ضيفت مؤسسة الحوار الانساني بلندن الروائي والصحفي العراقي الاستاذ زهير الجزائري يوم الاربعاء 29 كانون الثاني/يناير 2020 في أمسية ثقافية تحدث فيها عن انتفاضة تشرين على ضوء مشاركته ومراقبته ومعايشته لساحات الاحتجاج.
الاستاذ زهير الجزائري روائي وصحافي عراقي. ولد في مدينة النجف واكمل دراسته الثانوية فيها ثم درس الأدب الألماني في جامعة بغداد واللغة الإنكليزية في جامعة كامبردج ـ لندن ، عمل في العديد من المؤسسات الصحفية في العراق والعالم العربي واوربا. أصدر العديد من من الكتب في حقول مختلفة منها الرواية والدراسة والتحقيق الصحفي، من كتبه؛ المستبد.. صناعة قائد صناعة شعب، فاشية عادية، أوراق جبلية، أوراق شاهد حرب، حرب العاجز .. سيرة عائد .. سيرة بلد، النجف .. الذاكرة والمدينة، أنا وهم . وروايات الخائف والمخيف وحافة القيامة، ومدن فاضلة، باب الفرج، وراء الرئيس الهارب .
المقدمة
بدأت هــذه التظاهرات الشبابية في ساعاتها الأولى بشكل محدود، حتى قلَّل من قيمتها وخطورتها الجميع لكنها تمكنت خلال أيام من فرض نفسها بقوة وتحولت من حجر صغير إلى صخرة تهدد النظام السياسي برمته.
وفــي غيــاب الظــروف القانونية والإنسانية وتسلُّط الأحزاب الهجينة وفاعليها المسلحين، قُمعت التظاهرات بطريقة بالغة العنف بالرصاص الحي والقنص المتعمد. ومنذ البداية، اعتبرت الحكومة العراقية هذه التظاهرات غير قانونية، لأنها “غير مرخصة” وبالتالي منحت الحكومة نفسها حق قمعها من قبل قوات مكافحة الشغب والفصائل المسلحة التابعة للأحزاب الحاكمة التي اجتهدت بمواجهتها بكافة الوسائل العنيفة.
وأشار الاستاذ زهير الجزائري في حديثه عن الانتفاضة الى العوامل التي ادت الى اندلاع الانتفاضة متسائلا؛ما الذي أشعل الانتفاضة؟ وأجاب، هنالك عدد من العوامل مثلت مقدمات لاندلاع الانتفاضة يمكن ان نؤشر على اهمها وهي:
- تصفية البسطات:
أدت قرارات الحكومة القاضية برفع التجاوزات وتصفية البسطات والاكشاك والعربات من شوارع بغداد الى حالة من الاحتقان، اذ باشرت بلديات محافظة بغداد وبعض المحافظات حملتها في شهر ايلول/سبتمبر 2019، وقد أدى هذا القرار الى تهديد الالاف من الشباب من اصحاب الاعمال الصغيرة، وقد نظم العشرات من أصحاب “البسطات”، تظاهرات احتجاجيةً على ازالة بسطاتهم في منطقة الكرادة في بغداد.وحمل المتظاهرون لافتات كتب عليها “قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق”، مطالبين “الحكومة العراقية بإلغاء طلب إزالة البسطات والنظر إلى أصحاب العوائل المتضررة”.وكان مصدر امني أفاد بأن “كوادر أمانة بغداد باشرت بحملة لإزالة التجاوزات والبسطات والعشوائيات من منطقة الكرادة وسط العاصمة”.
وسبق لأهالي الكرادة وعدد من مناطق بغداد أن خرجوا في عدة مظاهرات احتجاجية إثر إزالة “البسطات والأكشاك” من الشوارع وتدمير بعض واجهات المحال التجارية من قبل أمانة بغداد، ما أثار موجة غضب عارمة لأهالي العاصمة بغداد وبعض المحافظات التي شهدت اجراءات مماثلة.
