د. ابراهيم الحيدري –
23 مارس 2011
مقدمة: جدلية الخصوبة والجفاف
يعاني العراق من جدلية الخصوبة والجفاف منذ الحضارات العليا القديمة في سومر وبابل وأكد. فثمة انقطاعات حضارية كان لها تأثير كبير في تطور ونمو بنية المجتمع والدولة في العراق، وذلك لوقوع العراق على حافة الصحراء مما جعل الحضارة والتحضّر والدولة والمدنية في حالة نشوء وتحلل مستمرين دون تراكم ثابت ومتصاعد لأحدهما على الآخر. وبحسب علي الوردي فإن العراق يقع على أكبر منبع فيّاض للبداوة هو منبع الجزيرة العربية، فهو يتلقى موجات بدوية واحدة بعد أخرى، كما أنه من أكثر البلدان العربية معاناة من الصراع بين قيم البداوة وقيم الحضارة وتأثراً بهما وعلى مدى أجيال عديدة.
وإذا كانت القبيلة تنظيم اجتماعي/ اقتصادي وثقافي/ سياسي، لها قواعد وأعراف وقيم وعصبيات ترتبط بنمط الإنتاج الاقتصادي الرعوي السائد في الصحراء وتفرز منظومة من القيم والأعراف والتقاليد، التي تساعد البدوي على الانسجام مع البيئة الطبيعية، فإن هذه القيم والأعراف والعصبيات ترتبط بأسباب عملية هدفها تأمين أسباب العيش والبقاء والحفاظ على الحياة، ولهذا فهي قيم اجتماعية خاصة بالمجتمع البدوي. ولكن المشكلة هي استمرار هذه القيم ولو بشكل محوّر من جيل إلى جيل عن طريق اللغة والتربية والثقافة حتى بعد انتقال الفرد الى حياة الاستقرار والتحضر في الريف وفي المدينة.
تفكك نظام القبيلة
كان التطور الاقتصادي الذي رافق فتح قناة السويس عام 1869 لتأمين مصالح إنكلترا في إيجاد طريق يربط الهند بأوروبا عن طريق الفرات لتصدير المنتوجات الزراعية في العراق واصلاحات مدحت باشا (1869 ـ 1872) في تأسيس نظام للطابو وتسجيل الأراضي الزراعية المتنازع عليها ساعد على زيادة الإنتاج الزراعي وتحويل جزء كبير من إنتاج القبيلة إلى بضاعة وعرضها في السوق، مما دفع إلى دخول الاقتصاد النقدي، وبخاصة زراعة الشعير الذي تم تصديره إلى فرنسا وإنكلترا الذي استمر حتى عام 1913.
وبعد الاحتلال الإنكليزي للعراق قام داوسن عام 1929 بإجراء مسح للأراضي وتسجيل الأراضي الزراعية بأسماء الشيوخ مما حرم الفلاحين من أراضيهم. وبهذه الطريقة استطاع الشيوخ، وعلى حساب أفراد قبائلهم أن يتحولوا، وبوقت قصير إلى أغنياء ويتعدى نفوذهم إلى خارج حدود مناطقهم. وبانهيار نظام الملكية الجماعية للقبيلة في العراق بدأ تفكك نظام العشيرة وأخذت العشائر العراقية بإنتاج يتعدى حدود الاكتفاء الذاتي. وهو ما عمّق الصراع بين الفلاحين وبين مالكي الأراضي الزراعية الجدد، بعد تسجيلها في الطابو بأسماء الشيوخ. كما رسخ “قانون العشائر العراقية” الذي سنّه الإنكليز، والذي أعطى للشيوخ عدداً من الامتيازات وأصبح لهم بعد سنوات قليلة نفوذ قوي في الحياة السياسية والاقتصادية. والحال كان نظام الملكية الكبيرة طارئاً في العراق لأنه لم يستمد قوته وشرعيته من حيوية داخلية بقدر ما استمدها من سلطة الاحتلال البريطانية. وخلال فترة قصيرة أصبح أكثر من نصف الأراضي الزراعية في أيدي عدد قليل من ملاكي الأرض شبه الاقطاعيين من الشيوخ والتجار والعسكريين وأفراد العائلة المالكة. وقبل ثورة 14 تموز 1958 كان هناك 32 مليون دونم من الأراضي الصالحة للزراعة بأيدي أقلية من ملاك الأراضي الكبار، أي أكثر من نصف الأراضي الزراعية في أيدي عدد قليل من ملاكي الأرض شبه الاقطاعيين من الشيوخ والتجار والعسكريين وأفراد العائلة المالكة.
