
دكتور علي رسول الربيعي
هناك بعض الأراء تعتقد بإمكانية التلاقي بين ” الإسلام” والديمقراطية .
يرى محمد مهدي شمس الدين بالأمكان اختيار الشورى كفلسفة حكم والديمقراطية كآليات ومؤسسات. فالديمقراطية اخت الشورى الأسلأمية ورديفتها وجنسها، انها افضل وسيلة قدمها العصر لتطبيق الشورى على حد تعبير عبد السلام ياسين.
فالشورى التي تَضَمنتْ معنىً أخلاقياً ولم تحمل في التاريخ السياسي للمجتمع الإسلامي دوراً إجرائياً معيناً يُحدد طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، يمكن لها الآن – كما يرى راشد الغنوشي – أنً تحمل المدلول المعاصر للديمقراطية، فلا ضيًر في الألفاظِ ويمكن للشورى أن تقوم بدور الديمقراطية نفسه، بوصف الديمقراطية جملة من الآليًات يمكن لها أنً تعمل بنجاح على أكثر من أرضية أيديولوجية. فمثلما تشتغل في إطار العلمانيًة الغربيًة يمكن لها أن تَشتغل في إطار “الإسلام”، أيضا، الذي يقدر على ذلك بنجاح تام لإنعدام وجود كنيسة تحتكر تفسير النصوص. [أعتبار النص الإسلامية يتمتع بالإنفتاح مما يجعل الديمقراطية تعمل بنجاح أكبر. وان الإجماع المتحقق عن طريق “الترجيح بالكثرة” -كما يقول الإمام الغزالي- يمكن أن يكون أحد آليات أشتغال الديمقراطية في الأجتماع/ السياسي الإسلامي. فالديمقراطية في إطار الدولة القومية لا تكون إلا محدودة وحصرية لتحقيقها مصالح فئة معينة من الناس بينما الخلفية الإنسانية والأخلاقية للإسلام تجعلها تعمل بنجاح أكثر بوصف الإسلام رسالة كونية .
وهناك رأي آخر يَقول، بأن للمجتمع ألأسلامي في سياقه التاريخي، والفكر الإسلامي في مكوناته الذاتية “ميكانزماتة” الداخلية، و قراءته طبقاً لها يجعله في غير ذي حاجة لإستيراد المناهج والمفاهيم الغربية؛ فما هي الا مناهج ومفاهيم نسبية تعبر عن التجربة التاريخية للمجتمعات الغربية و مظاهر أنتظامها السياسي.
يَنطـلقُ الموقفان من أستراتيجيتين مختلفتين في المقاربة . الاول، يمثل السياسي الذي يهمه كثيراً ما يدخل في الحل العملي. والثاني، تعبير عن إستراتيجية المؤرخ الذي يروم “قراءة من الداخل” للسياق التاريخي ـ الاجتماعي ـ السياسي الإسلامي .
يتعلق الموقفُ الأولُ بإستعارةِ المفاهيمِ “المضمونية”؛ ولكن لا تستفد المسألة بوصفها مسألة ألفاظ، بل يبدو الأمر أكثر تركيباً وتعقيداً، فهذه الألفاظ مفاهيم إصطلاحية تحمل وبدرجات متفاوتة أبعاداً لمدلولات تعبر عن حالِ أو وضعِ المعرفةِ في أفقها السوسيولوجي؛ وكذلك النظام المعرفي “الأبستمي” الذي نشأت واشتَغلت فيه، وأيضاً، تَتعلقُ بطبيعةِ العلاقةِ الجدليًة بين العام والخاص، والأختراق الأيديولوجي للمعرفي.
