم في الأنظمة التقليدية ما قبل الحداثة التي تعتمد على العلاقات الشخصية والمعتقدات الناشئة من التقاليد (كما هو الحال في الأنظمة القبلية)، ولا بدَّ للدولة من أن تعكس هذه المثُل والمعتقدات لمواطنيها، ويجب أن تميل إلى تحقيق رفاهيتهم.
لا يمكن التقليل من أهمية الدولة في تعزيز الانسجام المجتمعي، فالانسجام يتحقق فقط في حال كانت تشريعات الدولة وسياساتها تتصل بتلبية احتياجات المواطنين وتطلعاتهم، وبخلافه فإن المواطنين سيشعرون بالاغتراب والعزلة وسيكونون أقل رغبة في الالتزام ، فعلى سبيل المثال أن العراق إبّان حكم صدام حسين كانت الأغلبية العظمى من قوانينه ولوائحه تتصل بسيطرته وقواعد الدولة البوليسية، ومن ثم فإن المواطنين لا يرون تعلّق تلك القوانين واللوائح باحتياجاتهم اليومية وتطلعاتهم الحياتية، وعليه ترى القليل من المشاركة من جانب الجمهور في تطوّر المجتمع العراقي.
الدين والتنوع العراقي:
بغض النظر عما إذا كان المجتمع يُعدُّ نفسه دينياً أم لا، فإن دور مؤسساته الدينية وتأثيراته الأخلاقية عادة ما يكون مهمّاً؛ نظراً لأن المجتمعات ككل تسعى إلى الامتثال إلى مدارس دينية أو أخلاقية معينة، ولا ينبغي التقليل من أهمية التزام المجتمعات أو أفرادها بمدارس فكرية أو دينية معينة كون تلك التصورات تصبح مواد للإيمان ومحوراً رئيساً في تعريف الهوية المحلية او الوطنية أو الإقليمية. وعلى الرغم من أن الدين -بوصفه عنصراً أساساً وركناً محورياً في المجتمعات كافة- يمكن أن يؤدي دوراً محورياً في تعزيز الانسجام الاجتماعي إلَّا أن ذلك لا يمكن أن يتحقق إلّا إذا عملت المؤسسات الدينية والفتاوى والسياسات على تلبية الاحتياجات الفردية والجماعية لأتباعها وتطلعاتهم.
الثقافة بوصفها الركن الثالث:
إن السلوك الثقافي (ويسمى بعض المرات بالعرفي) هو الركيزة الأساسية الثالثة للانسجام الاجتماعي، الذين يتقاسمون الثقافة يعملون أنها تستحوذ على الشبكة الأقرب من النفوذ كالأسرة والأصدقاء والمجتمع ككل.
إن المجتمع المتسامح يسمح لمعتقدات أعضائه الثقافية بالتأثير على أفعالهم أو مشاعرهم بطريقة إيجابية ومن ثم يتم إثراؤه بالتنوع، ويمكن أن تكون الثقافة العنصر الذي يربط بالسلوكيات والمعتقدات وطريقة الحياة والافتراضات الأساسية لأفراد المجتمع، وهي توفر نقطة مرجعية تجلب العناصر الأساسية وغير المادية من سمات المجتمع مثل الأعراف والأفكار والسلوك الاجتماعي، والمواطنون عموماً ضمن مجتمع ما يفتخرون بالانتماء إلى ثقافة معينة.
الانسجام التوفيقي والقيادة:
لا يمكن للأركان الأساسية الثلاثة (الثقافة، والدين، والدولة) في أي دولة أن تتوافق ضمن مفهوم معين حينما تكون القيم والممارسات لكل فرد متناقضة بدلاً من أن تكون متكاملة مع الركائز الأخرى داخل النسيج الوطني، وحينما تتوافق الزعامة المجتمعية ضمن الركائز الثلاث يعني أن الزعماء والقادة يتبنون الخطاب نفسه، من ثم فإن تعزيز الانسجام المجتمعي ينبغي له أن يحصل. وفضلاً عن ذلك سيتعزز الانسجام حينما يشغل قادة المجتمع ركناً أو أكثر، أو حينما ينظر المواطنون إلى قيادة شخص لأكثر من ركن على أنه شرعي، وسيحصل في النهاية الانسجام في القيادة حينما يملك المجتمع القيادة نفسها لجميع الركائز الثلاث، وعلى العكس ينظر إليها -على سبيل المثال- حينما تُدخِلُ الدكتاتورية العسكرية سيطرتها على الدولة لتفضي إلى تضارب في المصالح بين سياسات الدولة والقوانين الثقافية والدينية والأعراف التي توحد مواطنيها.
