27-08-2014 –
عدنان حسين أحمد
نظمت مؤسسة الحوار الإنساني بلندن أمسية ثقافية للكاتب والصحفي عبد المنعم الأعسم تحدث فيها عن موضوع “الإصلاح والفكر الإصلاحي في بلد مضطرب”. وقد ساهم في تقديمه وإدارة الندوة كاتب هذه السطور. ذكرَ الأعسم في مستهل محاضرته بأن العراق ينتمي إلى ما يسمّى بالمناطق المضطربة وذلك بسبب الأوضاع الأمنية السيئة التي تعصف بالعراق منذ إسقاط النظام الدكتاتوري السابق على أيدي القوات الأميركية عام 2003 واحتلال العراق، مروراً برحيل القطعات المحلتة، وانتهاء بسيطرة قوات “الدولة الإسلامية” الإرهابية على مساحة واسعة من أرض العراق.
إن غياب الجانب الأمني أو انعدامه في كثير من الحالات هو الذي دفع المحللين والمختصين بالشأن العراقي إلى تسمية العراق بالدولة الفاشلة أو الضائعة التي لم يؤسس حكّامها الجُدد أي منهجٍ سديد لإدارة هذه الدولة وتحريك الأنساغ الصاعدة والنازلة في أعصابها وشرايينها الدقيقة. ونظراً لثراء العراق بموارده الاقتصادية الكثيرة التي تُبدد على الدوام فإنه يُشبّه “بالناقة التي تحمل ذهباً بينما يأكل أهلها العاقول!”. وصف الأعسم العراقَ بأنه دولة معتلّة في مفاصل أساسية لذلك فهي بحاجة إلى الإصلاح. لكن هناك منْ يعتقد أن الدولة العراقية تعاني من شللٍ كلّي، وربما لا يجد البعض حرجاً في تسميتها بالميتة لأنها لم تستطع أن تفرض سيطرتها على عموم الأراضي العراقية.
تنقسم الخيارات التي عرضها الأعسم إلى قسمين حيث يرى أصحاب القسم الأول أن التغيير يجب أن يتحقق بواسطة الثورة المسلحة التي تعيد إلى الأذهان مظاهر “البيان رقم واحد” وخطف السلطة، وارتهان الشعب في رابعة النهار، بينما يعتقد القائمون على القسم الثاني أن التغيير يمكن أن يتم بواسطة الإصلاح وتجلياته المعروفة التي تحتاج إلى إرادة مستندة إلى رؤية عميقة وشاملة.
يُدرك الأعسم جيداً أن وضع العراق يشبه حقلاً مزروعاً بالألغام، ومليئاً بالتناقضات، كما أنه مضطرب في كل شيئ تقريباً فلا مناص من الإصلاح الذي ينشده أو يتمناه الكثيرون في الأقل. غير أن السؤال الجوهري الذي يحتاج إلى إجابة حاسمة مفاده:”ما هي الحلقة الرئيسة في برنامج الإصلاح المنشود في العراق بوصفه بلداً مضطرباً بامتياز؟”.
مفهومات إصلاحية
بيّنَ الأعسم في محاضرته بأن الإصلاح هو “نظرية من نظريات إعادة وتصويب وتطوير بناء الدولة أو المنظومة الفكرية أو العقائدية” وفرّق بين هذا المفهوم الإصلاحي وبين لوزام السلم الأهلي التي تتمثل بالاعتدال والتسامح والوسطية وقبول الرأي الإخر وما إلى ذلك وأنه يعتبر هذه اللوازم ضرورية عند التوجه للإصلاح والأخذ بزمام المبادرة التنفيذيه لمجرياته العملية.