فلاينشأ المفهوم منفردا ليتم نقله بسهولة الى سياق آخر، بل يندرج ضمن شبكة من المفاهيم المتضافرة – المشروطة بعلاقاتها البنيوية الخاصة قد يفقد فاعليًته خارجها؛ ومن هنا ليًس من الميسور انتزاع هكذا مفاهيم من تلك العلاقات، ومن سياقاتها التاريخيًة والمعرفيًة و ادماجها في سياقات اخرى مغايرة . الأمر الذي يكشف عن كون فعالية المفاهيم تبقى فعالية مشروطة لا مطلقة . المسألة، اذن، تتعلق بطريقة نقل المفاهيم المشتغلة على تربة معرفية معينة ومدى إمكانية أشتغالها على تربة أخرى .
أما القول بالاكتفاء في دراسةِ المجتمعِ الإسلامي من داخلهِ وفق مسوًغ أن الفكرالإسلامي يمتلك من الأفكارِ والمفاهيمِ ومحمولاتها ما يستوفي لإمكانية هكَذا قراءة، حيث له مناهجه وآليًاته الخاصة في ما يتعلق بقضايا المجتمع والدولة، وأمر الولاية والمشروعية، وشكل الحكم والسلطة، تكون كافية لإنتاج نظريًة في الأجتماعِ السياسي يختًص بها الفكر السلامي، وبالتالي لا حاجة لإستعارة المفاهيم عموما، ومن فكر الغربي تخصيصا؛بوصف مفاهـيـمه ذات حمولات علمانية، قد ينتـج عنها في المطـاف الأخير ما يُطًـلق عليًه تصوًر ماكس فيبر للعلمنة، أي سيتمُ تغليب القيًم الدنيوية مقابل إنحسار قيم العالم الاخر فيتعلًمن المجتمع والسياسة، وهذا ما حصل مع المسيحية .
لكن هذا يَبدو موقفا راديكاليا ًومنظورا حصرياً يَبحثُ عن إصالةٍ طهورية وخصوصية نقيًة من الآخرِ؛ إنه موقف لا يؤديً في نهايةِ المطافِ الا الى أيديولوجية محافظة ومنغلفة تتواطأ معرفياً مع الإتجاهِ الآخرِ المحافظِ في الغربِ.
فيرى المستشرقُ الفرنسي روجيه أرنالديز أن كلَ ما يَمكنُ إستخراجهِ من “القرآن” يمكنُ الوصولَ اليًه بواسطِة المناهجِ التي إستعملها المفسرون المسلمون سابقاً، ويضرب مثلاً بإبن حزم الأندلسي، وبالتالي لا حاجةَ للباحثِ المسلمِ من إستخدامِ مناهجَ العلوم الإنسانية الغربية فما عند المسلمين يكفيهم. فيشير إلى أن العلماء المسلمين كانوا استطاعوا بمفاهيمهم «تحريك النصوص القرآنية وإنعاشها بتفاسيرهم» إلى درجة «يصعب علينا اليوم حتى باسم العلوم الإنسانية أن نجد فيها شيئاً آخر جديداً غير الذي وجدوه»! وبالتالي فإن “المسلمين المحدثين الذين يستعيرون المناهج الغربية كان أحرى بهم أن يكتفوا بمناهج أسلافهم من القدماء، فهي توصلهم بالدقة نفسها. لأن يستخلصوا من الآيات القرآنية ما توصلهم إليه هذه المناهج التابعة للعلوم الإنسانية ” .
تَحتاجُ المسالة الى ماهو ابعد من هاتين الإستراتيجيتين، و من تلك المُحاجَجات حول ما اذا كانت الديمقراطية تُمَثلُ بنيًة فكرية أم تُختزل الى مجموعةِ آلياتِ لتداولِ السلطةِ وضبطِ النظامِ السياسي و أختزال التعددية في التعدد الحزبي و استنفاد التفكير في المقارنة بينها وبين الشورى؛ والدوران حول فكرة الحاكم دون مراجعة لفلسفة الدولة، فيما يتعلق بنطاق سلطتها، و دور الأمة فيها، وأشكال التأثير المُتَبادل بينهما.