- هدم العشوائيات:
أثارت حملة إزالة التجاوزات جدلاً بين من يرون أن على الدولة محاسبة كبار المتجاوزين والفاسدين من الساسة وتوفير البدائل المناسبة لسكان العشوائيات، ومن يدعمون حملات الإزالة ويعتقدونها ضرورية وتساهم في تطبيق القانون وفرض سلطة الدولة. وكانت وزارة التخطيط قد أعلنت في مارس (آذار) 2019، عن إحصائيات وصفت بالصادمة لأعداد المجمعات العشوائية في عموم المدن العراقية وعدد الساكنين فيها، إذ احتلت بغداد الصدارة.وذكرت الوزارة أن “عدد المجمعات العشوائية في عموم المدن العراقية يبلغ 3700 مجمع عشوائي، وأن بغداد جاءت في صدارة المدن بواقع 1002 منطقة عشوائية تليها محافظة البصرة ونينوى بـ700 عشوائية”. ولفتت إلى أن «محافظتي كربلاء والنجف أقل المحافظات بواقع 98 منطقة عشوائية، وأن عدد الوحدات السكنية في جميع المجمعات العشوائية يصل إلى 522 ألف وحدة سكنية، يقطنها اكثر من 3,292 مليون مواطن”، يمثلون نسبة 13% من مجموع سكان العراق، يسكنون هذه العشوائيات موزعين على وحدات سكنية انتشرت على اراضي تعود ملكية 88% منها للدولة والمتبقي للقطاع الخاص”. هذا الامر تسبب في توتر اجتماعي كبير قبيل انطلاق الانتفاضة.
- قمع مظاهرة حملة الشهادات العليا:
ومن بين اسباب اندلاع انتفاضة تشرين الأعمال التعسفية التي مورست بحق المتظاهرين من حملة الشهادات العليا والأكاديميين في بغداد الذين تجمعوا أمام مكتب رئاسة الوزراء مطالبين بإنصافهم وإيجاد وظائف حكومية أو توفير فرص عمل لهم داخل مؤسسات الدولة تتناسب وتخصصاتهم، وهم العاطلون عن العمل رغم إكمالهم للدراسات العليا والتخصص في مجالات عدة. ومما يؤسف له ان السلطات الأمنية قامت بقمع التظاهرات بإستخدام خراطيم المياه الحارة ضد المتظاهرين من النساء والرجال على الرغم من سلمية التظاهرة وألتزام المتظاهرين بإسلوب التظاهر السلمي بما يتناسب ومؤهلاتهم العليا وأختصاصاتهم. علما ان الاحصاءات العراقية الرسمية تشير الى إن نسبة البطالة سجلت 13.8% ، بينما ترتفع نسبة البطالة بين الشباب لتصل الى 19%.
- تحجيم دور عبد الوهاب الساعدي:
أثار القرار غير المسبوق لرئيس الحكومة العراقية عادل عبد المهدي، باستبعاد قائد قوات مكافحة الإرهاب الفريق عبد الوهاب الساعدي الذي اضطلع بأدوار بطولية وشجاعة متميزة في المعارك ضد تنظيم داعش الإرهابي، من منصبه ونقله إلى وزارة الدفاع، إذ أثار هذا الامر غضباً شديداً في شوارع البلاد ، كما أثار علامات استفهام تجاه قرارات الحكومة.لذلك رفعت صور الساعدي كأحد رموز الانتفاضة في الايام الاولى لاندلاعها باعتباره احد القادة العسكريين الذين يمكن الاعتماد عليهم في ازاحة الطبقة السياسية الفاسدة في العراق.
موجات التظاهر السابقة
إن التكرار المكثــف للتظاهرات الاحتجاجيــة فــي العراق يجعلهــا سلوكًا مجتمعيًّا عفويًّا، فهــي تنطلــق فــي الأغلــب برفــع مطالــب تخص الخدمات والامن وفرص العمل، وتبدأ عادة بجمــوع صغيــرة سلمية تتنادى عبر مجموعات التواصل الاجتماعي كالفيسبوك، ثــم ســرعان مــا تتســع، إذا ســمحت الظــروف والســياقات الأمنية والبيئة القانونية بذلــك، فتتخــذ أشــكالًا جديــدة تســير بالتظاهرات الاحتجاجيــة فــي اتجــاه تصاعــدي (ظلم، احتقان شعبي، تظاهرات سلمية، تظاهرات احتجاجية غاضبة، وصــولًا إلى انتفاضــة، أو مواجهات داميــة، ثم تنتهي بالتغيير..). لكن بعد عام 2003 لم تكتمل دورة التظاهرات العراقية كونها لم تصل إلى مرحلة تغيير النظام السياسي أو إلى مستوى الثــورات التي تســتهدف رأس النظــام.