ظاهرة التحضر في العراق
لم يكن مفهوم الدولة عند تشكيل أول حكومة في العراق في العشرينات من القرن الماضي مفهوماً واضحاً وثابتا بالمعنى الحديث للدولة وكذلك مفهوم المواطنة وحقوق الإنسان. فما زالت الدولة بنية لم يكتمل نضجها بعد. فالدولة لا تعدو أن تكون قوة تسلط فوقي أو حكم استبدادي أو إمارة أو مشيخة. ولهذا بقي مفهوم الدولة عموماً هلامياً غامضاً وملتبساً في الوعي الاجتماعي.
وإذا غاب حضور الدولة ككيان مؤسسي، فإن الخضوع للسلطة المستبدة بقي مستمرا وذلك بسبب أن من أهم خصائص المجتمع العربي أنه مجتمع يتكون من وحدات اجتماعية غير موحدة في إطار وطني واحد أو في “أمة” تجمع وتوحد وذات وعي اجتماعي حقيقي بها.
لقد حاول الحكم الوطني في العراق تفكيك نظام القبيلة وبنيتها الاقتصادية والعسكرية عن طريق بناء دولة مركزية حديثة تسعى إلى حل الاتحادات العشائرية وانتزاع وسائل السيطرة الاقتصادية والعسكرية من يدها عن طريق تأسيس جيش مركزي قوي يحول القبيلة إلى قوة هامشية، وبخاصة بعد ثورة 14 تموز 1958 وإصدار قانون الإصلاح الزراعي وإلغاء قانون المنازعات العشائرية.
وتشير تقارير التنمية البشرية بأن ظاهرة التحضر في العراق واصلت مسيرتها وبخطى سريعة ووتائر عالية، بالرغم من طابعها الكمي وليس النوعي. وقد وصلت في بغداد الى حوالي 80%.
ويبين الجدول أدناه نسب تزايد السكان الحضر بين عام 1930 وعام 1995:
عام 1930 ريف 68 %، حضر 25 % وبدو 7%
عام 1957 ريف 58%، حضر 41% وبدو 1%
عام 1994 ريف 28%، حضر 72% وبدو 0%
وتقف بغداد في المرتبة الأولى في ارتفاع نسبة التحضر وتليها البصرة ثم النجف، كربلاء، نينوى، أربيل والسليمانية.
موجات النزوح الريفي
إن العلاقات الاجتماعية شبه الاقطاعية ووضعية الفلاحين المزرية وظروف عملهم المتخلفة وانعدام أدنى شروط السكن والصحة والنظافة والتغذية دهورت أوضاع الفلاحين وقادت إلى إفقار شديد دفع أكثرية الفلاحين إلى الهرب من واقعهم المزري والهجرة إلى عالم المدينة الضبابي المملوء بالأحلام العريضة علّهم يجدون فيه عزاء وسلوى.
ومنذ بداية الأربعينيات من القرن الماضي بدأت موجات النزوح الريفي إلى المدن الكبيرة وبخاصة العاصمة بغداد بحثاً عن أي عمل كان وبالتالي الانخراط في حياة المدينة والعمل في دوائر الدولة والخدمات وشركات البناء وغيرها.
وقد حدثت ثلاث موجات من النزوح الريفي إلى المدن وهي:
الموجة الأولى من عام 1921 – 1940
الموجة الثانية من عام 1941 – 1957
الموجة الثالثة من عام 1957 وما زالت مستمرة.
وتبين الاحصائيات العلمية بأن نسبة المهاجرين من سكان الأرياف الجنوبية بعد الحرب العالمية الثانية هي أعلى بكثير من نسبة المهاجرين في المناطق العراقية الأخرى، وبصورة خاصة من ألوية العمارة والكوت والبصرة ثم تليها الناصرية وديالى ونينوى.
وقد ارتفع عدد النازحين من عام 1947-1957 إلى أكثر من نصف مليون نسمة ثم وصل عام 1965 إلى مليون نسمة، مع الأخذ بنظر الاعتبار الزيادة السكانية. وفي عام 1970 تبين أن 70% من النازحين إلى مدينة بغداد كانوا من العمارة وأن 80% من سكان الصرائف كانوا من العمارة والناصرية. وتشير المستشرقة الألمانية هلبوش في كتابها “المعدان 1956” إلى أن ثلث عشيرة ألبو محمد هاجروا من العمارة إلى المدن.
وقد أخذت الكثافة السكانية في المدن العراقية الكبرى تزداد بصورة مستمرة وبخاصة مدينة بغداد، التي أصبح ثلث سكانها في منتصف الخمسينات من المهاجرين من جنوب العراق. وقد نمت أحياء سكنية وصرائف رثة في ضواحي العاصمة بغداد الشرقية، ومنها انطلق النازحون للبحث عن أي عمل كان، وبالتالي الانخراط في حياة المدينة شيئاً فشيئا للعمل في الدوائر الحكومية وفي شركات الخدمات والبناء وغيرها.
