لندن / عدنان حسين أحمد
نظّمت مؤسسة الحوار الإنساني بلندن أمسية ثقافية للروائية والفنانة التشكيلية العراقية- البريطانية أمل بورتر. وقد ساهم كاتب هذه السطور بتقديم دراسة نقدية عن روايتها الموسومة “دعبول”، كما أدار الحوار بين جمهور “مؤسسة الحوار” وبين الروائية بورتر التي تجشّمت عناء السفر الطويل من مدينة نيوكاسل إلى لندن بهدف اللقاء بجمهورها العراقي المتلهف لما تدبِّجه هذه الكاتبة المبدعة التي تتداخل فيها شخصية الروائية بالفنانة التشكيلية وبالناقدة الأدبية أيضا. استهلت بورتر حديثها بالقول: “أعتقد أن “دعبولاً” هو اسم مشهور في بغداد وتُروى عنه الكثير من القصص والحوادث الطريفة، ولكنني استغللته “أبشع” وأجمل استغلال!” والسبب في ذلك أنها لا تعرفه جيداً، ومن غير الممكن أن يقوم الكاتب بنوع من “البحث” في العراق لأن العراقيين لا يوثِّقون مع الأسف الشديد. فلقد سمعت بورتر عن دعبول قصصاً شفوية لا غير، لأنه لا يوجد شيئ موّثق، وكل ما كتبته الروائية هو محض خيال لا غير، وهي تعتقد أن “دعبولاً” سيفرح بهذه الرواية لو كان حيّاً. ذكرت بورتر بأن رواية “دعبول” ولدت في مسقط، بل على شواطئ مطرح تحديداً، هذه المنطقة القديمة التي لا تزال تحتفظ بجمالها الآسر. كانت بورتر في تلك الفترة تعيش حالة المنفى، وكانت تحِّن إلى بلدها العراق، وتسترجع ذكرياته القريبة إلى نفسها وذهنها، وقد أعادتها مطرح بشكل من الأشكال إلى العراق، أما مسقط، المدينة الحديثة فلم تفعل ذلك في روح بورتر لأنها تحب الأمكنة القديمة، وتمحض الأشياء القديمة والمعتقة حُباً من نوع خاص. كانت بورتر تجلس أمام البحر كثيراً وتضيع بين أمواجه، وقد خططت للرواية وكتبتها في ذهنها قبل أن تكتبها على الورق. فبورتر، كما ذكرنا قبل قليل، هي فنانة تشكيلية، وناقدة أدبية وفنية ذات رؤية حادة قادرة على تلمّس الثيمات والغوص في أعماقها. من هنا فإن رواية “دعبول” قد أخذت شكل لوحات تشكيلية متلاحقة تتسيد فيها الحواس الخمس. ذكرت بورتر بأنها كانت تشعر بالوحدة في عُمان، وأنها كانت ترى في مسقط مدينة منعزلة بعض الشيئ، خصوصاً وأنها تفتقر إلى بعض الأنشطة الأدبية والفنية التي يمكن أن يساهم فيها الكاتب أو الفنان التشكيلي، كما أنها كانت تعاني من الإحساس بالمنفى لأنها لم تستطع أن تندمج بالمجتمع العُماني وتتفاعل معه لذلك استثمرت هذا الفراغ الكبير وكتبت في ذهنها رواية “دعبول”، هذه الرواية التي انبنت حوادثها وحواراتها في مخيلة الكاتبة مثل لوحة تشكيلية، ثم تحوّلت لاحقاً إلى فلم سينمائي. فالشخصيات بدأت تتحرك وتتحدث وتعيش حياتها الخاصة. والغريب أن بورتر كانت تشعر بأن هذه الشخصيات التي خلقتها بدأت تتحداها وتجابهها وتريد أن تظهر بشكل مختلف. وقد نجحت بورتر في كتابة رواية مختلفة فعلاً ولا تدور في الفلك السائد من الناحية الفكرية وجرأة بعض الشخصيات التي بدّلت حتى مذهبها مثل “علي”، الشخصية الغامضة