(الأرمن العراقيون: التاريخ، الثقافة، الهوية) كتاب جديد في مجال علم الاجتماع صدر حديثا عن دار روزنامة للنشر (جنيف- القاهرة) مطلع هذا العام للمؤلف د. حميد الهاشمي،واحتفاءا بالكتاب والمؤلف ،اقامت مؤسسة الحوار الانساني بلندن امسية ثقافية لعرض الكتاب يوم الاربعاء 3/8/2016 ، حيث قدم الدكتور الهاشمي عرض سريع لمحتويات كتابه والاضافة التي يعتقد انه قدمها في مجاله والمكتبة العراقية والعربية، واهم نتائج بحثه، ومنهجيته في العمل، والظروف التي رافقت اتمامه، حيث اشتمل عمله كما هو واضح على ثلاثة محاور هي (التاريخ، والثقافة، والهوية)، وعلى جهد نظري وميداني موازٍ.
الدكتور حميد الهاشمي باحث في جامعة ايست لندن (University of East London)، استاذ علم الاجتماع في الجامعة العالمية بلندن، عراقي يحمل الجنسية الهولندية. عمل محاضرا مساعدا في قسم علم الاجتماع في كلية الآداب بزوارة، جامعة 7 ابريل في الزاوية، ليبيا من عام 1994- 1998. بعدها هاجر إلى هولندا، وعمل محاضرا لعلم الاجتماع في جامعة أوروبا، في مدينة روتردام الهولندية، منذ عام 2001، وتدرج إلى أستاذ مساعد لعلم الاجتماع في الجامعة ، تنصب اهتماماته حول علم اجتماع الأقليات والهجرة والاندماج الاجتماعي.
قدم الدكتور حميد الهاشمي تعريفا سريعا بالكتاب قائلا؛ يضم الكتاب سبعة فصول، أختص الأول بالتعريف بالأرمن وتوزيع أعدادهم في العالم، والتهجير والإبادة التي مورست ضدهم. أما الفصل الثاني، فقد بحث في (الأرمن والعرب) حيث يركز على العلاقات عبر التاريخ بإيجاز، وتوزيع الأرمن في البلاد العربية. في حين أن الفصل الثالث قد ركز على الأرمن في العراق من ناحية الجذور التاريخية لتواجدهم، وأحصاءات وتقديرات أعدادهم، ويتناول الفصل الرابع عناصر الثقافة، وللصلات مع أرمينيا، من خلال اللغة الأرمنية، والكنيسة الأرمنية ومذاهب الأرمن المسيحيين العراقيين وكنائسهم بضمن ذلك توزيعها في العراق.أما الفصل الخامس فقد تناول تعريفاً بالمؤسسات الاجتماعية والتعليمية والثقافية، والعمل السياسي، والشخصيات الأرمنية العراقية البارزة. ويبحث الفصل السادس في عادات الزواج لدى الأرمن وفق دراسة ميدانية، فيتتبع عادات الزواج من الخطبة إلى مراسيم العرس مروراً بعقد القِران.
أما القسم المتعلق بالهوية، فتناول فيه موضوع إشكالية الهوية الاجتماعية لدى الأرمن في العراق عامة والمهاجرين منهم خاصة، وآليات سعيهم للحفاظ عليها، مفترض مبدئيا نوعاً من صراع الهوية تتعرض له الثقافات الفرعية بصورة عامة، سواء كانت اثنية، أو هويات ثقافية فرعية، فما بالك بمهاجرين حديثي العهد بالهجرة. لذا يبحث في احتمالات وأوجه تهديد تلك الهوية. إلى أي مدى يصارع الأرمن من أجل الحفاظ على هويتهم الاجتماعية، بأبعادها الثقافية والأثنية العرقية؟ ينقسم هذا الفصل إلى بيانات ديموغرافية عامة لعينة البحث الميداني، وتقصي الهوية الاجتماعية، واللغة والهوية، والاندماج الاجتماعي، والثقافة الشعبية، ومن ثم يختتم بنتائج البحث الميداني. يعتمد هذا المبحث الهوية الاجتماعية كإطار نظري ومفاهيمي يهتم بهذا الجانب الإجتماعي والثقافي الهام. ويخلص الباحث خلال الكتاب الى أن الأرمن العراقيين كانوا ومازالوا حريصون على الحفاظ على ثقافتهم وهويتهم الاثنية والعرقية، ومن الاساليب التي يتبعونها هي: اشاعة التحدث بللغة الأرمنية في أوساطهم وتعليمها للاجيال الحديثة باستمرار، والزواج الداخلي، وادامة الصلات بدولة أرمينيا، باعتبارها مرجعية دينية وقومية لهم. علما أن هذا الأساليب لم تخل بوطنيتهم وانتمائهم للعراق كما دلت الشواهد التاريخية ونتائج البحث وان اظهرت نوعا من صراع الهوية خصوصا لدى المهاجرين منهم