وكان عدد سكان مدينة بغداد عام 1947 حوالي 424 ألف نسمة وأصبح عام 1957 حوالي 856 ألف نسمة وارتفع عام 1965 الى حوالي مليون و597 آلاف نسمة ثم ارتفع عام 1977 الى حوالي ثلاثة ملايين و700 ألف. أما عام 2001 فقد وصل عدد السكان إلى ستة ملايين ونصف المليون نسمة. كما ازدادت مساحة مدينة بغداد خلال عشر سنوات ثمانية أضعاف، أي توسعت من 100 كيلومتر مربع عام 1950 الى 800 كيلومتر مربع عام 1965.
وتبين نتائج التعداد السكاني لعام 1965 ارتفاع عدد سكان المدن وانخفاض واضح في عدد سكان الألوية الجنوبية وبخاصة في العمارة والبصرة والناصرية والديوانية. وقد قدر عدد النازحين بين عامي 1957 ـ 1965 إلى المدن الكبيرة بثلاثمائة وثلاثين ألف نسمة تقريبا. وكانت أغلبية النازحين من محافظة ميسان (29,4%) تليها ذي قار ثم ديالى ثم نينوى. كما سبب النزوح الريفي إلى المدن ارتفاع نسبة “التحضر الشكلي” فيها ووصل في العقدين الأخيرين إلى أكثر من75% (17) وامتداد العلاقات العشائرية والقيم والتقاليد الريفية، ذات الأصول البدوية، إلى المدن وسيطرتها على العلاقات الحضرية وبالتالي اخضاعها لقوتها الكمية وليس النوعية بحيث يمكن وصفها بـ”بداوة مقنعة” عملت على تشويه العلاقات والروابط المدينية وإحداث تحولات بنيوية مفاجئة داخل الطبقات الاجتماعية صعوداً ونزولاً حيث توحدت مصالح الشيوخ شبه الاقطاعيين مع الارستقراطية التجارية والضباط الشريفيين للدفاع عن مصالحهم المشتركة والوقوف أمام الفئات الأقل تمييزاً ولكن الأكثر وعياً بواقعهم المرير، وهو ما ساعد على تحول النظام الملكي إلى عامل تخلف وتعويق واستبداد.
عوامل النزوح الريفي:
هناك عوامل دفع وعوامل جذب للهجرة من الريف الى المدن. ويمكننا إيجاز عوامل الدفع في انخفاض مستوى المعيشة وعلاقات الإنتاج الزراعية شبه الاقطاعية والاستغلال المقيت والبطالة وكذلك سياسة الحكومات المتعاقبة في إهمال الريف العراقي التي أدت إلى إفقار الفلاحين، إضافة إلى ضعف علاقة الفلاحين بالأرض، بسبب أصولهم البدوية، وافتقار الريف العراقي إلى المؤسسات التعليمية والصحية والاجتماعية والاقتصادية، فإن عوامل الجذب العديدة التي دفعت النازحين إلى الهجرة إلى المدن ومنها إمكانيات العمل وارتفاع مستوى المعيشة النسبي وتواجد المصانع والمعامل والخدمات والمؤسسات الاجتماعية والصحية والثقافية وغيرها. كما كان تشكيل الجيش والشرطة العراقية وبدايات التطور الاقتصادي والتجاري والصناعي قد ساعد على ارتفاع الطلب على الأيدي العاملة الرخيصة أو غير الماهرة.
الصرائف
إن استيعاب هذه الأعداد الكبيرة من النازحين أصبح عبئاً ثقيلاً على المدن دفع إلى نمو مناطق سكنية في ضواحي المدن وبخاصة في العاصمة بغداد أطلق عليها “الصرائف” (وراء سدة ناظم باشا في الرصافة والشاكرية في الكرخ) التي بنيت من الطين والقصب والصفائح الحديدية. ومن تلك الأحياء السكنية الرثة انطلق النازحون إلى العاصمة بغداد للبحث عن أي عمل كان، وبالتالي الانخراط في حياة المدن شيئاً فشيئا للعمل في الدوائر والخدمات وشركات البناء وفي البيوت وغيرها.