أعمار المتظاهرين
تميزت الفترة بين عامي 2011-2019، بظهــور جيل شبابي أكثــر وطنية وعقلانيــة في فهم وسائل الديمقراطية، خرج بنحو 200 تظاهرة في كافة محافظات العراق خلال هذه الفترة . وقد بحث الشباب عــن أشكال تظاهرات جديــدة للتعبير عن مطالبه، لــم تكــن مستعملة مــن قبــل؛ إذ لــم تعــد الفواعل التقليــدية، الحزبية والدينية والقومية، قادرة على أن تمثل لهم خيمة إصلاحية لعلاج الفساد والانحراف الذي تمارسه الأحزاب الحاكمة، وإنمــا راهنوا على الفاعــل الشبابي غير المتحزب والمعطَّل عــن العمــل، مســتعملين أســاليب مختلفــة تتمثــل بالتظاهــرات العفوية الشبابية، عــلاوة علــى الاعتصامات الخاصة بالخريجين والمفسوخة عقودهم، والمســيرات والوقفــات الاحتجاجية.وتشير احصاءات تم تنفيذها مؤخرا على عينة عشوائة من 600 متظاهر لغرض دراسة الانتفاضة من قبل احد مراكز الدراسات في بغداد الى ان الشريحة العمرية ٤٠سنة فما دون كانت نسبتها في الانتفاضة ٧٦٪، وشريحة ٤١سنة فما فوق كانت نسبتها ٢٤٪، اما مؤشرات التحصيل الدراسي في عينة البحث فكانت نتائجها:
إعدادية فما دون ٦١٪
دبلوم فما فوق٣٩٪
وفيما يخص العمل ، ابرزت الدراسة النتائج الاتية :
عاطلون عن العمل بنسبة ٤٩٪
عاملون في القطاع الخاص بنسبة ٢٨٪
عاماون في القطاع العام بنسبة ٢٢٪
حرب الرموز
كان أختيار ساحة التحرير وما يمثله الوقوف تحت نصب الحرية لجواد سليم تعبيرا رمزيا مهما من حيث الساحة التي مثلت الساحة المركزية للانتفاضة بالاضافة لرمزية النصب الموجود فيها، وكان للجسور مكانا رمزيا للمواجهة ، فقد كانت هنالك جسور غير مرئية بين المتظاهرين وغير المتظاهرين والجالسين في بيوتهم بعيدا عن ساحة التحرير. جسر من التعاطف والعجز عن المشاركة . كما تحولت بعض الموجودات الى رموز وايقونات مثل بناية المطعم التركي ذات الاهمية الاستراتيجية من ناحية ارتفاعها واطلالتها على كامل المنطقة، والتي احتلها المتظاهرون وباتت تعرف بجبل احد او قلعة الاحرار، كما كان لعربات التكتك دورا رمزيا اذ تحولت هذه العربات الصغيرة وسواقيها من الطبقات المسحوقة والمهمشة الى احد اهم ايقونات الانتفاضة العراقية
ومن الرموز او الايقونات التي برزت في الانتفاضة العراقية يمكن ملاحظة إيقونة الشهيد صفاء السراي المعروف بأسم ” إبن ثنوة ” الذي استشهد في ساحة التحرير وتحولت صورته الى أحد اهم ايقونات الحراك الشعبي . كذلك تم استخدام رموزا تاريخية تم اسقاطها على الحاضر مثل؛ تمثال أشوري يرتدي قناع الغاز ، كذلك وضع اقنعة الغاز على تمثالي معروف الرصاقي وعبد المحسن السعدون، كما استخدم العلم العراقي كلامز للانتفاضة بعد ان انتزع من القوات الحكومية ليصبح العلامة المميزة للمتظاهرين ،وهو العلم الوحيد في الساحة، وقد منع رفع اي علم آخر، فبات العلم العراقي رمزا موحدا للمنتفضين يلبسونه عباءة يتغطون به يصلون عليه، بينما خصومهم يرفعون إعلاما أخرى .
