حازم صاغية
من يقرأ “رسالة التسامح” لفولتير، وقبلها “رسالة في خصوص التسامح” لجون لوك، يخرج بفكرة عن المشكلة التي كان يعانيها مجتمعا إنجلترا وفرنسا في القرنين السابع عشر والثامن عشر. فقد كان هناك في موقف فولتير من جان كالأس وعائلته وفي إدانته للمجازر، أو في دعوة “لوك” إلى الإبقاء على الكنائس التي تعلّم التسامح دون سواها، تعيين للتناقض الذي يشقّ المجتمع المعنيّ وتحديد للاصطفاف الثقافيّ الحاسم حياله. هكذا وُجد هناك من يتساءل: هل إن فولتير، الكاثوليكيّ، هو فعلاً كاثوليكيّ؟. ذاك أنّ دفاعه عن البروتستانت ذهب أبعد “مما يجب”.
ما الذي يحصل عندنا نحن في المنطقة العربيّة؟
كلام عام وسائد مستوحى من نظريّة ” أنّنا ” ، ” كلّنا إخوان”، وأنّه ما من مشكلة بيننا. وفجأة تنزل نازلة بإحدى الأقليّات فتهرع الصحف والتلفزيونات إلى التحدّث عنها وتنبش جذور تلك الأقليّة في التاريخ المحليّ، كما لو أنّ الأمر اكتشاف حصل بغتة. أي أن الاهتمام يحصل بعد الموت فقط، وهذا ما يجعله من قبيل “اذكروا محاسن موتاكم”.
أغلب الظنّ أنّنا نعيش في ما قبل التسامح: ولا أقصد بذلك عرض التسامح فحسب، بل أصلاً الطلب على التسامح. فهذا أمر يمكن لمجتمعاتنا أن تعيش من دونه وألاّ تستشره كمٍّ هو حارق ومُلحّ.
مفهوم أن تحتلّ مسألة التسامح، الدينيّ منه والإثنيّ، حيّز الاهتمام اللفظيّ الذي تشغله. ذاك أنّ العلاقات الأهليّة في الرقعة الجغرافيّة المقصودة إنّما تردّت إلى مستويات استثنائيّة. ولم يكن ينقص المنطقة إلاّ انفجار النزاع السُّنيّ- الشيعيّ، معطوفاً على المسلم- المسيحيّ والعربيّ- الكرديّ والشمالي- الجنوبيّ (في السودان واليمن) والعربيّ- الدارفوريّ(دافور في السودان) والفلسطينيّ- الأردنيّ والعربيّ- الأمازيغيّ والزيديّ- الشافعيّ… الخ.
ومع هذا فإنّ الكلام العربيّ في التسامح، وبالضبط للسبب المذكور أعلاه، يبقى وعظيّاً وإنشائيّاً ومضجراً. فالشرط المسبق للمطالبة بالتسامح هو إقرار الجماعة بوجود الجماعة الأخرى وبالاسم والتعيين اللذين اختارتهما لنفسها، على ألاّ يقتصر الإقرار على لحظات الذبح وحدها. فليس من الممكن أن تتسامح مع كائن مشكوك بوجوده أو بوعيه هو لوجوده ولاسمه. والحال أنّنا لا نزال قبل هذه المرحلة بكثير. فعندما تغلّف حياتَنا إيديولوجيّة أنّنا “كلّنا إخوان”، فهذا لا يؤسّس للإقرار بوجود الآخر كوحدة مستقلّة وكاسم مستقلّ.
وهناك ما لا يُحصى من الأمثلة على ما أذهب إليه: فمثلاً، ميشيل عفلق، مؤسّس “حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ”، أفتى ذات مرّة بعروبة أكراد العراق وأمازيغ المغرب. وفي مصر والعراق يسود الظنّ بأنّ تعبير “أقليّة” تعبير غير لائق، حتّى أن الأقباط ومسيحيّي العراق استدخلوا هذا الفهم الأكثريّ وباتوا يؤكّدون على أنّهم “أصيلون في مصريّتهم” و”في عراقيّتهم”، وأنّهم ليسوا “أقليّة” (كما لو أن المعنيَين يتنافيان). وفي لبنان، كان يُطلق، ذات مرّة، على المسيحيّين المؤيّدين لـ”الحركة الوطنيّة” وصف “المسيحيّين الوطنيّين”، تدليلاً على أنّ المسيحيّين الذين يقفون موقفاً آخر، وهم أكثريّة المسيحيّين الساحقة، ليسوا وطنيّين. ومن لا يكون وطنيّاً لا يسري عليه التسامح أصلاً. وبدورها، درجت الأنظمة العسكريّة- القوميّة على رفض أيّ تعيين أو تحديد طائفيّين لأنّنا “كلّنا عرب” فيما التحديد لا يفعل غير تمزيق الهويّة القوميّة، وهذا علماً بأنّ ما يحصل في شبكة العلاقات الاجتماعيّة لا يفعل غير رفع وتائر التفتّت والعصبيّات الأهليّة.