وبعد قيام ثورة 14 تموز عام 1958 حاولت الحكومة العراقية التخفيف من صعوبات السكن والحياة في الصرائف عن طريق دمج المهاجرين في المدن الكبيرة ومحاولة منع الهجرة من الريف إلى المدن وذلك بالقضاء على الصرائف وبناء ضواحي جديدة على أطراف بغداد، حيث تسلم سكان الصرائف قطع أرض صغيرة وقروضا من البنك العقاري لبناء دور سكنية صغيرة لهم. وسرعان ما نمت مساكن شعبية عديدة على أطراف بغداد وامتلأت بكثافة سكانية عالية وتطورت إلى مدن شعبية فقيرة، كمدينة الثورة شرق بغداد ومدينة الشعلة شمالي بغداد وغيرها.
وبالرغم من المحاولات المستمرة لمنع الهجرة إلا أن نسبة المهاجرين لم تنخفض حتى بعد صدور قانون الاصلاح الزراعي لعام 1959 الذي لم تتهيأ له الظروف الكافية والمناسبة والرغبة في تطبيقه حيث واجهته تحديات وصعوبات إدارية وتنظيمية واقتصاديةـ سياسية حالت دون نجاحه بشكل جيد، وهو ما دفع إلى انخفاض مستوى الانتاج الزراعي منذ السنوات الأولى لتطبيقه. وبذلك لم يحقق الاصلاح الزراعي أهدافه، وهو رفع مستوى المعيشة والهجرة المعاكسة إلى الريف وكذلك وقف النزوح الريفي إلى المدن.
تغلغل القيم البدوية في الحواضر
من الملاحظ أن أهل الريف أكثر احتفاظا بقيم البداوة وأعرافها من أهل الحواضر المحاذية للبادية وأكثر تأثرا بها من أهل المدن البعيدة عنها. كما أن معظم أهل الريف يتميزون بالشجاعة والمروءة والكرم ولكنهم في ذات الوقت يحملون في أعماقهم مساوئ البداوة كالفخر والتعصب والثأر والحيلة والمرجلة ويمارسها أحيانا ويعتبر ذلك مثالاً للشجاعة والرجولة، ولذلك فإن هذه القيم ليست طارئة على مجتمعنا الريفي على وجه الخصوص، وإنما هي نتيجة تفاعل وصراع وتداخل مع البيئة ونمط الإنتاج والثقافة البدوية، التي تشكل في الواقع نمط الشخصية وبنيتها الذهنية. ومن الطبيعي أن تستمر هذه القيم والتقاليد وتنتقل من جيل إلى آخر عن طريق الأسرة والعشيرة والثقافة واللغة حتى بعد انتقال الأفراد إلى حياة الاستقرار والتحضر. ولهذا نستطيع القول، بأن كثيراً من القيم والأعراف والتقاليد والعصبيات البدوية ما زالت كامنة في نفوسنا وتظهر بين الحين والآخر في طرائق تفكيرنا وسلوكنا وتصرفاتنا اليومية بصورة مباشرة أحياناً وغير مباشرة في أحيان أخرى. وفي الوقت الذي أخذت فيه القيم البدوية، كالمروءة والنجدة والكرم تضعف وتتلاشى، في خضم الحياة الحضرية والمجتمع الاستهلاكي والحياة المادية، أخذت القيم والعادات السلبية للبداوة تؤثر في السلوك عن طريق إعادة إنتاج قيم العصبية القبلية والأعراف والتقاليد العشائرية وترسيخها من جديد وذلك بسبب تخلف نمط الإنتاج الزراعي واستبداد الحكومات وتشجيعها للصراعات الاثنية والقبلية والطائفية، الذي يجعل الفرد مضطرا إلى الاحتماء بالعشيرة والطائفة والمحلة، وهو ما يعيد إنتاج سلطة القبيلة من جديد.
لقد ساعدت الدولة الاستبدادية الشمولية إعادة إنتاج القيم البدوية وترسيخها من جديد. فمنذ منتصف السبعينات من القرن الماضي ساعدت واردات النفط المتزايدة على تحويل الدولة إلى دولة ريعية أغرقت المدن بأعداد من الريفيين واستقطبت العاطلين عن العمل والهامشيين والنازحين من الأرياف إلى وظائف الدولة والطامحين إلى الجيش والحاقدين إلى الشرطة والأمن، الذين وجدوا بأن الدولة القوية هي وحدها التي تستطيع تحقيق الطموحات والتقدم الاقتصادي والتجاري والصناعي، وهو ما سهل ضمور الطبقة الوسطى الصغيرة والتجارية والصناعية النامية وكسر شوكتها.