بداية التعرف على الاقلية الارمنية في العراق
وقد بين الدكتور الهاشمي علاقته او معرفته بالاقلية الارمنية في العراق قائلا؛ شَغَلَني موضوع الأقليات بمعناها (الإحصائي) والثقافي في العراق مُذ دخلت دراسة تخصص علم الاجتماع بجامعة بغداد عام 1986، وقد بهرتني مدينة بغداد بتنوعها الأثني والديني والمذهبي والثقافي بصورة عامة، كان الأرمن العراقيون أحد الأسئلة التي شغلتني كلما مررت بجوار (كنيسة مريم العذراء للأرمن اللاتين) في ساحة الميدان خاصة. تَجَرّأتُ ذاتَ يوم من عام 1986 واصطحبت زميلي وصديقي رباح الهيتي لندخل إلى الكنيسة، لنرى، لنسمع، لنطلع، لنسأل، لنعرف؟
وهكذا دخلنا الكنيسة، وأبلغناهم بأن غرضنا هو الإطلاع والتعرف مباشرة على طقوسهم، خاصة في يوم يكثر فيه المتعبدون فيها، فرحبوا بنا، ودخلنا دون الحاجة إلى مرافقة أحد منهم. وفي مدخل الكنيسة كانت تقف سيدة متقدمة في السن تقريبا، تضع طوقا على رقبة الداخل إليها بيدها للحظات، يَطلب خلالها تحقيق أمنية من ربّه في سره، داعية له بالتحقق. ثم يشعل شمعة على جانب من رواق الكنيسة. وهي خطوة اختيارية بإمكان الزائر رفضها، ولكننا أديناها بكل مصداقية وقضينا بعض الوقت في الإطلاع ومشاهدة بعض طقوس الصلاة والعبادة للزائرين. ثم أخذنا نطوف بداخلها ونطالع الأيقونات واللوحات والقناديل الزيتية المعلقة على جدرانها. نسأل السيدة الفاضلة فتجيبنا على أسئلتنا بكل رحابة صدر. في طريقنا إلى الخروج من صالة الكنيسة صادفتنا سيدة تبدو من مظهرها وملابسها (سيما العباءة السوداء) أنها مسلمة، دخلت وأشعلت الشمعة ودعت بصوتٍ عالٍ ما مضمونه: ايتها السيدة العذراء (مريم)، اريدك أن تحفظي إبني الموجود في الجبهة (جبهة الحرب ضد ايران وقتها)…الخ. وبطبيعة الحال، كانت مثل هذه الأمور شائعة جداً لدى العراقيين من مختلف الأديان والمذاهب، بحيث يعكس ما يمكن وصفه كنوع من التضامن والأعتماد المتبادل بينهم حتى في الجوانب الروحية.
في السنوات اللاحقة وتحديداً خلال أعوام 2000-2003 وخلال وجودي في معسكر (Cump) اللجوء بهولندا وفي ضاحية كرمبن آندن آيسل (Krimpend Aan Den Ijssel) المجاورة لمدينة روتردام، تعرفت إلى عدد من الأسر والأشخاص من الأرمن العراقيين المهاجرين، وطرحت على بعضهم فكرة إجراء البحث، فكانت استجابتهم ودعمهم بشكل رائع ومشجع جداً. وقد توطدت علاقتي بهم واستمرت سنوات إقامتي المؤقتة في هولندا حتى غادرتها عام 2007، ولازل التواصل مع بعضهم رغم هذه السنوات واستمرار التنقل لكل منا. لقد ساهمت مساندتهم لي بالحصول على البيانات التي دعمت الدراسة سواء من خلال المعلومات المباشرة أو الإستجابة للاستبيان الذي كان من متطلبات الدراسة أو تمريره (الاستبيان) إلى معارفهم وأصدقائهم، وهكذا تطورت الدراسة لتصل إلى الكتاب الحالي.
