فيحاء السامرائي
على مدى أزمان وعصور، ضحّى كثيرون بحياتهم حباً وفداءً لأوطانهم، وحفاظاً عليها من أعداء وطامعين، وكتب مبدعو فكر وقلم، كثيراً عن ذلك الحب الفطري اللامشروط، وأزهرت حناجر مغنيات ومغنين برياض ألحان وأناشيد، جعلتنا نرتجف خشوعاً ووجداً، مرددين معهم (حب الوطن فرض عليّ، أفديه بروحي وعنيّ)…نحن، في الخصوص الذين أُخرجنا عنوة من أرضنا، وقضينا أكثر من نصف حياتنا في مناف وتغرب وأحلام نسجناها في دواخلنا كإحدى خلايانا، راحت تكبر وتنمو معنا، حتى غدونا باحثين مزمنين
عن عشبة الوطن، جلّ أملنا، عودة للمنتهى الذي (ما انتهى) كما وصفه شاعر مرموق كسعدي يوسف، واليوم يتنصل عن منتهاه ويستأصل خلايا تربطه بوطنه، معرباً عن عدم شعوره بعراقيته بعد الآن، وأنه لم يعد هناك من شيء يربطه بالعراق ما عدا ذكريات طفولة وصور.
لكل فرد معنى خاص يفسر به وطنه، أعمق بالتأكيد من خارطة وحدود، ومصطلح الوطن ربما يذكرنا بالولاء للجغرافيا، وبتقسيمات واتفاقيات دولية وحدود قومية وسايكس بيكو، فيحاول البعض إطلاق تسميات مثل البلد أو الموطن بدلا منه، الاّ أن ذلك لا يحول بيننا وبين تساؤلنا عما يجعل عراقيين وعرب من علماء ومفكرين وأدباء وفنانين، يقصّون أجنحة جذورهم، وينفرون من أصلهم، ويعتزون بجنسيات تمنحها لهم دول أجنبية…هل هو جحود وجنحة وجرأة وسقوط لأخلاق وأصالة، مما يتوجب على أقلامنا رداً على تمردهم وسقوط قيمهم؟ أم يجعلنا ذلك الأمر نفكر ونتناقش بهدوء وتروي؟… هناك من يقول أن سلطة فاسدة خلقتها ظروف مشوهة من احتلال واختلال، غير عن البلد، ويرد آخر بأن شعبنا تغير وغدا في حال لا تسرّ، وهو نفسه من انتخب هؤلاء القادة، فماذا يكون الوطن أن لم يكن شعباً؟ لكن ماذا عن بقاء الوطن وزوال الطغاة؟
هل نلوم شبابنا لو يراودهم حلم الهجرة واللجوء، ويقومون ببيع أنفسهم الى مهربين وتجار بشر مبتلين؟…وتروح قوارب المجهول تأخذهم الى مناف لم يسمعوا عنها والى شواطىء تغدر بهم، دافعهم ليس ترافة عيش، بل الإضطرار…ولو سألنا سليلي حربين وحصار واحتلال عن السبب، لا يعلقون على هكذا سؤال، ومن المحتمل أن يفكروا بسخف أو لامعقولية رؤية قاصرة لدينا، تنأى عن لسعة أرض جمر طالبين نجاة منها.