نتائج النظم الدكتاتورية على الديمقراطية العراقية:
ضمن نظام الدولة الحالية يمكن أن تكون الديمقراطية عاملاً مهماً جداً في تعزيز الانسجام الاجتماعي، وأن الأنظمة الديمقراطية للدولة تسمح بقبول “الآخر” سواءٌ أكان ذلك “الآخر” أقلية أم أولئك الذين يحملون وجهات نظر متميزة وفريدة داخل المجتمع الأكبر، وهنا يشير “الآخر” إلى أولئك الذين لا يحملون المعتقدات -على سبيل المثال سياسية وثقافية وعقائدية أو أخلاقية- التي يعتنقها غالبية المجتمع، وموضوع التسامح الذي تسعى إلى تعزيزه الديمقراطية يقود إلى إيجاد بيئة إيجابية يتعزز فيها الوئام والانسجام، ومن خلال هذا “التسامح” فإنه يتسنى لشرائح معينة من المجتمع بأن تكون أكثر اندماجاً بالمجتمع ككل ومن ثم بالدولة، وهذا مهم جدا لدولة مثل العراق ذي التنوع الغني، الذي يشكل مجموعة فريدة من الموارد البشرية التي يمكن لها -على وفق ظروف مؤسساتية وثقافية مناسبة- أن تساهم في تحسين التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لها وللمنطقة ككل.
ولو ان هذه المجموعات لم تكن دوماً تعيش في وئام وانسجام لكن هذا هو المكان الذي ينبغي للديمقراطية فيه أن تسهم في تخفيف حدة التوتر، لكن مع ذلك فالديمقراطية وحدها لا يمكن أن تعمل على تعزيز الوئام والانسجام ما لم تدعمها عوامل أخرى تشتمل على سيادة القانون وبنى مؤسسية تشجع الحوار بين الأركان الأساسية الثلاثة والمؤسسات المرتبطة بها.
حينها تصبح الدكتاتورية النظام الطبيعي للحكم، تشكل تهديداً للديموقراطية في العراق فإن ذلك يُعدُّ تدميراً للوئام والانسجام المجتمعي. وقد قادت الأساليب الوحشية للدكتاتورية في العراق إلى فصل المواطنين عن الدولة، ومن ثم تجاهلهم وفي ظل الحكم الاستبدادي فإن مؤسسات الدولة -التي وجدت لتعود بالنفع على المواطنين وأن تكون دعامة مهمة من دعائم الانسجام المجتمعي- تعدُّ حكراً على الدكتاتور، ومن ثم فالمواطنون يخشون الدولة بوصفها أداة رئيسة للقمع وعدم الانسجام، وحينما تتم إزالة الأدوات القمعية للدكتاتور سيتم حينئذٍ الانتقام من أولئك الذين يسيطرون على جهاز الدولة، ومن ناحية أخرى وبينما يكون الدكتاتور في ذروة قوته ويستخدم الدولة لأهدافه الشخصية الضيقة فإن المؤسسات الثقافية والدينية تضعف على حساب الوئام والانسجام المجتمعي، ويمكن للمواطنين أن يستعيدوا السلطة والنفوذ حالما تضعف سلطة الدولة الدكتاتورية، ومن ثم سيسعون إلى التوازن والانسجام من خلال الاعتماد المتزايد على المؤسسات الدينية و/أو الثقافية.