ومن أجل تثبيت السلطة في يدها اعتمدت المؤسسة العسكرية على التلاحم القرابي- العشيري، بصعود بعض عشائر الأرياف الغربية والشمالية الشرقية إلى السلطة. وهكذا شهدت الدولة الفتية ولأول مرة في تاريخ العراق الحديث اندماج العصبية القبلية بمؤسسات الدولة والجيش، حيث تم تجنيد الريفيين والنازحين وأنصاف المتعلمين في حزب البعث وتأسيس أجهزة قمعية تهيمن على الدولة والمجتمع، وفي ذات الوقت، استخدمت العشيرة لضبط الحزب مثلما استخدم الحزب لضرب العشيرة. وهكذا تم تكوين تحالف عشائري تحت قيادة عشيرة البيجات والجبور. كما تم الالتفاف حول عشائر الوسط والجنوب خلال الحرب العراقية الايرانية الذي وسع من طوقها من جهة، وكسر شوكتها من جهة أخرى. كما قام النظام السابق بضرب الحزب بالعشيرة وضرب العشيرة بالحزب للبقاء في السلطة. وقد استعادت العشائر العراقية بعض قوتها وأخذت ترسخ مواقعها وتستعيد وظائفها القبلية القديمة بجعلها مسؤولة عن قبول الديًة والخاوة والحشم والفصل والتشديد على الشكل التقليدي من الانتساب إلى قبائل عربية والتفاخر بالنسب إليها والتشبث بقيم البداوة وأعرافها.
كما اعتمد النظام السابق وحزبه منذ منتصف السبعينات على آلية عسكرية وأمنية تمخضت عن نقل مئات الآلاف من الريفيين المتطوعين في الجيش والشرطة والحرس الجمهوري والأجهزة الأمنية الخاصة والمرتبطة بقيادة الحزب الحاكم آنذاك، إضافة إلى عشرات الآلاف من أبناء العشائر والقرى الذين استقدموا إلى مدينة بغداد وحولها، وخصوصا من المناطق الشمالية والغربية للعراق(من السنة على وجه التحديد) حيث شكلت تجمعات زراعية وصناعية هي عبارة عن أحزمة أمنية وتحت مسميات مختلفة مثل أحياء البعث والرفاق والعقيدة و7 نيسان و17 تموز والميثاق والتحرير وصدام والنصر والوحدة الزراعية والقادسية والشهداء وغيرها، حيث يشكل أبناء الريف الأغلبية الساحقة منهم. وقد تحولت هذه الأحزمة بعد سقوط النظام إلى بؤر حاضنة للإرهاب والإرهابيين وها نحن نلمس اليوم آثارها السلبية ومخاطرها الجسيمة في العمليات الإرهابية.
البداوة المقنعة
ما هي البداوة المقنعة؟ البداوة المقنعة، هي التحضر الشكلي، أي السكن والعمل في المدينة مع بقاء العقلية ريفية والقيم بدوية والسلوك حسب العرف العشائري وتحول الولاء والانتماء من الدولة والوطن إلى القبيلة والطائفة والمنطقة.
إن الهجرة من الريف إلى المدن هي ليست مجرد انتقال جغرافي من مكان إلى آخر، فالانتقال من المجتمع الريفي بقيمه وتقاليده وأعرافه وعصبياته إلى المجتمع الحضري دون المرور بفترة انتقالية يتم فيها تفكيك تلك القيم والأعراف، هو عملية معقدة وتحتاج إلى ظروف وشروط اجتماعية واقتصادية وثقافية تساعد على التأقلم والانسجام والتحضر وفي مقدمتها تحويل الانتماء من العشيرة إلى المجتمع الحضري والولاء إلى الدولة والمجتمع المدني ومن ثم الخضوع إلى سلطة القانون المدني وليس إلى الأعراف القبلية، والذي ينعكس في البنى الاجتماعية والاقتصادية الأخرى وبخاصة في العلاقات العائلية والتعليمية والمهنية، التي تتأثر بدورها بطرائق التفكير والعمل والسلوك للريفيين النازحين إلى المدن من جهة، وحدوث تغير وتبدل وتحول في نمط الحياة والسلوك والعلاقات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي تضطر النازحين إلى الاندماج والتأقلم النسبي في حياة المدن، مثلما تضطرهم إلى الاندماج القسري في العلاقات الرسمية وغير الرسمية والخضوع الطوعي لوسائل الضبط الاجتماعية الوضعية والعرفية من جهة أخرى، وتحولهم بعد حين إلى مجرد أفراد تمتلخهم المدن من جذورهم وثقافتهم لتلقي بهم في شوارع المدن المزدحمة والمعامل والأسواق والأعمال الخدمية والترفيهية. وسرعان ما تصطدم هذه الفئات المضطهدة مع الأحياء السكنية والفئات الاجتماعية المرفهة وتنتهز الفرص وتتدافع للدخول من أية ثغرة ممكنة إلى الحياة المدينية ومن ثم تحاول التحكم فيها، من خلال ثقلها الكمي وليس النوعي، لتنخرط في الأخير في الحركات والاحزاب السياسية، أي كانت، فتصير في الأخير وقود هذه الحركات وضحيتها في آن.