أمسى الوطن (حاوية لعظام الأجداد)…هكذا عرفته روائية مغتربة…يوصي بعضنا حين تحل نهايته بأن يدفن هناك كي تتمازج عظامه بذلك التراب الحلم، مرتع الذاكرة والحنين…أطلال فحسب، هل هذا هو وطننا الحلم؟ ابتعدنا عنه أكثر من عشرين عام، حملناه معنا في تشردنا وتشتتنا في دول شقيقة وصديقة، وتشبثنا بعيش رديء، داعين أن يطول عمرنا فقط لنراه مرة أخرى ونتمرغ على ثراه…ما لنا نراه اليوم كهلاً طاعناً في الوجع، بعد أن حاول نهوضاً من طعنات سبقت، يتلظى بنيران تناحرات ومصالح فردية ومطامع أجنبية، يقطع من لحمه لايواء وتمويل جيوش أتت “لحمايته” وحماية من نهشه وباعه، تنبت فيه أنياب إرهاب ومفخخات وموت وكواتم صوت، تسيل دمائه وتبتر أطرافه وتنضب مياه أنهاره وموانئه بشناعة جيران أشقاء وأصدقاء، يشع من تربته تلوث لا يزول قريباً، ويصبح مكبّاً لنفايات دولية وسوقاً لبضاعة نووية، ولأدوية ولقاحات أطفال فاسدة، يتشوه جسده ورأسه جراء جهل وغياب ثقافة وحلول ظلام وتخلف يستفحل في عقول أكثر أبنائه؟…ولا أحد يسعفه، الكل طامع به، من قادة فاسدين ومؤلفي الفتاوي وقتلة مأجورين وجلادين سابقين وغرباء، والحبل على الجرّار في يد الجزّار ولا حيلة للأحرار.
نحن الجيل الاول في المنفى، نغفو على أمنية حلم العودة الى الوطن، نريد الوطن نفسه الذي غادرناه من زمن، لا غيره، نحفظ أغان عنه (وطني سماؤك حلوة الألوان)، لا وطن بسماء مغبرة و(عجاج)…صدّعنا رؤوس أطفالنا بحب تلك الكلمة المجردة نسبة اليهم، وحكينا لهم لسنين طالت مع عمر غربتهم، حكايات أجداد وأوطان ووجدان، بل ونعاقبهم لو يتكلمون بلغة غير اللغة الأم، نؤكد لهم مراراً أننا سنعود، لأن حياتنا، أو ما تبقى منها هناك وليس هنا.
ما يدهشنا هو منطق جيل شاب في الداخل يحلم العيش خارجه، يغبطون من هاجر وغادر، ويستميتون لترك الوطن فراراً من مجازر عشوائية ومقصودة، وضيق أحوال وفرص أعمال، وغياب خدمات ضروية وأساسية، وسوء حالات نفسية، يجادلونك قولاً: ماذا أعطانا الوطن حتى نرده له بالمقابل ونتمسك به؟…ويدهشنا أيضاً رد فعل جيل شاب عاش في الخارج، ينعم بحرية شخصية ومسكن مريح وخدمات حياتية وفرص دراسة وعمل واحترام لمنجز أو تفوق، لم يعرف عن وطن آبائه غير ما تبثه الميديا من خراب ودمار وأخبار بائسة لواقع مرير…يقول لنا ما لنا ومالكم؟ هل تريدون منا إحياء أحلام عاجزة فشلتم في تحقيقها؟ أما يكفي تحملنا لهمومكم وإزدواجيتكم ولا إنتمائكم ووجومكم، ولرومانسية مجدبة غير مجدية تتلاشون فيها، ولأوقات تقضونها مع أخبار مكررة كل ساعة؟…ونخشى من الدهشة والتساؤل بعدها على مستقبل جيل ثالث أو رابع ولد ويولد خارج الوطن، من أبوين عراقيين، أو من أحدهما، فالحديث هنا لايكون ذي شجون بل يتحول الى جنون ولطم على الصدور ليس فقط في عاشور…نكون محظوظين لو تذكروا العراق في تشجيعهم لفريق كرة قدم أو مطرب يشترك بمسابقة.
إعادة بناء البلد وناسه من أهم ما يواجهنا اليوم…مهمة شاقة تطول بالتأكيد وتتطلب جهوداً استثنائية عالية، أي بعد صفاء نية ونظافة ذمة لمن تسلم مقاليد إدارة الدولة، للحؤول دون انهيار كامل لها وللبلد…فبعد عشر سنوات من انتهاء الحرب العالمية الثانية تخلصت اليابان والمانيا الغربية من أوزار حروبها وأزماتها، ومثلها كوريا وماليزيا، ورسمت استراتيجيات وبرامجاً على المديين المتوسط والطويل، مخصصة للاستفادة من خبرات عقول مهاجرة ساهمت باخلاص في ارتقاء البلد مجدداً.