ويُعد الأرمن أحد المكونات الاثنية التي يتشكل منها الطيف العراقي، ولا يُعرف عن الأرمن في العراق كثيراً سوى أنهم مسيحيون، أو ينسبون أحيانا إلى أرمينيا بالأصل. ولدى بعض الباحثين يُذكر أن سَبَبَ قدومهم الرئيسي هو المجازر التي حدثت ضد الأرمن في الدولة الثمانية في أواخر عهدها، وبالتالي هجرة قسمٌ كبيرٌ منهم إلى بلاد الشام والعراق ومصر. ولكن الثابت والمعروف عن الأرمن في العراق بصورة عامة، أنهم حريصون على الحفاظ على كيانهم العرقي والثقافي الأرمني، وأنهم مسالمون إلى حدٍ كبيرٍ وبعيدون عن إقحام أنفسهم في الصراعات والاستقطابات السياسية.
وبين د. الهاشمي ، قد يُصَوّرُ هذا على أنهم يعيشون في الظل أو على هامش الحياة العراقية، خاصة وأن هناك غياباً شبه تامٍ عن تناولهم من قبل الباحثين والدارسين في مُختلف مجالات العلوم الإنسانية. كما قد يعطي ذلك انطباعاً عن انغلاقهم، لكن هذا يتبدّدُ بمجرد أن يخوضَ الباحثُ في التقصي عنهم.فهل هناك المزيد حول الأرمن، من ناحية جذور تواجدهم في العراق؟ وصلتهم بأرمينيا البلد الأم للأرمن؟ وحجم تواجدهم في البلاد العربية؟ وما السمات والخصائص الاجتماعية والثقافية لطابع حياتهم في العراق، بما في ذلك عادات الزواج؟ وما دورهم في تطوّر الحياة العامة العراقية على أمد وجودهم في العراق؟ هل هناك صراعٌ في مسألة تحديد الهوية الاجتماعية بالنسبة لهم؟.
مجازر الارمن
وقد تحدث د. حميد الهاشمي عن ما عرف تاريخيا بالمجازر ضد الارمن ،فأشار الى ان الروايات الأرمنية أو تلك المتعاطفة معها تتفق في غالبها على أن قادة الحكومة التركية قد وضعوا في بالهم في عام 1915 خطة تهجير وإبادة الأرمن الذين يعيشون في الإمبراطورية العثمانية. وتشير التقارير إلى أنه كان يعيش في الإمبراطورية العثمانية وقتها حوالي مليوني أرمني. وفي بدايات عقد العشرينات من القرن العشرين قد توفي منهم حوالي مليون ونصف. وأن أعداداً أخرى قد هُجّرت. ويتفق أغلب المؤرخين اليوم على أن ما حدث هو عمليات إبادة قد خطط لها ونفذت. وبرغم ضغط الجهات الأرمنية ودعاة العدالة إلّا أن الحكومة التركية لازالت تنكر ذلك وتعتبر التصريح فيها جريمة داخل تركيا ، ومن جهتها الجهات التركية الرسمية والشعبية بصورة عامة تنكر هذه الإبادة رغم الصور والشواهد البشعة لتلك المذابح وهتك الأعراض وما إلى ذلك. وتسوق رواية أن ما حصل هو عمليات تهجير خصت الأرمن الأرثوذكس حصرا وفي بعض مناطق الأناضول، واستثنى الباقين. وتقر بأن التهجير شمل 500 ألفاً، وأن معظمهم قد عادوا لاحقا. وأن سبب التهجير جاء رد فعل على أعمال العنف و(الخيانة) التي مارستها (عصابات) أرمنية ضد الحكومة ومنشآت الدولة. وبالطبع فإن مثل هذه الأسباب لا تبرر حتى التهجير، فما بالك بأعمال إبادة التي مورست ضدهم من خلال القتل الوحشي والمشانق التي شملت حتى النساء بعد تعريتهن واغتصابهن وتعليقهن أمام أطفالهن الصغار. والعديد من هذه المشاهد موثقة بالصور ومتاحة أولاين ناهيك عن الوثائق الأخرى ، كما تشير بعض المصادر التركية الى أن ضحايا تلك الأحداث يقدر عددهم بحوالي 300 ألف فقط، وهو ما تصر عليه الحكومة التركية أيضا، وتدعي أن الآلاف من الأرمن قد قُتلوا، جراء غارات بعض القبائل العربية والكوردية أثناء عمليات ترحيلهم، أي خلال مسيرهم.