نوّه الأعسم إلى فكرة لافتة للانتباه وتستحق الدراسة فعلاً وهي أن لفظة الإصلاح في القرآن الكريم تقترن غالباً بالفساد، فكلما طغى الفساد واستشرى وجدنا أنفسنا وجهاً لوجه أمام الحاجة الماسة للإصلاح. وقد ذكر الأعسم في هذا السياق ثلاث آيات لكننا سنكتفي باقتباس إحداها التي تقول: “وَلَا تُطِيعُوا أَمْر الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْض وَلَا يُصْلِحُونَ.” (سورة الشعراء-151). فيما قال النبي محمد (ص) في وصيته لأبي أيوب الأنصاري: “أصلح بين الناس إذا تفاسدوا وتباعدوا”. أما الإمام علي (ع) فهو من وجهة نظر المُحاضر أفضل من جسّد الرؤية القرآنية للإصلاح حينما قال: “أترونني لا أعلم ما لا يصلحكم؟ بلى! ولكني أكرهُ أن أصلحكم بفساد نفسي”.
عزّز الأعسم محاضرته بالرؤية البرتستانتية لإصلاح الكنيسة الكاثوليكية في أوروبا خلال القرن السادس عشر بعد أن تفشت أفكار باطلة، وتصرفات لا تليق بالكنيسة مثل بيع صكوك الغفران، وشراء مناصب رجال الدين العليا مثل المطران والكاردينال وحتى البابا، لكن بروز أطروحة مارتن لوثر عام 1517م وانتقاده العلني للكنيسة الكاثوليكية التي فصّلها في 95 بنداً كانت نقطة الانطلاق الحقيقية للإصلاح البروتستانتي الذي اعتمد أيضاً على مصلحين مختلفين هاجموا بدورهم صكوك الغفران، المطهر، الدينونة، شراكة مريم في الخلاص، شفاعة القديسين، ومعظم أسرار الكنيسة وسلطة البابا وسواها من الأفكار الغيبية والرؤى الباطلة التي يمكن الطعن بها أو تفنيدها بسهولة.
رؤى عالمية للإصلاح
توسّع الأعسم في محاضرته من إطارها المحلي إلى إطارها العالمي. فالعالم الرأسمالي يركِّز على أولوية الحريات في الإصلاح والتغيير، بينما تعتقد المنظومة الاشتراكية أن الإصلاح يجب أن يتم عبر إلغاء الاستغلال”. وكلا النظريتين صحيحتان ولا يرقى إليهما الشك.
يرى الأعسم بأن المكارثية قد انتهكت حق التفكير الإصلاحي وقهرت دعاة الحرية والإصلاح. بل أن الإصلاح كان يُنظر إليه كتهمة سلبية لكل من يعترض على استعمال العنف كوسيلة للتغيير، تماماً كما انتقد الإصلاحي كاوتسكي طريقة البلاشفة في الاستيلاء على السلطة بانقلاب أحدثَ تغييرات ثورية لا تتوافق مع الواقع الاقتصادي لروسيا، كما انتقد لاحقاً البيروقراطية الحاكمة التي تفوق مآسيها مآسي المجتمعات الرأسمالية الغربية.
توقف الأعسم عند تجربة غاندي الذي نبذ العنف واعتمد حركة مدنية مسالمة تعوّل كثيراً على المقاومة بالعصيان المدني بغية إحداث التغيير أو تحقيق الإصلاح وقد قوبل هذا المشروع باستخفاف من بعض زملائه الداعين إلى الاستقلال.
الإصلاح في العالم العربي
اعتبر كثير من المُنظِّرين أن دعاة الإصلاح والتغيير السلمي هن بمثابة طابور خامس إلى أن أطلّ منهج الكفاح المسلّح ليشكِّل عملية فرز ثورية في صفوف أجيال العمل الوطني.