فما لم نعبُر عتبة الإقرار والتسمية، سيبقى الكلام في التسامح وعظيّاً وأخلاقيّاً بحتاً، فيما نبقى في زمن ما قبل التسامح.
ولعبور كهذا شروط أكتفي هنا بذكر بعض عناوينها:
أوّلاً- استبدال “كلّنا إخوان” بـ “كلّنا مواطنون”، فيكون القانون ما نجتمع عليه وما ينظّم اجتماعنا بدلاً من العصبيّة في وجهيها الإيجابي (التضامنيّ) والسلبيّ (العنفيّ). وينبغي ألاّ ننسى أنّ “الإخوة”، منذ قابيل وهابيل، أمعنوا في قتل واحدهم الآخر.
ثانياً- تضييق التعويل على الآخر الأميركيّ والإسرائيليّ بوصفه من “فعلها بنا”. فنحن نملك كلّ الرغبة في أن “نفعلها ببعضنا بعضاً” وكلّ القدرة على ذلك. هذه المهمّة تساهم في تخفيف التمويه عن قضيّة هي في أمسِّ الحاجة للإشهار.
ثالثاً- تغليب الفكرة القائلة إنّ الأولويّة في حيّز التبادل العامّ والمشترك ينبغي أن تُعطى لعيش الجماعات وتعايشها، وليس لنصرة المقدّس وإملاءاته. فالمقدّس يبقى في دور العبادة وفي البيوت، أمّا إخراجه إلى الفضاء المشترك، حيث تتضارب المقدّسات وتتناقض، فهو أقصر الطرق إلى الاحتراب الأهليّ.
رابعاً- الانتقال من فكرة أنّنا أوطان ناجزة إلى فكرة أنّنا أوطان محتملة قد تنجح في الصيرورة والتشكّل وقد تخفق. ويوازي مهمّة كهذه إحداث انتقال من أشكال الوعي الإيديولوجيّ، الذي غالباً ما يغطّي الانقسامات الفعليّة ويموّهها، إلى أشكال الوعي السوسيولوجيّ الذي يسمّي ويعيّن فيزيح التمويه لصالح المعرفة.
خامساً- توسيع ثقافة رفض العنف الذي باتت تمجده مدائح الشهادة والبطولات، أكانت في التاريخ القديم أو في التاريخ الحديث والمعيش. وهذا الرفض هو ما ينبغي أن تتولاّه منابر ومؤسّسات يندرج في عدادها الكتاب والمنهج المدرسيّان وخطب وعظات المراكز الدينيّة والمادّة الإعلاميّة التي يبثّها التلفزيون والراديو… الخ.
لكنْ أليس ما ينطبق على مفهوم التسامح، لجهة بقائنا في ما قبله، هو نفسه ما ينطبق على المفاهيم الحديثة الأخرى التي استوردناها من الغرب وألصقناها بمسارات تاريخيّة بالغة الاختلاف. فلنفكّر، مثلاً، بالديمقراطيّة في العراق أو في لبنان، ولنكتشف باليقين وبالملموس كم أنّنا نعيش ما قبل هذا المفهوم، أو بالأحرى ما تحته. ذاك أن الـ “قَبل” يفترض أن يكون هناك “بَعد”، ونحن قد لا يكون لنا ذلك!
إنّ المشكلة، في آخر المطاف، أكان في ما خصّ التسامح أو الديمقراطيّة أو سواهما، تتّصل بعلاقتنا بالغرب الذي هو مصدر هذه المفاهيم. وما لم ننجح في التغلّب على هذه العقدة سنبقى نتحدّث بشكل إنشائيّ ووعظيّ عن تلك المفاهيم فيما نبقى تحتها عمليّاً.