إن القمع المستمر من قبل الدكتاتور -الذي يمتلك عقلية الحكم بالخوف والقيادة وهاجس السيطرة- سيؤدي إلى انهيار المعنويات الثقافية والفكرية للمجتمع، وستخلق ثقافة عدم الثقة بين المواطنين وتعزز هذا الأمر، إذ تضع في اعتبارها أن الثقة عامل مهمّ للغاية في سبيل تماسك أصحاب المصلحة في المجتمع، وفي الوقت المناسب سيفصل المواطنون أنفسهم عاطفياً عن مؤسسات الدولة وسينظرون لداخل مكونهم الضيق من أجل البقاء، ومن ثم تعزيز الأنانية داخل ذلك المجتمع، إن موضوع (الأنانيةـ الذاتية) هذا يفضى إلى معادلة صفرية بدلاً من معادلة (رابح – رابح) في الممارسات التي تسود ضمن أصحاب المصلحة في المجتمع.
في حقبة ما بعد العام 2003 كان لدينا 13 عاماً من أجل تقييم هذا المشروع الديمقراطي الجديد في العراق، وهي تحتاج إلى التفكير في تأسيسه والتحديات الرئيسة التي تواجهه، ومن وجهة نظر الولايات المتحدة- نظراً لدورها في تطوير النظام الديمقراطي في العراق- فإن الأسئلة التي ينبغي لها أن تطرح هي:
ما الأنموذج الديمقراطي الذي يمكن أن يتبنى في المجتمع العراقي؟
إن الديمقراطية لا يمكن أن تفرض او تصدر الى العراق كون الأخير له تجربة ديمقراطية ضعيفة جداً، فضلاً عن ذلك فهو ليس في منطقة ديمقراطية؛ ولذلك فإن هذا يعدُّ محاولة لزرع بذور ديمقراطية جديدة في بيئة غير ملائمة.
هل الأمة مستعدة للمؤسسات الديمقراطية أم أن هذا ترفٌ يختص بالدول المتقدمة؟
إن مرد إثارة مثل هذه الأسئلة يأتي كون المواطنين ما يزالون يتوقعون نتائج إيجابية من الديمقراطية، مثل: خدمات أفضل، وحكم عادل، وأمن مستقر، ومن ناحية أخرى أصبح العراقيون معتادين على الدكتاتوريات التي تكون فيها عملية صنع القرارات واضحة وصريحة وفي يد عدد قليل، وعادة لا يوجد تحدي امني في نظم دكتاتورية نظراً للعقوبات الصارمة، وفي هذا ربط المواطنون خطّاً بين الأمن والاستقرار الاجتماعي.
الوئام الاجتماعي في العراق:
لا يمكن للوئام أن يسود في العراق ما لم يتحقق عدد من العوامل المهمة، وأن يتم تعزيزها واحتضانها من قبل نسبة مهمة من المجتمع عبر الأركان الأساسية الثلاثة، وإن سيادة القانون يعد أمراً بالغ الأهمية؛ وفي العراق هناك ثلاثة أنظمة قانونية متنافسة أو قواعد قانونية هي: قانون الدولة التقليدي العلماني، والقوانين الدينية المتنافسة (الشريعة)، والقانون القبلي (الفصل)، وهذان القانونان الأخيران للأنظمة الدينية والثقافية (الشريعة والفصل) تطورا بفعل ضعف تنفيذ قوانين الدولة على مدى عقود، وإعطاء الأسبقية بنحوٍ متزايد للأساليب التقليدية، وهذا مثال على التنافر القائم بين الأركان الأساسية الثلاثة للمجتمع، ومن الناحية النظرية وعلى أعلى مستوى-هناك النظام القانوني المنصوص عليه من قبل النظام القضائي للدولة، لكن مع ذلك فليس كل عراقي يثق أو يتبع هذا النظام لأن معظم العراقيين لديهم إيمان محدود بالمؤسسات التي تتولى فرض قوانين الدولة، وبدلا من ذلك فإن المواطنين الذين لا يثقون بقضاء الدولة يرجع الى المصادر التقليدية للقانون: القانون القبلي أو القانون الديني بدلا من قانون الدولة؛ وهذا ما يفسر كيف انقسم المجتمع العراقي على فصائل سياسية واجتماعية مختلفة، بدلاً من البقاء موحدين حول النظام القانوني للدولة المركزية، وعلى نحو مماثل وبسبب التأثير السلبي لدكتاتورية صدام حسين على المجتمع العراقي، فلم يعد المواطنون ينظرون إلى الدولة على أنها تنتمي إلى الشعب، بل تنتمي إلى الحاكم والشركاء المقربين؛ وهذا يعني أنه حينما انهار نظام الدولة في أعقاب الغزو الأمريكي في عام 2003 فقد تراجعت شرعيتها ومؤسساتها أيضاً، ولم يكن استعادة الشرعية والسلطة للدولة أمراً سهلاً، ولم يسعفها النقص الخطير في الأمن أو تحسين الخدمات من قبل مختلف الحكومات الديمقراطية في مرحلة ما بعد 2003.