القوى التي مثَّلت المحرك الرئيسي للتظاهرات
في استطلاع أجراه معهد دراسات في بغداد عن غير المشاركين كشف فيه المبحوثون تأييداً واسعاً وكبيراً للاحتجاجات الجارية ، إذ بلغت نسبة المؤيدين لها نحو (96%) من مجموع وحدات العينة. فيما عارضها نحو (4%) فقط. كما أظهر المؤيدين لها تراتب للأهمية مرتبط بعوامل التأييد جاء على النحو الآتي:
حلَّ أولاً تأييد المبحوثين لمطالبها وبنسبة (69%) من مجموع المؤيدين للاحتجاجات، تبعهم ممن يؤيدونها كونها وسيلة حضارية للتعبير عن الرأي وبنسبة (14%)، فيما جاء ثالثاً المؤيدون لها كونها خالية من القيادات والزعامات وبنسبة (13%)، تبعهم المؤيدون لشعاراتها وبنسبة (3%)، فيما ورد أخيراً المؤيدون لها بسبب ممارساتها وأساليبها وبنسبة (1%) فقط. أي إن غالبية المؤيدون للتظاهرات توافقوا مع مطالبها وليس أساليبها وممارساتها.
وعلــى الرغــم مــن اتحاد الهوية المذهبية والقومية لغالب المتظاهرين (العرب الشيعة)، فــإن أحــداث الاحتجــاجات السابقة كانت تغلب عليها اتحاد الهوية والمناطقية عدا العاصمة بغداد، تعكــس الواقــع نفســه. ولربمــا كان القاســم المشــترك بينهــا، بحســب المراقب العراقي، هــو اســتبطان المحتجيــن السنَّة والكرد خوفــًا كبيــرًا أمــام احتمالية اتهامهم بالإرهاب أو محاولة الانفصال، فــي ظــل تحــولات دوليــة تفــرض علــى العراق ســياقاته وأحيانًا قراراته. وبالعــودة إلى التطــور التاريخــي للاحتجــاج بالعراق، منــذ 2003 إلى مــا قبــل مولــد التظاهرات الأخيرة، نجــد أن الشعار المركزي كان في البداية (نازل اخذ حقي ) ثم تحول بعد ذلك الى شعار جامع مانع هو (نريد وطن) وهو شعار يوجز كل مطالب التظاهرات الشبابية العفوية التي تتــوزع بيــن: (الكرامة، والعمل، والســكن، والصحة، والكهرباء، وخدمات البلدية، والتعليم، والنقل العام، والطــرق، والأمن، والقضاء) .
القوى الفاعلة في المظاهرات
ويمكن توزيع القوى الفاعلة في انتفاضة تشرين إلى:
- أغلبية من الفئات الكادحة والفقيرة تتكون من العاطلين والمهمشين اجتماعيًّا.
- أغلبية شبابية تمتاز بالحماس الثوري والفاعلية الجماهيرية والقدرة عـلى الاسـتفادة مـن وسـائل التواصل الاجتماعي؛ حيث يشكِّلون مع الفئة الأولى 90% من عديد المحتجين .
- فئات أخرى يغلب عليها النزعة الدينية الشكلية السلوكية غير مسيسة أو مؤدلجة.
- جماعات صغيرة تنتمي إلى أحزاب شيعية إسلامية معارضة (تيار الحكمة وكتلة النصر والصدريين) ربما خرجت بشكل فردي غير ممنهج وبدون توجيه حزبي بغية تحقيق مصالح شخصية .
- مجموعات صغيرة تنتمي لأحزاب تقليدية، منها اليساري والليبرالي والقومي، ترى انسجام شعاراتها مع عفوية الحراك الشبابي المناهضة لسياسات المحاصصة وانعدام العدالة الاجتماعية في تقسيم الثروة والسلطة من قبل الأحزاب المساندة للحكومة.
ويمكننا ان نجمل أبرز ملامح انتفاضة تشرين بما يلي:
- طابع التظاهرات الشبابية العفوية غير المنظمة، والشعارات المتكررة التي تنتقد الأحزاب الحاكمة والإسلام السياسي. ويصعــب أن نتجاهل أن التظاهرات تبقــى فــي الأصــل ممارســة مشــاغبة وعفويــة انطلقت مــن سرية النقد والاحتقان والتأليب إلى معارضة علنية.