كما توقف عند كتابين مهمين الأول “السنّة والإصلاح” للمفكر والمؤرخ والروائي المغربي عبدالله العروي، وكتاب “في نقد الحاجة إلى الإصلاح” للمفكر المغربي أيضاً عابد الجابري الذي دعا إلى إعادة قراءة مفهوم الإصلاح بأبعاده اللغوية والفكرية والأيديولوجية. وقد تعزز هذا المفهوم الذي يبحث في جدوى خيار النظرية الإصلاحية الداعية إلى التغيير بعيداً عن العنف، وقعقعة السلاح. وقد توسعت هذه المساحة بعد أحداث الربيع العربي حيث أفرد بعض العواصم العربية حلقات نقاشية، وورش عمل لهذا الموضوع الحساس. كما أشار المُحاضر إلى التقرير الدوري للتنمية البشرية الذي تصدره الأمم المتحدة بوصفه برنامجاً إصلاحياً بامتياز.
خيار الإصلاح في العراق
اعتبر الأعسم أن تيار الأهالي هو أول حركة إصلاحية معاصرة في العراق حيث أطلق هذا التيار “جمعية الإصلاح الشعبي” عام 1934، وهي جمعية سرّية أسسها كامل الجادرجي ويوسف إبراهيم وغيرهم. وقد تمّ حلّ الجمعية بعد شهر من إجازتها بعد أن انتخب كامل الجادرجي سكرتيراً لها.
أكد الأعسم بأن المؤسسة العسكرية قد انخرطت في الصراع السياسي وقادت ثلاثة انقلابات عسكرية ناجحة وهي على التوالي حركة بكر صدقي 1936، وثورة 14 تموز 1958 وانقلاب شباط 1963. كما قاد بعض جنرالات الجيش العراقي انقلابات فاشلة خلال حكم البعث الذي استمر لأربعين عاماً تراجعت خلاله إمكانات التغيير أو الإصلاح.
أشار الأعسم إلى أن مناسبة هذه المحاضرة هي صدور كتابه الجديد “ناظم الزهاوي. . رجل الدولة والإصلاح” حيث تتبع فيه بصمات الفكر الإصلاحي لدى واحد من رواد العمل.
دولة مضطربة
لا غروَ أن يؤدي الاحتلال وسقوط الدكتاتورية إلى فرز حاد في أساليب تحقيق الأهداف السياسية بين قوى سياسية واجتماعية اختارت الكفاح المسلّح من بينها البعث، قوى التطرف الإسلامي، القاعدة وغيرها من القوى التي تطالب بإجلاء المحتلين بغية قلب الوضع الراهن والوصول إلى السلطة. وقد أفرز هذا الصراع حوادث كارثية أفضت إلى إهدار الدم، وإشاعة الخراب، وتدمير النسيج الوطني بعد عشر سنوات من العنف والهمجية وإراقة الدم العراقي البريء.
أشار المحاضر إلى أن الجميع متفقون على الإصلاح لكنهم مختلفون على الحلقة الرئيسة لنهج الإصلاح. فمنهم من يرى أن الإصلاح يجب أن يمر من خلال إنهاء التمردات العسكرية الإرهابية، ومنهم من يعتقد بأن تعافي الاقتصاد هو بوابة الولوج إلى الإصلاح المنشود، ومنهم من يعوِّل على التربية والتعليم، وإشاعة الحريات، وإحياء الزراعة، وبثّ الحياة في الجسد الميت للصناعة، وإمتصاص البطالة وما إلى ذلك.
ويختم الأعسم محاضرته بالقول إن كل هذه الخطوات ضرورية لكن ليس قبل إصلاح بؤرة الحكم وتحويلها من بؤرة فاسدة إلى حكومة سياسية رشيدة تضع مصلحة البلد فوق كل المصالح الشخصية والحزبية والمذهبية علماً بأن خيمة العراق تتسع للجميع، وموارده الاقتصادية تكفي لكل مكوناته وتفيض على كل المجاورة له في أقل تقدير.
وفي ختام المحاضرة أثار روّاد الحوار الإنساني عدداً من الأسئلة التي أجاب عليها الأستاذ عبد المنعم الأعسم مثمِّناً للسائلين والمتداخلين أفكارهم ورؤاهم الجديدة التي عززت موضوع بحثه.