فضلاً عن الأنظمة القانونية الثلاثة المتنافسة هناك ثلاثة مفاهيم متنافسة للمواطنة ايضاً؛ وبالتالي وجود ثلاثة عقود اجتماعية متنافسة بين المواطن ودولته، وعادة تحدد العقود الاجتماعية دور كل من الدولة والمجتمع ومسؤولياتهما: ماذا ستقدم الدولة؟ وماذا تتوقع من مواطنيها؟ والعكس بالعكس، في ما يخص بعد العقد الاجتماعي الديني بين الدولة ومواطنيها فإن وجهة النظر مختلفة، إذ ينظر المواطن للدين على أنه التزام، ويتوقع أن يكون للمواطن نكران ذات حيال الآخر ومنها الدولة، أما في ما يخص البعد الثقافي الثالث فهنا يجب أن يأخذ العقد الاجتماعي بعين الحسبان وجهة نظر المجتمع حيال الشخص ومكانته ووجهة نظر الشخص (مع وضعه الاجتماعي) حيال مجتمعه، ونظرة جماعته حيال المجتمع، وأخيراً نظرة الشخص حيال الأشخاص الآخرين في المجتمع .
في مجال الثقافة يحتاج العقد الاجتماعي إلى أن يأخذ بعين الحسبان عدداً من العناصر التي تشكل هذا العقد مثل المحافظة، والطبقة، والوضع الاجتماعي، والقرابة، والقبيلة، والوضع المالي، وأخيراً الوضع الخاص للمواطن ضمن المجتمع؛ لذا فالعقد الاجتماعي الثقافي هو أشبه بعقد الطبقة أكثر منه في أن يكونوا مواطنين متساوين.
العامل الآخر الذي عزز التنافر وعدم الانسجام في العراق هو مختلف المحاولات من قبل الدولة في سياق طموحها لهندسة المجتمع، والأمثلة على ذلك هي الهجرة الجماعية للفلاحين إلى المدن والتمدن السريع الذي بدأ بعد عام 1945، والترحيل الجماعي للمكونات مثل: العراقيين اليهود في أواخر الأربعينيات وبداية الخمسينيات من القرن الماضي، والتطهير العرقي للفيليين وباقي الكرد في السبعينيات والثمانينيات، واختفاء المسيحية في العراق ومكونات الأقلية الأخرى، ربما كان هذا أحد أهم العوامل المدمرة للانسجام في العراق، وتحجيم الطبقة الوسطى بسبب الحروب والعقوبات الاقتصادية والهجرة الجماعية من الطبقة الوسطى العراقية منذ ثمانينيات القرن الماضي وحتى الوقت الحاضر .
