يونس بلفلاح –
لقد أفرز الحراك العربي نقاشات عميقة حول مجموعة من المواضيع التي كانت تستهلك بشكل سطحي وبدون غوص في حيثياتها و أبعادها.
و يعد من بينها المجتمع المدني كمفهوم متجدر في الغرب، فقد عرفه “توماس هوبز” في منتصف القرن السابع عشر بأنه مجتمع ينظم نفسه على شكل تعاقدات اجتماعية بين أفراد مستقلين، و تطور المفهوم عند “جون لوك” فأسماه المجتمع ذو السيادة و القادر على تشكيل إرادة عامة ، نابعة من مشاعر إنسانية و روابط تراثية و اهتمامات مشتركة كما لقبها “إدموند بيرك”، ليخطو فيما بعد أولى الخطوات في العالم العربي مع بدابة الحركات الاستقلالية في الأربعينيات من القرن الماضي.
و كمحصلة لعمل هذه المنظومة، يمكن التحدث عن عدم توافق في مبنى و في معنى عملها داخل الدول العربية، حيث تواجدت هياكل المجتمع المدني من جمعيات تطوعية و منظمات حقوقية و نقابات عمالية و اتحادات طلابية، لكنها عانت من تسلط الدولة و استبداد الأنظمة و ضعف الإطار القانوني المنظم لعملها و إشكالية النخبوية و التباعد مع القاعدة الجماهيرية، مما أدى إلى قصور في الأداء المنتظر و التفاف ممنهج حول جوهرها ووظائفها الهادفة، لقد تم تعامل صنميّ “فيتيشيّ” مع المفهوم، إلى درجة إفراغه من قدرته التفسيريّة ومفعوله النقديّ.
نعالج في هذا المقال إسهامات المجتمع المدني العربي في التغيير الديمقراطي والتصورات الفعالة المبتغاة منه لإرساء و توطيد هذا المسار عبر ثلاث محاور رئيسية:
قدرة المجتمع المدني العربي على تجاوز العثرات السابقة و مواكبة التغيير بقوة اقتراحية ناجعة .
استئصال البنيات الفكرية و الممارسات المجتمعية المدمرة لنواة المجتمع المدني الحر.
كيفية الحد من مخلفات الاستبداد و وضع الركائز الأساسية للحفاظ على مكتسبات الحراك العربي.
قدرة المجتمع المدني العربي على تجاوز العثرات السابقة و مواكبة التغيير بقوة اقتراحية ناجعة:
إن قدرة المجتمع المدني العربي على تصحيح أخطاء الماضي مرتبطة بمدخلين أساسين هما: القضية الديمقراطية و طبيعة العلاقة مع الدولة.
إذ يعتمد المجتمع المدني على عناصر مركزية تشكل اللبنة الفاعلة في كيانه، تتجلى في العمل التطوعي و المؤسساتي، الاستقلالية عن الدولة و احترام المشروعية الدستورية والمبادئ الديمقراطية.
لقد انقسم المجتمع المدني قبل الحراك العربي إلى مجتمع يواجه الأنظمة الاستبدادية ويعتبر ملاذا للنضال و جامعا لمعارضي النظام، و قد عانى هذا القسم من السياسة الاقصائية التهميشية المتعمدة أو من عزلة انطوائية تبعده عن الشعب و تحصره في نخب ضيقة، و قسم أخر تعرض لعمليات التدجين من خلال إشراكه في الفساد و في استغلال النفوذ، و بهذا هيمنت الدولة على أهم وظائف المجتمع المدني، و كما يقول المفكر فالح عبد الجبار : “إن زحف الدولة في ميدان إنتاج و تبادل الثروة
الاجتماعية مهد لزحفها الظاهر داخل التنظيمات الاجتماعية ثم إلى ميدان إنتاج الثقافة، و ها نحن إزاء مجتمع مدني واهن و يفتقد إلى الأدوات المدنية للتعبير عن النفس”.
و في هذا الصدد، فتعرض المجتمع المدني العربي للوصاية و التبعية جعله يلعب دور العميل المزدوج الذي يعادي السياسة باسم الديمقراطية، ثم يدير ظهره للديمقراطية باسم كونها معركة سياسية، و هنا يجب دحض هاجس الدولة بأن المجتمع المدني القوي يضعفها، هذه ليست مجتمعات بل جماعات انفصالية و وشائجية مبنية على القبلية و العشائرية و الطائفية.
