حسين درويش العادلي
لست هنا في معرض الحديث عن ايجابيات وسلبيات قانون الأحزاب المزمع إقراره في مجلس النواب، بقدر ما أريد تناول ظاهرة الإقطاع الحزبي التي أنتجتها الحياة السياسية العراقية بعد 2003،.. فالإقطاعيات الحزبية التي تشكلت في غيبة تامة لقانون الأحزاب ستكون هي المستفيدة أكثر من غيرها في حال إقرار القانون، وبدون معالجة جوهرية للعوامل التي أنتجت ظاهرة الإقطاع الحزبي ونتائجها المستقبلية فإنّ أفق وانسيابية وتطور الحياة السياسية مهددة بالصميم بما في ذلك تطور العملية السياسية ذاتها من خلال تلافي مصداتها وكوابحها الذاتية على يد الأحزاب السياسية المعنية بفعل الدولة.
هنا لابد من التأكيد، بأنّ أهم خطيئة سياسية مارسها النظام الدكتاتوري المباد تلك المتصلة بإعدام الحياة السياسية في العراق من خلال اعتماد نظرية الحزب الواحد في إدارة الدولة. لقد مثّل حزب البعث الصدامي أكبر وأشرس إقطاعية حزبية عرفها العراق الحديث، ولم تغادر هذه الإقطاعية المشهد السياسي إلاّ بنحر المجتمع والدولة.
لعل من أهم النتائج المباشرة للإقطاعية البعثية الاحتكارية: مصادرتها للتطور الطبيعي للحياة السياسية فكرياً وثقافياً وحزبياً ونخبوياً. لقد أنتجت الإقطاعية البعثية واقعاً تشريعياً وسياسياً وأمنياً صارماً لم يترك خياراً أمام أي توجه سياسي معارض لنظرية الحزب الواحد سوى التصفية التامة أو الاستقالة السياسية أو الهجرة والاغتراب لممارسة السياسة،.. وفي حين انعدمت كلياً الحياة السياسية داخل العراق نشأت بالمقابل حياة سياسية في الخارج أقل ما توصف به أنها ملغومة ومشوهة وغير صحية، كونها بعيدة عن بيئتها وثقافتها وممارستها الجماهيرية الميدانية، وبعيدة عن ملامسة التحولات الجوهرية في بنية المجتمع، وواقعة تحت تأثير الهيمنة التي تمارسها الثقافات أو المصالح أو الأجندات لهذه الدولة أو تلك.
وظيفة الحزب
ما هي وظيفة الحزب؟ إنها ممارسة الحكم من خلال نظام التداول السلمي للسلطة وفق انتخابات حرة نزيهة يضمنها قانون انتخابات عادل مؤسس وفق تعددية فكرية وسياسية حقيقية. إنّ الحزب وحدة سياسية مدنية تستهدف الوصول إلى السلطة وإدارتها من خلال برنامج سياسي معلن وواضح، فالحزب مؤسسة سياسية تمارس الحكم التداولي وفقاً للقانون وليس مؤسسة أبوية بطرياركية شمولية تحتكر الدولة لتبتلعها. إنّ وظيفة العمل الحزبي إشكالية حقيقية لم تعرف تنضيجاً على مستوى الفكر والاشتغال شرقياً وعراقيا، فكانت أن أنتجت هذه الإشكالية إشكاليات كبرى تتصل بالحياة السياسية في نظام الدولة الحديثة التي غابت عنها تقاليد العمل الحزبي فغابت عنها تقاليد العمل السياسي ففقدت الدولة شرط تطورها الجوهري، باعتبار أنّ الحياة السياسية رهن وجود مؤسسات حزبية فاعلة في ظل دولة القانون والمؤسسات.