التي لم نعرف عنها الكثير. استعانت بورتر بهمنغواي الذي يقول:” ليس هناك أية مشكلة إذا أردت أن تصبح كاتباً. اذهب وأجلس أمام الآلة الطابعة وأنزف دماً!” وهذا هو فعلاً ما كانت تشعر به بورتر، فالكتابة الرصينة هي نزيف متواصل، وهيمنة على الذات المبدعة المنقطعة للعمل الأدبي. نوّهت بورتر بأن ساعات عملها القليلة في الجامعة بمسقط قد وفّرت لها فراغاً قاتلاً استثمرته في كتابة نص “دعبول” الذي أعادت قراءته غير مرة، لكنها لم تصحح فيه أي شيئ. توقفت بورتر عند بعض محاور الرواية التي احتفت بشخصيتين سوريتين وهما بدري وزوجته سُكينة اللذين أضفيا على النص نكهة خاصة وأثريا أبعاده الفنية والفكرية، خصوصاً وأن بدري سوف يُبعَد من العراق بوصفه حاملاً “للأفكار الهدّامة”! لقد تعرّفت على بدري معرفة سطحية، فهو شاعر وإنسان هادئ أعطته مخطوطة الرواية كي تستأنس برأيه، لكنه عاد في اليوم الثاني معبِّراً عن إعجابه الشديد بالرواية وغير مصدِّق بأن هذا النص هو روايتها الأولى، فالنص مكتمل ولا غبار على نَفَسه الإبداعي الواضح. تعلل بورتر هذه المحاولة بالشوق أو الشجن أو الحنين إلى العراق، هذا البلد الذي تفتقده كثيراً وتعيد صياغته من خلال هذه الشخصيات البغدادية التي تتحدث معها حتى هذه اللحظة. لقد خلقت بورتر هذه الأجواء البغدادية التي كانت تسمع عنها من والدتها ومن جديها ومن الجيران، فهي لم تجد هذه الأجواء الحميمة، والعلاقات الاجتماعية المتواشجة في كتاب، وإنما تخيلتها وبثتها في الرواية التي كانت تنمو نمواً عضوياً زاوجت فيه الزمان بالمكان. نوّهت بورتر بأنها استعارت شخصية “سليمة” من الروائي غائب طعمة فرمان وحاولت أن تزوِّجها من دعبول، لكن محاولتها فشلت وظل دعبول أسير أحلامه الوردية بلقاءات متخيلة لم تتجسّد على أرض الواقع. تخلص بورتر إلى القول بأن دعبول هو شخصية حقيقية وخيالية في الوقت ذاته على الرغم من أن الأحداث كلها خيالية ومُبتَكرة. استشهدت بورتر بمقولة لأحد الكتّاب من أميركا الجنوبية “لكنها لم تتذكر اسم الكاتب” الذي يقول بما معناه “الويل لي لو أنني فقط أكتب عن تجربتي الخاصة أو عن الأشياء التي أعرفها، فالمفروض أن أكتب عن الأشياء التي لا أعرفها وأبني عليها نصي الأدبي”. إن ما فعلته بورتر حينما كتبت عن شيئ لا تعرفه، وبنت عليه شخصية دعبول، هذا الاسم الذي تحيط به هالة كبيرة ناجمة عن محبة الناس له. فبورتر لا تعرف أين وُلد دعبول؟ وأين مات؟ وماذا كان يفعل طوال حياته؟ لذلك خلقته وبثّت فيه الحياة مذ كان عمره خمس سنوات حتى بلغ مرحلة الشباب. انتقت بورتر ثلاثة مواقف هزّتها من الأعماق في روايتها “دعبول”، الأول حينما كانت سُكينة تعلّم دعبولاً القراءة والكتابة فقال لها بالمحكية العراقية “علوّاه”، أي بمعنى “ياليت” فأبكاها هذا الموقف لأنه وضعها في لحظة روحية قدسية متجلية، والموقف الثاني حينما كان علي ودعبول منتشيين جراء الخمرة وهما يحوِّران