- المقاربة الحكومية لتحجيم التظاهرات وعرقلة توسعها واستمرارها، باستخدام العنف الذي تسبب بمقتل المئات من المتظاهرين الذين قُتلوا برصاص القنص وقنابل الدخان التي وجهت للروؤس والصدور العارية، وجرح الالاف من شباب الانتفاضة وبعض الاصابات أدت الى حصول حالات إعاقة دائمة لدى المصابين، بالاضافة الى الاف المعتقلين والمختطفين، وتعرض المئات منهم لدرجات متفاوتة من الضرب والإهانة. وقد استخدمت القوات الأمنية المختلفة، الهراوات والعصي والمياه الحارة والغازات المسيلة للدموع، فضلًا عن الرصاص الحي في التصدي للمتظاهرين، كما تعرضت مؤسسات إعلامية للاعتداء وتدمير معداتها، . كما جرى إعلان حظر التجوال ليومي الثاني والثالث من أكتوبر/تشرين الأول 2019، وقطع خدمة الإنترنت، والاعتداء على كوادر وزارة الصحة في مستشفى الجملة العصبية التي كانت من بين أبرز من استقبل الجرحى في بغداد.
- تأكــدت ســلمية التظاهرات بفعــل نوعيــة الفئــات التــي انخرطــت أكثــر فــي التظاهرات والتي ترفض بشكل قطعي ممارســة العنــف كردَّة فعل على قمع القوات الأمنية في هــذا الشــكل مــن الممارســة الاحتجاجيــة؛ إذ ضــمَّت المظاهرات فئات متعددة منهم خريجــو معاهــد وجامعــات وحملة شهادات عليا جمعهــم مطلــب الوظيفة والعمل. نظرًا إلى مســتواهم التعليمــي، ترســخ لديهــم شــعور بضرورة سلمية تظاهراتهم، وبقانونية تظاهراتهم رغم عدم حصولهم على تصريح حكومي من وزارة الداخلية .
- يلاحَظ فــي أحــد التقارير المسربة عن الأمن العراقي أن التظاهرات الاحتجاجيــة التــي شــهدتها العاصمة بغداد ومــدن وسط وجنوب العراق، انها تعود بالأســاس لأسباب اقتصادية، التــي تعكــس هشاشــة وضــع عشوائيات الإسكان والأسواق غير النظامية المفترشة على الأرض (البسطيات) وعدم ترخيص عجلات (التوكتوك) والتحديــات التي تواجه القطاع الخاص وارتفاع نسب البطالة والفقر وانحدار خدمات الصحة والتعليم والنقل والبلدية.
- فشلت الحكومة في إرهاب التظاهرات في بغداد وذي قار والنجف والديوانية وبابل والسماوة بالعنف المفرط والقوة المميتة في الأيام الثلاثة الأولى، رغم استخدام جميع الطرق الرديئة مــن طــرف رجــال الأمــن أو مكافحة الشغب أو قــوات الجيش العراقي وفصائل ولائية في الحشد الشعبي، وكذلك فشلت مبادرة المرجعية في النجف ومعها مبادرات الرئاسات الثلاثة في احتوائها بشــكل تكتيكــي مثلما حدث في تظاهرات صيف 2015-2016، بتبنــي مســلك التفــاوض والحــوار والاســتجابة الجزئيــة لبعــض المطالــب، أو مظاهرات صيف 2018 في البصرة وجنوب العراق باستخدام القوة.
- لم يشترك في هذه التظاهرات رجال الدين والمشاهير وأعيان المعارضين من المثقفين والأكاديميين والفنانين والإعلاميين الذين كانت لهم مشاركة في جميع التظاهرات السابقة، واكتفوا بالتأييد الخطابي والإسناد المعنوي، والتزام الحياد والتحفظ، عدا دعوات متتابعة انطلقت من قبل السيد مقتدى الصدر وكل من رئيس الوزراء السابق، حيدر العبادي، ورئيس البرلمان الأسبق، أسامة النجيفي، تطالب باستقالة الحكومة وانتخابات مبكرة بإشراف أممي.