العراق (الأمة والدولة):
نظراً لمختلف التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي يعاني منها العراقيون منذ تشكيل الدولة الجديدة في عام 1920، أصبح العقد الاجتماعي بين الدولة ومواطنيها محطما، وربما تختلف وجهات النظر لكل مكون عراقي عن العقد الاجتماعي الأمر الذي يفضي إلى إحداث شرخ في العلاقات بين المكونات وداخل كل المكون الواحد أيضاً، وهذا الشرخ يعني أن العلاقات بين المكونات قائمة على المعاملات أكثر مما هي قائمة على الانسجام، وفي الوقت الذي تكون فيه العلاقات غير مستقرة فإن مفهوم واحد للهوية العراقية على مستوى البلد ككل مهددة باستمرار، وعلى الرغم من أنه قد تم إدخال الديمقراطية إلى العراق إلّا أنها لا تزال لا تستند إلى أرض صلبة؛ لأنَّ المؤسسات الديمقراطية في المجتمع ليست قوية حتى الآن.
في مشروع الولايات المتحدة لما بعد 2003 اتخذ مفهوم بناء الامة مركز الصدارة، وكان هذا النهج خاطئاً؛ إذ إن بناء الدولة يجب أن يكون الهدف وليس الامة، والعراقيون الذين عاشوا خلال تغيير النظام وضعوا توقعات عالية جداً لبناء الامة على أمل أن تكون النتائج التي تتمخض عنها مماثلة لإعادة بنائها كألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، إلَّا أن ذلك لن يتكرر في العراق، إذ كان المحتلون الأمريكيون لم يكونوا واضحين مع انفسهم بشأن المتطلبات والموارد اللازمة لبناء الامة العراقية، فبناء الأمة يجب أن يكون على المدى الطويل، ويمكن أن يكون له أثارٌ سلبيةٌ كبيرة على المجتمع إذا لم يتم التعامل معه بنحوٍ ملائم، ومن ثم فإن إعادة بناء الأمم يجب أن يكون مشروعاً طويل الأمد يتعين فيه بذل جهود متسقة من قبل جميع الجهات المعنية الداخلية والخارجية، فالأطراف الدولية -بما في ذلك الأمم المتحدة والولايات المتحدة- كانت لهم أهداف طموحة جداً وغير واقعية بالنسبة للعراق، وكان واضحاً أن تخطيط الولايات المتحدة لمرحلة ما بعد الحرب في العراق لم يكن كاملاً، واعطية الاولوية للاهداف قصيرة الامد على رؤى طويلة الأجل، ولم تفهم جذور أسباب الصراع بين المكونات وفي ضمن كل مكون واقترن ذلك مع السذاجة الميدانية من قبل أصحاب المصلحة أو الجهات المعنية في تنفيذ مشاريع إعادة تطوير الدولة الرئيسة.
معالجات بناء العراق:
من أجل إعادة بناء العراق فإن على قيادة العراق الحكومية والدينية والثقافية أن تقدِّر حجم الدمار الذي حصل في نسيج المجتمع، وأن تُركز جلَّ اهتمامها صوب إعادة رسم العقد الاجتماعي بين الدولة ومواطنيها، ولا بدَّ من غرس الشعور الواضح بالانتماء ومواجهة التحديات الرئيسة التي تواجه المجتمع بعيداً عن الأنانية والذاتية، ويجب أن تضع القوانين الجديدة واللوائح في الحسبان أن المواطنين بحاجة لأن يشعروا بالفخر لا العار او الخجل في سياق تعديل القوانين وتنفيذها التي تعود بالنفع لهم ولرفاهيتهم. ومع تدمير اعتزاز الشعب بالدولة ،في ظل دكتاتورية صدام حسين، اصبح تعاون القيادة الدينية والثقافية مع الدولة لاستعادة الفخر الذاتي والاعتزاز في الدولة الديمقراطية الوليدة أمراً أكثر ضرورةً للمجتمع العراقي لتعزيز الوئام الاجتماعي.