الأناشيد الوطنية فيشتمهما أحد المارة بكلمات بذيئة. أما الموقف الثالث والأخير فيتعلق بدعبول حينما كان عمره إحدى عشرة سنة وكان مختبئاً وراء شخصية أخته “بدرية” ويدخل مع “حفيظة” إلى الحمّام ويكتشف عريها الباذخ الذي يصدمه لمدة طويلة من الزمن. تعترف بورتر بأن دعبولاً هو الذي كان يهيمن على الكاتبة في هذه المواقف الثلاثة ويتحدث بدلاً من بورتر نفسها. لم ترد بورتر لأحد أن يشاركها في دعبول، لكنها شعرت أن دعبولاً نفسه يريد التحرر من الحبس والانطلاق إلى أيدي القرّاء فأرسلتها إلى ناشر عراقي كان مشتركاً في معرض للكتاب بمسقط الذي أُعجب بالرواية ونشرها لأنه كان يراها جميلة وغريبة وجديدة شكلاً ومضمونا، وهي تعزو هذه الغرابة والجدة في الأسلوب إلى قراءاتها الكثيرة للنصوص الإنكليزية في فترة بقائها مع والدها في نيوكاسل من جهة حيث الجو البريطاني الصرف الذي أثرّ على تفكيرها وطريقتها في الكتابة، وتعزو السبب الثاني إلى سينمائية النص الذي ترجعه إلى تأثيرات زوجها الراحل يوسف جرجيس حمد الذي كان مخرجاً تلفزيونياً غمرها بالثقافة البصرية في فترة نفيها داخل العراق إبان حقبة الحكم السابق حينما ضيقوا عليهما الخناق وأودعوا زوجها في السجن ثم أخلوا سبيله فظل حبيس البيت يعيد مع بورتر قراءة الكتب السينمائية والمسرحية والتشكيلية التي تحتشد بها مكتبة المنزل التي تحتوي قرابة ثلاثة آلاف كتاب، بل كانوا يمثِّلون بعضها كما هو الحال في مسرحية “جزيرة الماعز” للكاتب الإيطالي أوغو بتّي الأمر الذي أمدّها برصيد كبير في الكتابة خصوصاً وأن مدة النفي الداخلي قد استمرت منذ أواسط السبعينات حتى عام 1989. وعلى الرغم من ميل يوسف جرجيس إلى الأنشطة الفنية والثقافية والاجتماعية، فهو عضو جماعة المسرح الفني الحديث، إلى أنه التجأ إلى العزلة لكي ينأى بنفسه عن بعض الأصدقاء خشية أن يكتب أحدهم عليه تقريراً إلى الجهات الحزبية أو الأمنية لأنه هو وزوجته بورتر كانا معارضين للنظام الشمولي السابق. لقد شكلت هذه الأحداث خلفية لرواية دعبول التي أفادت من تجارب بورتر المتنوعة. أشارت بورتر إشارة عابرة إلى روايتيها الأخريين وهما “سوسن وعثمان” و “نوار” اللتين تؤرخان لبغداد وأناس بغداد وفيهما يتسيّد الزمان والمكان البغداديين أيضا. خلصت بورتر إلى القول بأن رواية “دعبول” هي رواية منفى، وأن دعبولاً هو شخصية بغدادية حميمة تعلّم العزف على العود، وأتقن أكثر من مهنة، وتعلّم القراءة والكتابة، لكنه ظل، مع الأسف الشديد، شخصية سلبية لم تحرّك ساكناً بشأن حبيبته سليمة التي كان يتمنى أن يتزوجها ويقترن بها مدى الحياة. وفي ختام الأمسية دار حوار عميق ومتشعب بين الروائية أمل بورتر وجمهور مؤسسة الحوار الإنساني نذكر منهم د. مهند الفلوجي، مهدي أبو جلود، سمير طبلة، خالد القشطيني، سلوى جرّاح، أمين شاتي، د. صباح جمال الدين، بدور الدده، سعد الشريفي، مصباح و د. إبراهيم الحيدري.