وهناك حقيقة سوسيولوجية هي أن الريفي عندما ينتقل إلى المدينة يحاول أن يظهر بمظهر حضري ولكن قيمه وسلوكه تبقى قروية (بدوية). وهذه الازدواجية في شخصيته تنعكس على طرق التربية والتعليم والعمل والتفكير والسلوك، لأن الهجرة من الريف إلى المدن هي ليست مجرد انتقال جغرافي من مكان إلى آخر، فلابد من فترة انتقالية وتأقلم وانسجام وتحضر واندماج وخضوع لدولة القانون والمجتمع المدني.
وإذا اختفت أو ضعفت بعض المظاهر الخارجية للقيم والعلاقات العشائرية فإن القيم والأعراف والعصبيات المتولدة من مركب ” التغالب” البدوي تبقى عميقة الجذور في السلوك الاجتماعي – الحضري، بفعل ترييف المدن، لتظهر بين آونة وأخرى في السلوك اليومي مغلفة في أحيان كثيرة بغلاف من التحضر السطحي الذي سرعان ما ينكشف في الممارسات العملية، عندما تضعف الدولة وتتغلب القيم والعادات العشائرية على القيم الحضرية، وهو ما أطلق عليه محمد جابر الانصاري بظاهرة “البداوة المقنعة” التي رافقت ترييف المدن العربية. ومن أهم مظاهر البداوة المقنعة ما يلي:
اولا-اختلال ديمغرافي وخلخلة في القيم الحضرية
لقد ساعد النزوح الريفي إلى المدن على إحداث تبدلات اجتماعية واقتصادية وسياسية وأخلاقية واختلال ديمغرافي (عدم توازن) بفعل ما يحمله النازحون من قيم وأعراف وعصبيات من جهة، وتعطشهم لحياة المدينة وترفها وملذاتها المادية والمعنوية التي كانوا يحلمون بها من جهة أخرى، وكذلك اصطدامهم بمشاكل المدينة وعقباتها وصراعهم مع “مترفي” الأحياء الراقية التي دخلوها عنوة ليحدثوا في حياة المدينة خللا وفوضى اجتماعية واقتصادية وحتى سياسية، وفي العلاقات الاجتماعية تفككا، وفي توزيع الأدوار والمكانات الاجتماعية تدميرا، خصوصا في حالة غياب أمن اجتماعي واستقرار سياسي وتخطيط تنموي علمي وعدم وجود مؤسسات مدنية قوية، مما شجع على إحياء المتخلف من قيم المدينة والريف ليرفد بها عصبيات قبلية ومذهبية وطائفية ومهنية، وهو ما سبب تآكلا تدريجياً في دور المدينة وتدمير بنيتها الحضرية والثقافية واستقرارها الاجتماعي وضعف دور الطبقة الوسطى التي حملت على أكتافها الحداثة والتقدم الاجتماعي.
لقد أصبحت القيم والأعراف والعصبيات العشائرية تحاصر المدن اليوم من جميع جوانبها وتتداخل مع قيمها وثقافتها وتضغط بكثافة عصبياتها على البنيات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية للمدن عن طريق العشائر والعوائل والطوائف والأحزاب وتهجم بكثافتها الكمية وليس النوعية وتخترق المؤسسات السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية وتنتهز أية فرصة للتسلق إلى قممها وتتحول إلى قوة ضاربة “تضعف الدولة” التي لم تكتمل وتنضج، وكذلك مؤسساتها المدنية الوليدة مستخدمة بذلك أحدث الوسائل والأدوات التي تساعدها على تثبيت أرجلها وترفع شعارات براقة للدفاع عن الأمة والوحدة والوطن لإضفاء الشرعية والقداسة على أعمالها وتبريرها وحماية ذاتها وتحويلها إلى “مشيخات” و”طوائف” و “عوائل” و”ميليشيات”، مثلما تحولت الدولة إلى “دواوين” ، مستخدمة في ذلك أحدث الوسائل التكنولوجية التي تساعدها على تثبيت أرجلها في السلطة وترفع شعارات إسلامية وقومية ووطنية براقة لإضفاء الشرعية على سلطتها وتبريرها وحماية ذاتها. ومما يزيد في هذه “الردة الحضارية” تشجيع بعض الحكومات لها في إعادة إنتاج القيم والأعراف والعصبيات العشائرية، التي أخذت بالتفكك والانحلال وترسيخها من جديد، بعد أن عجزت عن تأسيس دولة القانون والمجتمع المدني وتوفير هامش من الحرية واحترام الرأي والرأي الآخر.