يجب على العراق أن يعمل على تعزيز سيادة القانون من خلال العمل مع المؤسسات الدينية والثقافية (عشائر أو مجتمع مدني)، ويجب أن يبين للشعب بأن الديمقراطية والمؤسسات المرتبطة بالدولة لا تمثل تهديداً للجوانب الدينية والثقافية للمجتمع، بل لا بدَّ أن تعمل كل تلك العوامل معاً في سبيل دعم العراق، وأن تكمل بعضها بعضها الآخر، ويجب أن تظهر قيادة الأركان الثلاثة للمواطنين في العراق بأن الديمقراطية (ومن ثم نتائجها وفؤائدها الرئيسة في التسامح) أنها تحظى بالقبول كسبيل لتحقيق احتياجات الناس وتطلعاتهم، في الوقت الذي تتسامح مع مختلف شرائح مجتمعها، والقيادة الدينية هي المؤثرة من بين قطاعات العراق كافة؛ لذا فإن التعاون بين القيادات الدينية والقادة الدولة يجب أن يفضي إلى ترسيخ الديمقراطيةـ وبالمثل أيضاً فيما يتعلق بالقيادة الثقافية/الاجتماعية. وفي الوقت الذي فيه واحد أو اثنان من الجماعات الدينية والثقافية/الاجتماعية تستخدم الديمقراطية بهذه الطريقة، فإنه يتعين على جميع الجماعات الدينية والثقافية التصرف بطريقة مماثلة وفي وقت واحد، ولا ينبغي التقليل من شأن هذه المهمة ولاسيما أن المجتمع العراقي يضم عناصر دينية وثقافية متنوعة ومعقدة مندمجة في نسيجه.
ومن أجل جعل الوئام يسود في العراق فإن الجوانب القانونية والدينية والثقافية على عدد كبير من القضايا المهمة تحتاج إلى أن يتم التوافق عليها مثل: دور الدولة ومواطنيها ومسؤولياتهم، والأنواع المختلفة من الحقوق (بما في ذلك حقوق الإنسان والطفل الخ)، ومراجعة جادة للمناهج الدراسية، ومراجعة جدية للدستور الحالي، ومن دون ذلك التوافق فإن أعضاء المجتمع سيشعرون دائماً بأن ولاءَهم راجعٌ إلى مختلف مراكز القوة والسلطة التي هي في صراع؛ مما يتسبب بمزيد من التنافر وعدم الانسجام، وسيحول دون تقدم المجتمع، ولا يمكن استكمال هذه التوافقات من دون تبني كل الأمة هذه المشاريع والاستفادة من مواردها في سبيل تنفيذها، ومن ثم هناك حاجة بأن يشعر أصحاب المصلحة أو المعنيون بالأمر بالحاجة الملحة لتحديد قرارات وتبنيها من أجل الإيفاء بهذه المتطلبات؛ كي يسود الوئام والانسجام .
والقضية الرئيسة الأخرى تكمن في حجم التغييرات التي يسعى المجتمع بالكامل إلى تحقيقها، فنحن نسمع دائماً من قبل الجهات المعنية أن الفساد متجذر وبقوة في الدولة والمجتمع وأن التغيير يجب أن ينفذ على المستويات كافة، فيما يرى بعضهم أن التغيير بالأعلى كافٍ، فيما يدور السؤال الآخر على مدى قدرة الطبقة السياسية على التعامل مع هذا الأمر، ومن ناحية أخرى فإن أولئك الذين يقتنعون بأن الديمقراطية ليست مناسبة للأمة العراقية، يدعمون التغيير لكامل النظام ويدعون إلى العودة إلى النظام الرئاسي مع وجود برلمان شكلي، وهنا فإن الاتفاق على الرؤية بشأن إطار وخارطة الطريق للتغيير سيكون شرطاً مهمّاً للتنمية السياسية والاجتماعية من أجل أن تؤتي ثمارها.
الاستنتاجات:
من أجل تعزيز الانسجام الاجتماعي، فمن المهم أن ننظر وبدقة إلى جميع الأركان الأساسية الثلاثة للمجتمع، ومن دون فهم قوتها النسبية سيكون من الصعب إجراء إصلاحات من دون استفزاز بعض القطاعات المهمة في هذا المجتمع. وفي ضمن بنية الدولة الحالية فإن حكم القانون والديمقراطية هما ضروريان من أجل تعزيز الانسجام الاجتماعي .