العلاقة التاريخية بين العرب والارمن
وأشار الدكتور الهاشمي الى العلاقة التاريخية الوطيدة بين العرب والارمن فذكر؛ إن الفتوحات الإسلامية التي كانت تتسع إبان فترة المد الإسلامي، كان لابد أن تكون على تماس مع الأراضي الأرمنية التي كانت مجاورة بحكم الجغرافيا. وقد “استمرت الحملات لإخضاع أرمينيا من 640-652 م، حيث جرد خلالها العرب أربع حملات آلت إلى توقيع معاهدة صلح بين الطرفين عام 652 م، (في عهد الخليفة عثمان بن عفان). ونصت المعاهدة على قبول أرمينيا سيادة الدولة العربية مع إعفائها من الجزية لمدة ثلاث سنوات، وإعطائها حق امتلاك قوة مؤلفة من 15 ألف فارس تمولها الخلافة العربية، وتقوم بالدفاع عن حدود أرمينيا. كما تعهدت الخلافة العربية بالحفاظ على الاستقلال الداخلي لأرمينيا والامتناع عن احتلال معاقلها وقلاعها ووضع المقاتلين فيها، وتقديم المساعدة للأرمن أثناء هجوم الأعداء والبيزنطيين. وعندما وصل إلى إمبراطور بيزنطة (هيروكليس) نبأ المعاهدة الأرمنية العربية طلب من الأمير الأرمني الرجوع عنها، إلا أن هذا الأخير رفض ذلك، مما دفع الإمبراطور المذكور إلى تسيير جيوشه إلى أرمينيا. بيد أن هذه الحملة أخفقت واضطر الجيش البيزنطي إلى الانسحاب. وتم تعيين القائد الأرمني تيودوروس رشدوني حاكماً على عموم أرمينيا وما وراء القوقاز (654-658)، ويبدو من خلال ذلك أن هناك تسوية قد حصلت، تحقق فيها وضع أسس لعلاقة مستقبلية طيبة بين العرب المسلمين والأرمن، جني ثمارها الطرفان لمدة طويلة من الزمن وهو ما سنطلع على آثاره لاحقا.
عادات الزواج لدى الأرمن في العراق
ذكر الدكتور حميد الهاشمي يجب الإشارة إلى أن شرعة الزواج لدى الأرمن عامة تلتزم الشريعة الدينية المسيحية، لدى الكنيسة الأرمنية المعروفة بمحافظتها بأمور عديدة ليس أقلها درجات القرابة التي يُحرم الارتباط بها. فزواج الأقارب محرم إلى الدرجة السابعة، من أبناء العمومة والخؤولة. وهو ما يمكن عده بجيل كامل تقريبا. وبمرونة تكسّر تزمت الكنيسة المعروف، حيث حصل اجتهاد فقهي، يقصر درجة التحريم من السابعة إلى الرابعة. وذلك لدواعي الخوف من انقراض العرق الأرمني ، ويلاحظ من عادات الزواج لدى الأرمن العراقيين أنها متقاربة إلى حد بعيد مع عادات الزواج لدى عامة العراقيين سواء مسلمين وغيرهم، ما خلا الجانب المتعلق بالصيغة الدينية لعقد القران. وبطبيعة الحال فإن هذا ناجم عن التقارب الثقافي بين هذه الثقافات الفرعية لتشكل إطاراً أشمل من ثقافة عامة.
إشكالية الهوية الاجتماعية
بين د. الهاشمي نه أعتمد على (نظرية الهوية الاجتماعية) التي شهدت نضجا وتطورا على أيدي كل من هنري تاجفل وجون تيرنر. في حين نوَظّف طريقة عينة كرة الثلج (Snowball)، من أجل الحصول على عينات البحث، وذلك نتيجة صعوبة الحصول على عدد كاف من المستجيبين، بسبب صغر مجتمع البحث، وتشتته في أرجاء العالم. كما بين البحث توزع إلى قسمين (نظري وميداني). أما القسم النظري، فقد تضمن المحاور التالية: المقدمة وبضمنها الإجراءات التمهيدية والمنهجية للبحث، وتمهيد في موضوعة الهوية الاجتماعية، ولمحة حول الأرمن في العراق. في حين أن القسم الميداني قد توزع على محاور ترتبط بصورة أساسية بالهوية الاجتماعية، وهي: البيانات الشخصية لعينة الدراسة، والهوية الاجتماعية، والإندماج الاجتماعي، واللغة، والثقافة الشعبية.