ومن المعروف أن المهاجرون من الريف العراقي يجلبون معهم قيمهم وعاداتهم وتقاليدهم وعصبياتهم إلى المدن والمحلات والطوائف، وهو ما أدى إلى حدوث خلخلة في البنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ونكوص تدريجي في الوعي الاجتماعي المدني، وذلك لأن أهل الريف أكثر احتفاظا بقيم البداوة وعاداتها وعصبياتها من أهل المدن، وأهل المدن المحاذية للبادية أكثر تأثراً بها من أهل المدن البعيدة عنها. كما أن معظم هؤلاء يتميزون بالمروءة والشهامة والكرم، ولكنهم يحملون، في ذات الوقت، مساوئ البداوة كالتغالب والعصبية والفخر والثأر وغيرها.
إن انحسار دور المدينة كحاضنة لمؤسسات المجتمع المدني والقيم الحضرية واحترام حقوق الإنسان يسهل سيطرة القيم البدوية كالعصبية القبلية والغزو والتغالب (أنصر أخاك ظالما أو مظلوما، جيب نقش وأخذ عوافي، السبع اللي يعبي بالسكلة رقي..الخ) ويسبب صراعاً اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً وسياسياً وتراجعاً في المستوى الحضاري.
ثانياً-الأحياء الشعبية مصدر قلق سياسي وتأزم اجتماعي.
من الطبيعي أن لا تستطيع المدن استيعاب هذه الأعداد الكبيرة من النازحين. وبالتدريج تتحول هذه الأحياء الشعبية إلى مصدر قلق سياسي وتأزم اجتماعي مستمر وتفرز مشاكل عدة بينها وبين الحكومة من جهة، ومع الأحياء الأخرى من جهة ثانية، وسرعان ما يتحولون إلى مجرد أرقام تبحث عن عمل في شوارع المدن المزدحمة والمعامل والأسواق والأعمال الخدمية والترفيهية وتصطدم مع الأحياء السكنية والفئات الاجتماعية المرفهة وتنتهز الفرص وتتدافع للدخول من أية ثغرة ممكنة إلى الحياة المدينية ومن ثم تحاول التحكم فيها، من خلال ثقلها الكمي وليس النوعي، لتنخرط في الأخير في الحركات والأحزاب السياسية، أي كانت، فتصير في الأخير وقود هذه الحركات وضحيتها في آن.
وحين تزداد حدة التوترات والاختلافات الاجتماعية والسياسية يصبح النازحون أكثر وعياً بواقعهم ويأخذون بكسر الحصار المفروض عليهم ويبدأون بانتهاز الفرص المناسبة للدخول في حياة أهل المدن ووظائفهم وخدماتهم ووسائل ترويحهم ثم ينخرطون في الحركات الاجتماعية والدينية والأحزاب السياسية ليحدثوا في حياة المدينة خللا وفوضى. وعندما تتغلل القيم والسلوكيات البدوية في الحياة المدينية بدخول بعض متخلفي الريف وشقاوات المدن إلى الحركات الدينية والأحزاب السياسية والحركات الثورية المتطرفة وصعودهم إلى الخطوط الأمامية فإنهم يهجمون بكثافتهم الكمية وليس النوعية ويخترقون المؤسسات السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية وينتهزون أية فرصة للتسلق إلى قممها وتتحول إلى”مشيخات” و”طوائف” و “عوائل” و”ميليشيات، مثلما تتحول مؤسسات الدولة إلى ” دواوين” و “حسينيات” وترفع شعارات إسلامية وقومية ووطنية براقة لإضفاء الشرعية على سلطتها وتبريرها . وما ارتداد عدد من الحركات السياسية والتنظيمات الدينية والاجتماعية الى جذورها العشائرية إلا مؤشرا على عودتها إلى قيمها وعصبياتها الكامنة، ومن الملاحظ اليوم أن أغلب أفراد الحكومة من الموظفين والجيش والشرطة والأمن وأعضاء البرلمان من أصول ريفية الذين ما يزالون يحملون في أعماقهم قيم البدواة والتغالب والعصبية. وهم، في ذات الوقت، سبب من أسباب ضعف قيم التحضر والاستقامة والتسامح وعدم وجود هامش من الحرية والتعددية واحترام حقوق الانسان وعدم الوعي بها وصعوبة ممارستها في الواقع الاجتماعي.