- شباب الانتفاضة تتراوح أعمارهم بين 16-28 سنة يشكِّلون مجموعات صغيرة في أحيائهم، ثم يخرجون إلى الطريـق العام لإقامة حـواجز ويحرقون الإطارات المسـتعملة، ثـم تنشـب المواجهات مع مختلف الأجهزة الأمنية، ولم يقم المتظاهرون بتحطـيم المحلات التجارية والمؤسسات الرسمية القريبـة مـن تجمعـاتهم ولم يحـاولوا اقتحامهـا أو سرقتها وهذا الكلام ينطبق على كل التظاهرات بعد عام 2011.
- ما ميز التظاهرات الأخيرة في العراق، هـو أنها تبلغ ذروتها لـيلًا على خلاف العـادة التي جرت عليها جميع التظاهرات قبل تظاهرات 2018 في البصرة، ليتفـادى المتظـاهرون كــاميرات المراقبــة المنــتشرة في الشــوارع والتــي أضــحت الأهــداف الأولى لهــذه التظاهرات الاحتجاجية .
- كما تميزت هذه التظاهرات الاحتجاجية أيضًا بأماكن احتجاجية لها رمزيتها كساحة التحرير في بغداد، كذلك ساحات الاعتصام التي لها ميزات محـددة ذات طابع سياسي أو اجتماعي أو ديني في باقي المحافظات، وهو ما تلقفه الخطاب الإعلامي الأمني والحكومي محاولًا أن ينفي عنها السلمية، ويحصرها في تظاهرات لصناعة الفوضى وتحدي قانون الدولة .
مطالب وشعارات المتظاهرين
ارتبطت أغلــب شعارات التظاهــرات بالأوضــاع الاقتصاديــة ومكافحة الفساد، وحرمان الشباب من حقهــم في الثروة الوطنية بصــورة متســاوية.
خــرج الشباب إلى الشــوارع مطالبــين بإصــلاح النظــام الاقتصادي ومكافحة الفساد، غــير أن اســتجابة الحكومــة كانــت محــدودة، واســتمرت التظاهرات 6 أيام دامية قبل أن تطلق الرئاسات الثلاث وعــودًا اصلاحية بحــل تلــك المشــكلات في فترة بين أسبوع إلى شهرين، كان الشعار الأساسي للتظاهرات “نازل آخذ حقي”، قد أوضح الطابع الاقتصادي والاجتماعي لأهدافها، وكانت مجمل الشعارات تدور حول إدانة فســاد الطبقــة السياســية (الحكومــة والمعارضــة) ومــا يتعرض لــه المواطنون مــن الظلــم، وتراجــع الشــعور العــام بالأمــن وتراجــع قــدرة الدولــة عــلى توفــير الحمايــة الكافيــة للمواطنــين وانفــلات السلاح السائب وتحكم الفصائل المسلحة والعشائر والإفــلات مــن المحاسبة القضائية.
وشملت الاحتجاجات قرار الحكومة بإزالة العشوائيات وهدم البيوت والأسواق غير النظامية أو المرخصة بدون توفير بدائل مناسبة وكريمة. ومع تراكم حالات القمع بات المتظاهــرون يطالبون بكشف الحكومة عن أسباب اللجوء إلى هذا المستوى الحاد من القمع، والجهات التي تقوم بإطلاق الرصاص الحي وكذلك هويات وخلفيات (القناصين المجهولين) الذين تحدثت عنهم السلطات الأمنية واعترفت بالفشل في القبض على أي منهم، أو أصحاب البدلات السوداء الملثَّمين الذي شاركوا بمواجهة المتظاهرين واتُّهموا من قبل المتظاهرين بأنهم كانوا الأشد قسوة وارتكبوا العديد من عمليات القتل.
وإلى جانب كل هذه الفئات، تظاهرت مجموعة من صغار السن دون سن 18 سنة بدفع من عوائلهم احتجاجًا على تدهور الأوضاع الاقتصادية وبســبب ارتفــاع معــدلات التضخــم وضعف القدرة الشرائية، وارتفاع مســتوى الجريمــة والأمــن.
