
عمرون علي
- يمكن أن نقول وفق استقراء تاريخي أنه كلما ضاقت دائرة الفلسفة والتفلسف ارتقت التفاهة واتسعت بالضرورة دائرة التافهين، سواء تعلق الأمر بمصادرة الحق في التفلسف ومحاربة كل أشكال التفكير العقلاني الحر من طرف أنظمة سياسية تؤسس للجهل وثقافة التلقين والاجترار أو بمحاولة لاغتيال الفلسفة ومحاصرة الفيلسوف كحامل لرسالة التحرر وصانع للقيم العليا . وقد وضح الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز موقفه ممّا يقال عن موت الفلسفة، وكان جوابه: “ليس هناك موت وإنما هي محاولات اغتيال” بداية من الانتصار للأسطورة على حساب اللوغس والنكوص إلى الوهم والخيال، مرورا بخنق رجالات الحُكم وتأفُّفِ السلطة والمستبدّين من الحراك الفلسفي والضربات العنيفة التي تلقتها الفلسفة من طرف أهمّ منافسين لها: الدين من جهة، والعلم من جهة أخرى ووصولا إلى نظام التفاهة. هذا النظام الذي تنبأ به فرديرك نيتشه وأشار إليه هيغل عندما أعلن أن مشروع الفلسفة هو الثورة على السطحي والتافه في الحياة .صحيح هناك الكثير من الناس الذين يشتغلون بالفلسفة دراسة وتدريسا، ولكن لاوجود لفلاسفة عظماء في عصرنا هذا كما نبه إلى ذلك الفيلسوف الفرنسي بول ريكور في مقابلة أجريت معه سنة 1976، والسبب في نظره أننا نعيش بلا مشروع فكري في مجتمع تكنولوجي هو مجتمع سرطاني، مثل النسيج الذي يتغذى من نفسه.
- ارتقاء التفاهة يتجلى في نخبة سياسية مقزمة تحولت إلى عبيد للشركات العالمية ومثقفون وصفهم سارتر بالعدو الحقيقي وأطلق عليهم “بول نيزان” اسم كلاب الحراسة في كتاب أصدره عام 1932، أنتجتهم الطبقة السائدة للدفاع عن مصالحها، حيث يبيعون صمتهم لمن يدفع أكثر وفي 1997، نشر سيرج حليمي مدير تحرير جريد لوموند ديبلوماتيك كتاب جديد بعنوان “كلاب الحراسة الجدد”. من خلال الكتاب بين الكاتب أن دور كلاب حراسة الأنظمة انتقل إلى الإعلاميين والصحفيين والمحللين والخبراء، كل هؤلاء يدعون المصداقية والموضوعية والاستقلالية والحياد، في حين أنهم ليسوا إلا حراسا للأنظمة الإجتماعية والسياسية القائمة. وهكذا نلاحظ على الدوام تلك العلاقة الطردية بين اغتيال العقل وارتقاء التفاهة .في نفس السياق يقدم الكندي آلان دونو قراءة لهذه العلاقة حيث يرى أن التفاهة صارت لعبةً تتقنها الأنظمة الساسية، وأنها ظهرت مع حكم التكنوقراط في عهد رئيسة الوزراء البريطانية، مارغريت ثاتشر، إذ وقع نقل الحوكمة من المجال الاقتصادي إلى المجال السياسي، وابتكر التاتشريون الحوكمة السياسية التي استبدلت مفاهيم مثل “الإرادة الشعبية” و”الناشطون السياسيون” و”المواطن” بمفاهيم “المقبولية المجتمعية” و”التوافق” و”التسوية”. وبذلك أفرغت السياسة من المفاهيم الكبرى، كالحقوق والواجبات والقيم والصالح العام. ومع الحوكمة السياسية، تحول اهتمام الساسة من الصالح العام إلى التعامل مع الدولة مشروعا تجاريا، لا يخضع لأي منظومات أخلاقية أو مُثِل عليا. في هذا الصدد يقول آلان دونو بأن “التافهين ربحوا الحرب، وسيطروا على عالمنا وباتوا يحكمونه. فالقابلية للتعليب حلَّت محل التفكير العميق”، ولهذا يوصينا هذا الفيلسوف الكندي بنبرة لا تخلو من”كوميديا سوداء”، قائلاً: “لا تقدم أي فكرة جيدة فستكون عرضة للنقد، لا تحمل نظرة ثاقبة، وسع مقلتيك، أرخِ شفتيك، فكّر بميوعة وكن كذلك، عليك أن تكون قابلاً للتعليب، لقد تغير الزمن، فالتافهون قد أمسكوا بالسلطة، خصائص الحكم والحاكم التافه”؛
- وفقا لدونو تتجلى على النحو التالي :
01- الحاكم التافه يحرص على إشاعة روح البلاهة عن طريق شبكة كبيرة من الموالين والأنصار والحلفاء وأصحاب المصالح. شريطة أن يكونوا على ذات المستوى من التفاهة، وأن يكون التسابق لا لصالح الدولة إنما لترسيخ السلطة وسطوتها بشكل أفقي عام.