طبيعة نظام الدولة
نظام الدولة وطبيعتها يؤثران بشكل مباشر على طبيعة الأحزاب السياسية في هذه الدولة أو تلك، فنظام الدولة البسيط (الحكم المركزي) يختلف عن طبيعة النظام التعددي، ونظام الدولة اللامركزية يختلف عن نظام الدولة الفدرالية. تبعاً لذلك لا يمكن الحديث عن طبيعة الأحزاب بعيداً عن طبيعة النظام السياسي المعتمد للدولة. مثال على ذلك، لا إمكانية حقيقية لتطور الأحزاب الليبرالية في ظل نظام الدولة الثيوقراطية، ولا إمكانية فعلية لنمو وتسنم السلطة للأحزاب الوطنية العابرة لقارات الأعراق والطوائف في ظل نظام الدولة التوافقية التي تقدس المكون على حساب مبدأ المواطنة،.. إنّ الممانعة هنا ناتجة بالضرورة عن طبيعة النظام السياسي الذي لا تسمح ميكانيكياته التشريعية والسياسية من اختراقها،.. هذه تلازميه حتمية بين طبيعة نظام الدولة ونمط الأحزاب التي تتسيد المشهد السياسي وتمارس السلطة فيه.
تساؤلات
بناءً على ما تقدم، هل يمكن إنتاج حياة حزبية حقيقية دون مراعاة طبيعة النظام السياسي المعتمد للدولة؟، فالدولة المقعدة وفقاً للنظام الشمولي هل يمكن أن تشهد تعددية سياسية حقيقية مهما تمسحت بقوانين للأحزاب أو لحريات التعبير والعمل السياسي، أم أنها ستكون أسيرة لإقطاعية الحزب الواحد واحتكارياته الكبرى للسلطة والثروة؟ وبالمقابل هل يمكن أن نشهد قيام حياة حزبية سياسية تحتكم إلى المبادئ الوطنية الجامعة مع طبيعة نظام سياسي توافقي يقوم على أساس من فكرة المكون العرقي الطائفي؟ وأيضاً، هل يمكن الوقوف بالضد من كارثة ابتلاع الدولة مع وجود أحزاب لا تعرف وظيفة العمل الحزبي على أساس من كونه يتصل بالسلطة (الحكم) لا بالدولة ككيان ومؤسسات؟ أسئلة عامة تتضمن أجوبتها بشكل واضح لتقود حتماً إلى إنتاج إقطاعيات حزبية.
من جهة أخرى، هناك أسئلة تفصيلية أكثر تتصل بحركة الواقع السياسي العراقي، منها: لماذا التزمت معظم الأحزاب السياسية باستحقاق إجراء الانتخابات منذ 2003 والى يومنا هذا، لكنها مارست الترحيل والتأجيل لسن قانون الأحزاب؟ لماذا الاحتكام لقانون رقم 97 لعام 2004 الذي أصدره بول بريمر مع أنه ذاته ينص على انتهاء صلاحيته بانتهاء المرحلة الانتقالية عام 2006؟ هل كان الهدف هو التحرر من أي نص قانوني يضمن لمعظم الأحزاب الوصول إلى السلطة وإحكام قبضتها والتحكم بمجرياتها ثم يصار إلى سن قانون للأحزاب فتكون هي المستفيدة منه بحكم الواقع مما يحول دون خلق منافسين سياسيين حقيقيين؟ وكيف يمكن عملياً منافسة أحزاب تموضعت بالدولة وتسلحت بالمال والإعلام والسلطة؟ ثم أي تأسيس سليم لحياة سياسية مع وجود احتكاريات حزبية كبرى أنتجها نظام المحاصصة القائم على أساس المقاطعات العرقية الطائفية الحزبية؟
إنتاج الإقطاع الحزبي
تتضافر جملة من العوامل لإنتاج ظاهرة الإقطاع الحزبي، لعل في مقدمتها طبيعة نظام الدولة التوافقية،.. إنّ نظام الديمقراطية التوافقية ينتج بالضرورة الإقطاع الحزبي، فقيام الدولة على أساس من مبدأ المكون العرقي الطائفي سينتج أحزاب منغلقة على أساس عرقي مذهبي فتكون هي المعبرة عن مجتمعاتها المحلية وهوياتها الفرعية. إنّ النظام التوافقي هو نظام دمج السياسي التمثيلي (مؤسسات الحكم) بالمجتمعي الفرعي (المجتمعيات العرقية المذهبية)، فتكون المحصلة قيام مجتمعيات سياسية تتصدر مجتمع الدولة، حينها يتسيد الحزب الأكثر تعبيراً وإغراقاً في المجتمعيات العرقية والطائفية الخاصة لينشئ إقطاعتيه السياسية المبتلعة للقومية أو الطائفة أو الأثنية السياسية. هذا ما شهدته الحياة السياسية في العراق بعد 2003.