ثالثا-الحداثة والبداوة المقنعة
كان الدخول إلى الحداثة وما يزال من الأبواب الخلفية وذلك بسبب انحسار الثقافة الحضرية القائمة على الاستقرار والتسامح والتقدم الاجتماعي. وهناك أمثلة كثيرة على ذلك. فانت تشاهد في بغداد اليوم من يستخدم السيارة والكومبيوتر والإنترنت والموبايل بدون قيمها العلمية والتقنية، فهم ينتقون منها ما يتلاءم مع أذواقهم ومصالحهم ثم يلعنون الحداثة والحضارة الغربية ومكتشفاتها. كما تظهر قيم بدوية أخرى محورة كما في سياقة السيارة بالبجاما مثلا، وفي تراجع طراز البناء الجديد في بغداد واستخدام الألوان الغامقة لصبغ واجهات البنايات وانتشار الديوانيات والعزائم والوير في المقاهي وتغير الاذواق نحو الأسوأ في بناء دار أو فتح محل تجاري وذبح كبش وتلطيخ الباب بدم الذبيحة، وانحسار الاهتمام بالآداب والفنون وغلبة الشعر الشعبي الرديء وغيرها.
ويصطدم المرء اليوم وفي بغداد بالذات برقابات اجتماعية مختلفة يمارسها المجتمع على الأفراد، بأسم الدين والعادات والتقاليد والأعراف العشائرية مما يحد ذلك من حرية الفرد الشخصية وآراءه ومعتقداته.
ومن أشكال وأساليب الغزو الثقافي البدوي المحورة انتشار العصابات والمافيات والحواسم، علاقات المحسوبية والمنسوبية، والبحث عن عشيرة للانتساب إليها واستخدام الفصل العشائري الذي أمتد إلى الأطباء بدل الاحتكام إلى القانون (مظاهرات أطباء الكاظمية ضد الفصل العشائري، كانون الثاني 2011).إلى جانب تعميق الروح الطائفية التي قادت إليها المحاصصة السياسية، التي هي عشائرية ،لأن الطائفية هي الوجه الآخر للقبلية. ويلاحظ الباحث الاجتماعي ارتباط ظاهرة الفساد بازدياد مظاهر التدين الطقوسي ورفع الطقوس إلى مستوى العقيدة والتقديس.
رابعا-استفحال القبلية والطائفية
ثمة تحد كبير يواجه بناء الدولة الحديثة وهيبتها اليوم حيث ينقسم المجتمع العراقي على ذاته إلى قبائل وطوائف ومناطق حولت الصراعات والمنازعات والعصبيات العشائرية إلى المدن والأحياء ومؤسسات الدولة والمجتمع.
فمنذ سقوط النظام السابق تم تشكيل 14 مجلساً عشائرياً وقامت سلطات الاحتلال بتأسيس مكتب ارتباط مع العشائر وتدشين مقر للاتحاد العشائري وبحضور الحاكم العام الأميركي جيم ستيل ومسؤولين عراقيين. كما تم تأسيس صحوات العشائر. فبالرغم من أهميتها الآنية في استتباب الأمن، فمن الممكن استغلالها في الاوقات السياسية العصيبة وجعلها طابورا خامسا. إلى جانب دورها في تقوية الأعراف والعلاقات والعصبيات القبلية التي تتعارض أساساً مع الديمقراطية. والحال أن قوات الاحتلال حاولت خلق توازنات جديدة: الصحوة القبلية مقابل الصحوات الطائفية، وميليشيات جديدة مقابل المليشيات القديمة. وفي 16 تشرين الثاني عام 2008 تم تأسيس “مجلس أمراء قبائل العراق” من العرب والكرد والتركمان والمسيحيين والصابئة والأيزيدية ليضمن التقاليد العشائرية والأعراف و”العصبيات” القبلية، وفق المصلحة الوطنية العليا و”الديمقراطية التوافقية”. وقد وجد البيان التأسيسي التأييد من قبل الحكومة.وأخيرا تم تعيين وزيرا للدولة لشؤون العشائر في وزارة المالكي الثانية.
إن هذه الوضعية غير الطبيعية تدفعنا إلى سؤال هام يرتبط بمستقبل العراق هو:
كيف يمكن تحديث وتمدين ودمقرطة القوى التي تنحدر في أصولها من الريف بعد أن صعد البعض منهم إلى قمم السلطتين التشريعية والتنفيذية وهيمنوا اليوم سياسيا واقتصاديا واعلاميا. إن هذا دليل واضح على عدم قدرة الدولة على خلق المواطن الذي يكون ولاءه للوطن والمواطنة التي تجمع الكل في هوية وطنية واحدة تحقق الأمن والاستقرار والتعايش الاجتماعي السلمي.