في حالة العراق فقد دفعت عقود من الدكتاتورية الشعب بعيداً عن الدولة؛ لعدم ثقته بها، وأُجبروا على تشكيل مجموعات فرعية دينية وثقافية وقبلية ضيقة تحول دون تحقيق الوئام الاجتماعي الحقيقي والهوية الوطنية ضمن الإطار الحالي للدولة؛ ومن أجل أن يحقق العراق الوئام الاجتماعي وتحسين الآفاق المستقبلية، يجب على الدولة استعادة سلطتها كمصدر المؤسسات الديمقراطية في البلاد التي يمكن للمؤسسات الدينية والثقافية كافة المشاركة فيها ويكون صوتها مسموعاً ومحترماً.
ومن ثم هناك حاجة ملحة للدولة العراقية للتركيز على بناء الدولة -كشرط مسبق لبناء الأمة- بوصفها جوهر المشروع الوطني، وعلى هذا النحو ينبغي أن يؤدي هذا إلى توحيد جميع الأشخاص داخل حدود العراق في مجموعة مشتركة من الأهداف لصالح جميع المواطنين العراقيين، وفي مثل هذه الحالات فإن الفهم والالتزام بروح القانون ونصّه هو الهدف الأسمى؛ من أجل تسريع وتيرة تنمية المجتمع وتحقيق الاستقرار السياسي.
ويمكن أن يتعزز بناء الأمة في حال توافر الخدمات الاجتماعية والأمنية لمواطني الدولة، وأن يرتبط المواطنون نفسياً وجسدياً وبنحوٍ إيجابي مع الدولة، أمّا الوقت فهو عامل مهمّ أيضاً في هذه العملية، فإذا أريد لها النجاح يجب إدخال الديمقراطية بشكل بطيء، وأن يتم احتضانها من قبل الشعب بالتعاون من قيادة الأركان الأساسية الثلاثة، وإذا حصلت العملية بسرعة فإنها ستدفع بالشعب بعيداً عن الدولة وتتسبب مزيداً من التنافر؛ لذا فجلُّ ما ركزت عليه هذه الورقة هو التشخيص العميق لاسباب الازمات المستمرة التي تمر على الشعب العراقي أكثر منه من تخمين اوتنبؤ من التحديات التي تواجه العراق، التي يمكن في إطارها ايضآً وصف القضايا الكبرى التي تواجه منطقة الشرق الأوسط، ويمكن لمثل هذا الإطارالمطروح في هذه الورقة أن يساعد في تفسير ديناميات أسباب وتداعيات مرحلة ما بعد ظاهرة الربيع العربي 2011.
إن تحقيق الانسجام بين قيادة الأركان الأساسية الثلاثة في العراق لا يسمح فقط للديمقراطية بأن تنضج بوتيرة متسارعة فحسب، بل السماح لها أيضاً بأن تكون منارة للوحدة بين التنوع الغني لمواطني العراق. إن وتيرة التنمية والاستقرار في العراق يعتمد إلى حدٍّ كبير أيضاً على وتيرة إعادة بناء طبقته الوسطى والتي من دونها لا يمكن بناء عراق جديد على اسس جديدة؛ ومن أجل أن تستعيد الدولة ثقة مواطنيها، يحتاج المواطنون ليروا مصالحهم ورفاهيتهم تحتل أهمية قصوى داخل أجهزة الدولة، وبخلافه فإن انعدام الأمن والخدمات الأساسية سيؤدي إلى مزيد من الاغتراب للمواطنين عن الدولة وعن مؤسساتها.
يمكن أن يسود الوئام إذا ركّزت الدولة على عدد قليل من الأهداف الرئيسة، إذ تخلق متنفساً للتنمية في المجتمع، وهذه المساحات القليلة تتعلق بالأمن والاستقرار والتنمية الاقتصادية وتقديم الدولة خدمات أفضل وأخيراً بيئة اجتماعية إيجابية لا يكون فيها المواطنون مهدَّسدين من قبل قوات السلطة والشرعية في العراق.