على العكس من ذلك، فالمجتمع المدني القوي يحتاج دولة قوية تمييز نفسها عن النظام أي كمؤسسات تضمن الاستمرارية و ذات شرعية، و ليس أشخاص يفرضون الخضوع و العنف، و بذلك تكون العلاقة بين الدولة و المجتمع تفاعلية و تكاملية، نجاحها لصيق بوجود مجتمع مدني عربي قادم من السفح و حامل لمشروعية مجتمعية، و بتوفر عامل الثقة بين المؤسستين الذي لا يتحقق إلا في ظل مبادئ دستورية ديمقراطية تمثل الرهان الأبرز للمجتمع المدني العربي في حراكه، و نذكر هنا: مدنية الدولة، احترام الحريات العامة وحقوق الإنسان، فصل السلطات و سيادة القانون، استقلالية القضاء… ، و من هنا يكمن الدور الجديد للمجتمع المدني العربي كقوة ناعمة و موازية للعمل الحكومي لديها نظام للرقابة و اليقظة، تنتقل من خط الدفاع المقاوم الذي تبنته للمرافعة إلى قوة اقتراحية واستباقية بمرتبة متقدمة و مكانة عالية، تأخذ زمام المبادرة لتحسين الأوضاع و تكون شريكا استراتيجيا للدولة في سياساتها العمومية و محركا حقيقيا للثقافة المجتمعية الحداثية.
استئصال البنيات الفكرية و الممارسات المجتمعية المدمرة لنواة المجتمع المدني الحر
من بين أشكال الاستبداد، تمكنه من التوغل داخل المجتمع عبر أفكار و ممارسات هدامة تشجع على التفرقة، الإتكالية و الهروب من المسؤولية، ثم منطق الراعي و الرعية، حيث تجعل النظام السياسي شموليا وأخطبوطا متدخلا في جميع الحقول و داعيا لفكره الخاص، والتخلص من هذا الإرث، لن يتحقق إلا إذا كان المجتمع المدني حاملا لرؤية واقعية ومشروع واضح بدور طلائعي، يصنع قيمة مضافة من خلال تحمل المسؤولية و تقوية التعدد و التنوع كطريق للسداد.
و في هذا السياق، فالارتقاء بالأداء من أهم تحديات المجتمع المدني العربي و التي تنبني على هيكلة إدارية مرنة و توظيف دقيق لآليات التسيير و كذلك الاستثمار في الموارد البشرية عبر التدريب و التلقين، ثم تأتي إشكالية التمويل التي تتقاطع مع مسألة السيادة الوطنية باعتبارها جزءا من خصوصيات الحراك العربي.
و بهذا، فأولويات عمل المجتمع المدني يمكن تلخيصها في النقط التالية:
تبني مبادئ و قيم الحراك العربي (السلمية، الحرية، العدالة، الكرامة و إرادة الشعب،…).
السعي في سبيل التضامن و الانسجام المجتمعي بين جميع الفصائل.
التوجه من حقوق الإنسان إلى حقوق الشعب ضد التسلط و الإرهاب و إحقاقا لحق التنمية البشرية ، يزكي هذا الطرح قول المفكر سعد الدين إبراهيم :”إن الدعوة لأساسيات المجتمع المدني و دعم مؤسساته هي الطريق الأمثل للديمقراطية الحقة و التنمية الشاملة و العادلة”.
كيفية الحد من مخلفات الاستبداد و وضع الركائز الأساسية للحفاظ على مكتسبات الحراك العربي:
في ظل الوضع الانتقالي الذي تعيشه الدول العربية، تشير بوصلة المجتمع المدني إلى ضرورة تحجيم الأثر السلبية لسنوات الاستبداد بمقاربة جديدة تشرك و تدمج شرائح اجتماعية واسعة و متنوعة في المجتمع المدني، مما يستوجب تعبئة للتحسيس و التوعية تدعو إلى المواطنة عبر حكم رشيد يفصل و يوازن بين السلط و يربط المسؤولية بالمحاسبة و المساءلة و يحارب مركزية القرار.
الحراك العربي يفرض أيضا إصلاحا اقتصاديا، ينطلق من مواجهة الفساد و يتطلع إلى سياسات تنموية تقوي الإنتاج و ترفع من مستوى التنافسية و كذلك إصلاح ثقافي يرتكز على نهضة فكرية رائدة.
و يبقى التكامل المشترك للمجتمع المدني العربي رافعة لتأمين المكتسبات من الانحرافات عن المسار الديمقراطي و قفزة نوعية باتجاه التنمية المستدامة.
وفي الأخير، إن الرقي بالمجتمع المدني العربي رهين بنقطة الإقلاع المتمثلة في الحرية، فهي التي توسع خيارات البشر التنموية و تساوي بين جميع الفئات المجتمعية، علاوة على ضمانها لحق النقد و التقويم عبر دينامكية النقاش المفتوح و المستمر.
يونس بلفلاح – باحث مغربي