أيضا، من مناشئ الإقطاع الحزبي اعتماد نظام المحاصصة، وهو نظام تفرزه بالضرورة الدولة التوافقية التي تقوم على توزيع مصادر السلطة والثروة على عدد المكونات العرقية الطائفية وليس على أساس المواطنة، فالدولة التوافقية دولة المكونات وليست دولة المواطنين المتكافئين. إنّ نظام المحاصصة في عمقه هو نظام يجسد ابتلاع المكون العرقي الطائفي لأمة الدولة الوطنية، وابتلاع الحزبي لمؤسسات الدولة الوطنية، فتنشأ لدينا بالنتيجة دولة الأحزاب المبتلعة للأمة والدولة معاً وليس أحزاب دولة معبرة بموضوعية عن الأمة والدولة معاً،.. وهذا ما يؤسس لإقطاعيات حزبية احتكارية متجذرة ستعيد إنتاج نفسها عند كل استحقاق تاريخي كونها تشتغل على أساس من تمثيل القومية والطائفة في نظام حماية المصالح، فتكون هي المستفيدة النهائية من نظام المحاصصة العرقية الطائفية، وقد شهد العراق أكبر نظام محاصصة عرقي طائفي حزبي على أساس من الديمقراطية التوافقية المعتمدة سياسياً تحت واجهات التوافق والتوازن والشراكة، ولأول مرة نشهد تحاصصا علنيا لوزارات وهيئات ومؤسسات الدولة.
تحرير الدولة
لابد من تحرير الدولة فيما لو استهدفنا بقاءها وتطورها، وإلاّ قادت ظواهر الإقطاعيات والاحتكاريات العرقية الطائفية الحزبية إلى انهدام الدولة.
النموذج اللبناني خير شاهد على تسيد الإقطاعيات السياسية (الحزبية والعائلية) القائمة على أساس من ديمقراطية توافقية تحاصصية طائفية، وهو نموذج اللادولة المراوحة في مربع التأسيس والمهددة كل لحظة بالاحتراب الداخلي والاستلاب الخارجي.
تحرير الدولة رهن مشروعها السياسي، فبالضرورة لا يمكن للدولة الصمود مع مشروع هجين مركزي ولا مركزي، فدرالي وكونفدرالي، ثيوقراطي وليبرالي، تقليدي ومدني…الخ، كما أنّ الدولة امبراطورية قوانين ومملكة مؤسسات وهرم سياقات لا يمكن أن تصمد مع ابتلاع مؤسساتها وتحاصص هيئاتها واحتكار سياقاتها عرقياً وطائفياً وحزبيا.
إذا ما استهدفنا تماسك الأمة الوطنية والدولة الوطنية، فلا مناص من اعتماد المواطنة الكاملة غير المنقوصة، والديمقراطية التعددية المنتجة لسلطات سياسية، والتعايش القائم على أساس من قبول الآخر الإنساني والوطني دونما تمييز أو إقصاء، وقوانين وأنظمة تضمن قيام حياة سياسية سليمة وصحية