02- ” التافهون ( الميديوقراط ) يتكالبون على السلطة كما يتهافت الذباب على الجيف. ويعلمون كونهم في عداد المهملين دون هذه المساحة أو تلك. لذلك هم عادةً كائنات لزجة، سمجة، متمحكة تتعلق بأية أهداب للحكم ولو كانت بسيطة. ويمارسون إفراطاً في العنف كأنه شيء طبيعي كجزءٍ من وجودهم السياسي، بل لا يستطيعون انفصالاً عن حالات التشنج السلطوي باسم وبدون اسم.
04- ووفقا للفيلسوف الكندي، فإن التافهين لدى الأنظمة السياسية العربية مثل الجراد البري، ينتشرون في كل مكان، يتراقصون على كافة المسارح، يلتصقون بالكراسي التصاق الديكتاتور بحذاء السلطة وزيها الرسمي. لقد بلغ التافهون مدى كبيرا في التعليم والثقافة والسياسة والفن والإعلام بحيث أصبح الواقع مغطى بكم هائل من لعاب أو كلمات هؤلاء التافهين نتيجة تزلفهم للأبله الأعلى أو الرويبضة الأكبر وهو (الحاكم)!
05-. السلطة المتولدة عندئذ هي سلطة واهية.
06-التفاهة التي تتحدر من أنظمة الاستبداد العسكرية والأيديودينية، وتدين بالوجود والامتداد لثقافة الاستهلاك التي تدعمها الليبرالية المتوحشة، هي التي تتفوق على كل الأجهزة الحاكمة، فالميديوقراطية mediocratie هي التي تتسيد الموقف، وتقود المجتمعات نحو هاوية السطحية والضحالة واللا معنى. ارتقاء التفاهة يتجلى في إغراق الناّس بوابل متواصل من وسائل الترفيه, مقابل شحّ المعلومات وندرتها. وهي استراتيجية ضرورية أيضا لمنع العامة من الوصول إلى المعرفة الأساسية في مجالات العلوم والاقتصاد وعلم النفس وتوجيه سلوك الناس والسيطرة على أفعالهم وتفكيرهم في مختلف بلدان العالم، عبر تحويل انتباه الرأي العام عن القضايا الهامة، وحسب وثيقة سريةّ للغاية ” يعود تاريخها إلى سنة 1979 ، وتمّ العثورعليها سنة 1986 ” نجد هذه العبارة :“حافظوا على اهتمام الرأي العام بعيدا عن المشكلات الاجتماعية الحقيقية، اجعلوه مفتونا بمسائل لا أهمية حقيقية لها. أبقوا الجمهور مشغولا،ً مشغولا،ً مشغولا،ً لا وقت لديه للتفكير، وعليه العودة إلى المزرعة مع غيره من الحيوانات ” . مما دفع البروفيسور نعوم تشومسكي في كتابه المشهور “صناعة الإجماع” ( 1988 ) إلى اتهام الإعلام بالتواطؤ مع النخب السياسية والاقتصادية في تضليل الرأي العام بصورة منهجية وإخفاءالحقائق عنه من أجل الدفاع عن مصالح النخبة الرأسمالية والتأسيس لنظام التفاهة. - علي الصاوي أستاذ السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا في جامعة سيدي محمد بن عبد الله في فاس بالمغرب عبر بسخرية عن هذا النظام قائلا :”ليس مهماً أن تكون “مثقفاً ألمعياً” ولا “مناضلاً نقياً” لكي يُعترف بك، ويُسْتَدَلَّ بك وعليك في سِجلَّيْ الميديا والميديو. فالأهم من ذلك كله أن تكون تافهاً سطحياً، من دون أفق سياسي ولا خلفية أيديولوجية ولا إنهمام إنساني، فمن يفوز في هذين السجلين هو من يحصد ملايين اللايكات والمشاهدات ممن يصنعون “البوز” عن طريق الفضائحية والبؤس القيمي، ذلكم هو “العَلَّامة” و”الفَهَّامة” في نظام التفاهة السائد”.
- يقول إدوارد جاليانو ” نحن نعيش أوج عصر التفاهة بات عقد الزواج أهم من الحب، مراسيم الدفن وطقوسه أهم من الميت، اللباس أهم من الجسد، قدَّاس الأحد أهم من الله…” والتأسيس للتفاهة من منظور ديني حتمية تاريخية وهو نتيجة لانهيار منظومة القيم الأخلاقية في بعدها المثالي .