في هذا الوقت، عانت حكومة عادل عبد المهدي شبه مقاطعة سياسية من تحالف الإصلاحيين، وهذه العزلة أخذت بالتعمق، وهناك توتر وشبه انقطاع مع سُنَّة تحالف الإصلاح، وجميع هذه العلاقات معلقة بخيط رفيع، فالوضع في العراق غير مستقر، والنظام السياسي العراقي – حسب رئيس الجمهورية برهم صالح- يواجه وضعًا صعبًا لم يشهده من قبل، فتفاهمات عادل عبد المهدي مع كل من زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، وزعيم تيار الفتح، هادي العامري، التي شكَّل بموجبها حكومته تستند لهذا التوافق من دون أية كتلة برلمانية مساندة، وهي كانت إجراء تكتيكيًّا وهشًّا جدًّا لتشكيل الحكومة، ولذلك فحكومة عبد المهدي أصلًا تقوم على أساس هش من التحالفات، وقد وصف رئيس البرلمان، محمد الحلبوسي، ابتعاد الحكومة عن الاستجابة السريعة لمطالب المتظاهرين بالـ”نكسة”.
ويعود القلق من عدم الاستجابة لمطالب المتظاهرين إلى اعتقاد سائد وسط الناس، ومنهم المتظاهرون، بأن الحكومات السابقة لم تف بوعودها خلال كل الحركات الاحتجاجية السابقة، وأن هذه الوعود والقرارات هي من أجل امتصاص الغضب والتهدئة وإيقاف الاحتجاجات.
جميع التقارير الصادرة من المنظمات الأممية والدولية والمحلية المدنية والمفوضيات المستقلة توصي باستئناف الإصلاحات العاجلة والتغيير الحكومي الكلي أو الجزئي وإطلاق سراح جميع المعتقلين والاعتذار عن القمع الأمني ومحاكمة من أصدر أوامر القتل للمتظاهرين، لتخفيض التوتر في بغداد والنجف وذي قار، وجاء في هذه التقارير أن موجة التظاهرات في بغداد كفيلة بتهديد النظام السياسي، ولكن فيها من الفرص الإصلاحية التي يمكن للرئاسات الثلاث استغلالها لتحسين مكانتها السياسية، وفي جميع هذه التقارير هناك توصية واسعة للعمل من أجل التحاور السلمي مع المتظاهرين.
إن المحتوى الذي قدمته القنوات الإعلامية العراقية ذات التوجه الليبرالي العراقي، ومنصاتها الإلكترونية على شبكة الإنترنت حـول التظـاهرات، يتميـز بتوحد رسالته وتنوع الدعم، وإن هذا المضمون يتوافق مع رسائل المتظاهرين الراغبين بإيصالها للنظام السياسي، وإن النشر في الإعلام الليبرالي العراقي حـول التظـاهرات كان محفزًا شعبيًّا لتوسيع رقعة التظاهرات مع مراعاة الواقع، وهي تمتاز بأنها ذات محتوى حماسي تفاعلي.
إن الفضائيات الليبرالية العراقية شكلت جزءً من الإسناد المعارض بما تضمنته من محتويات إعلامية موضوعية وحقيقية متنوعة عن القمع الذي تعرض له المتظاهرون، كما أن المواقع الصحفية والإلكترونية الليبرالية في مقدمة المصادر الإعلامية التي يثق المتظاهرون والشارع العراقي في معلوماتها.
إن المحتوى المنشور في الفضائيات الليبرالية العراقية حول التظاهرات امتاز بأنه على درجة عالية من الوضوح وكذلك سهولة ووضوح الرسالة الإعلامية الخاصة بتغطيـة التظـاهرات في الفضـائيات الليبرالية، وأن كثافة التغطية يتناسب مع الحدث في البرامج اليومية في الفضائيات الليبرالية حـول التظـاهرات .
ويظل مستقبل التظاهرات الاحتجاجية بالعراق مرتبطًا بمدى تطبيق مقتضيات الدستور والعدالة الاجتماعية في توزيع الثروة والعدالة الانتقالية عـلى وجـه صحيح؛ ووجـود إرادة حقيقيــة مــن الدولــة إزاء مكافحــة الفســاد واقتصــاد الريــع؛ ودعــم اســتقلالية القضــاء وتجــاوز تحكم الفصائل المسلحة وتدخل القانوني العشائري في جوانبها المرتبطة بالعمل والقانون والأمن والتعليم والصحة والسكن.