تساؤلات البحث؟
وشرح د. حميد الهاشمي تساؤلات البحث فقال ؛لتسهيل مجرى عمل البحث، فإننا قد حاولنا وضع عدد من التساؤلات بغية توجيه البحث من خلال الإجابة عليها،هي:
1. هل يعاني الأرمن العراقيون المهاجرون من صراع هوية؟
2. ماهي مفاضلة الأرمن العراقيين المهاجرين بين العراق كبلد أم من ناحية الولادة والنشأة والمواطنة، وبين أرمينيا، كبلد القومية والإنتماء اللغوي والديني؟
3. ماهو دور الهجرة في ترتيب أولويات المهاجر بالنسبة لانتماءاته؟
4. هل لازالت للمهاجر صلات بالعراق؟
5. هل يفكر المهاجر بالعودة إلى العراق؟ وماهي محددات العودة؟
6. ما هي عناصر الثقافة الشعبية التي نقلها المهاجر الأرمني العراقي معه إلى بلدان المهجر؟ وما دورها في تحديد معالم هويته الاجتماعية؟
7. ما موقع الهوية الاجتماعية الأم في تنشئة أطفالهم؟.
الخاتمة
واختتم الدكتور حميد الهاشمي الامسية بالقول ؛لقد بينت لنا المعطيات والأدبيات المتعلقة بالوجود الأرمني في العراق امتداداً عميقاً في التاريخ، وتواشجا قوياً من العلاقة بين الأرمن والعرب من جهة وكذا بين الأرمن والأكراد من جهة أخرى. وقد زادت هذه الوشائج والعلاقات الحميمة قوة بعد ما تعرض له الأرمن من عمليات إبادة في أواخر زمن الدولة العثمانية، وما نجم عنه من عمليات تهجير قسري أو هروب باتجاه المناطق العربية والكوردية، واحتضان هؤلاء للمنكوبين، والتعاطف الذي لقوه، ومن ثم الولاء والعمل الجاد المخلص من قبل الأرمن لهذه الأوطان قد أكسبهم ثقة الآخرين، ورفع من منزلاتهم.
ويتضح جليّاً ما قدمه ويقدمه أبناء القومية الأرمنية من مساهمات في البلدان العربية التي يعيشون فيها. وهكذا اطلعنا على تلك المساهمات والمشتركات الواسعة التي تدلل على انتمائهم واخلاصهم رغم حفاظهم على عموم عناصر ثقافتهم وهويتهم الفرعية. إن عنصري التفرد في الهوية الرئيسيين (اللغة والدين/ المذهب) جعلتا من الأرمن في عموم العالم يرتبطون بالبلد الأم أرمينيا، وجعلها بمثابة (كعبتهم)، وهذا شيء طبيعي حيث يشعرهم بالقوة والتوحد، سيما مع استمرار استعادة ذكريات فاجعة الأرمن في الدولة العثمانية 1915.
وفقاً لظروف الأرمن (خارج أرمينيا)، وفي الواقع العراقي مثلاً، فمن البديهي أن يكون هناك نوعٌ من صراع الهوية، وهذا ما كشفت عنه الدراسة. وإن هذا الصراع لا يعيب على الشخص الأرمني، فهذا نتاج طبيعي لكل شخص يوضع بنفس ظروفهم وخصائصهم الثقافية والأثنية، بحيث يمكن أن ينطبق على أي شخص ينتمي إلى أقلية أثنية أو ثقافة فرعية مشابهة. وهذا لا ينتقص من إنساهية ووطنية هؤلاء.
ونحن إذ نختم بحثنا هذا حول الأرمن العراقيين، لا يسعنا إلّا أن نؤكد على حق الهويات الفرعية المتمثلة بالأقليات الأثنية والدينية والمذهبية في العراق بممارسة حقوقها الثقافية والانسانية بصورة عامة. كذلك، فإن حماية أرواح أبنائها وأرثهم الثقافي ومعتقداتهم واجب على الدولة العراقية ومؤسساتها الحكومية والمدنية بل حتى المواطن العادي معني بالدفاع عن حقوق هؤلاء والوقوف بوجه التطرف أي كان مصدره.