حين الفروغ من الصراعات والفوضى بشتى أشكالها (نتمنى أن لا يطول انتظارنا) وللتوجه لنهضة العراق، نحتاج اليوم الى حملة شاملة، من مواطني داخل وخارج…الى سوبر مِن، وليس مان واحد، الى سوبر اقتصاديين، سوبر تربويين، سوبر مفكرين، سوبر حاملي أقلام وأدباء، وسوبر فنانين، يعيد أحدهم لنا أغنية كان أهلنا يتغنون بها أبان ثورة تموز (نعمر كلنا ونبني، أنت وآني وإبني، وعمي وأبوية، وخالي وأخوية) تتحمل العائلة كلها مسئولية النهوض بالوطن، تتلاحم مع مؤسسات تربوية مسنودة الظهر بقوانين دولة جادة في تأسيس وتأثيث عملية الارتقاء…تسمح وترحب بمن يريد أن يعمل، أن تفعِّل وتُمكّن من كان على أرض بلده، ومن كان في خارجها، أن يعود للمساهمة، دون أن يقتل أو يهمّش أو يحارب…توفّر له فرص عيش طيبة وخدمات أنسانية أساسية، دون تخريب وفساد ومحاباة ومحاربة، وبعيداً عن تقييمات طائفية أوعرقية…تقدر أيضاً على الاستفادة من طاقات وخبرات عراقي الخارج، من لم يرغبوا ويقدروا على العودة لأسباب شتى، وتزجهم في عملية البناء للأرض وللإنسان من بعيد…الوطن و بلاد العرب كلها، بعواصمها وعواصفها، بحاجة الى كل مواطنيها، الى من يحبها ويبنيها ويراها بقلبه وضميره، لا بعين مصالح شخصية مفصّلة على ذات الفرد.
وإياك أعني ياسفارة، فصوت بلدنا في الخارج، بقدر ما يكون فعالاً جاداً بقدر ما تكون مساهمته في عملية النهضة العراقية…بإجراء حاسم وجهد منظم عارم، يبدأ بعمل جرد لكل الكفاءات العراقية، من علماء وأطباء ومهندسين ومبدعين، وأخذ آراء واسعة بشأن حملة شاملة لمد يد العون لبلدنا، ومعرفة من يستطيع أن يسهم من موقعه، بفكرة بناءة أو بعمل ملموس كل حسب قدرته وعطائه، ولا أظن أن أحداً يبخل بعمل طوعي وببرامج إنهاض تربط خبراته هنا بعمل ما هناك… يكفي دور مهمش لسفاراتنا، وتكفي ولائمها و(كبابها وقيمتها وقوازيها)، وما أنفقت من مخصصات على دعوات وثوابات ومراسيم لا تغني ولا تسمن وطن جائع، يكفي وعيب أن يقام مهرجان عربي ضخم في لندن، دون مساهمة عراقية يا ملحقية ثقافية…ويكفينا نحن ما يثقلنا من أحلام ورومانسية وذرائع بعدم قدرة على عودة للوطن، رغم شدونا الباكي: ما أحلى الرجوع اليه…لنكن واضحين ونقول نحن سنبقى هنا لأننا مرتاحون، ولأسكات ضمير المواطنة وواجبها، ما علينا سوى أن نخدم من موقعنا في إيقاظ وإنهاض بلدنا.
وطن سوبر مثل العراق، يحتاج الى رجال سوبر، ليس بقوة جسمانية مثل سوبر مان، بل بقوة ايمان وعزيمة وطهر وصدق ومثابرة ووعي…وحين يشعر الجميع بمسئولية حقّة من أثخن قيادي في دولة المنطقة الخضراء، الى أضعف فلاح في بساتين ما عادت خضراء، ويقلل الجميع من كلامهم وجعجعتهم ويتوجهون نحو الأفعال، حينذاك لا يسعنا الا أن نلوم سعدي يوسف أو الطاهر بن جلون وكل من تبرأ من عروبته ووطنه، وفي الوقت نفسه، يكون لدينا ما يمكن أن نعتز ونفخر به أمام أبنائنا وأحفادنا.
وأخيراً:
* هل تريد العودة الى الوطن؟ إذا نعم…لماذا؟ وإذا لا…لماذا؟
* هل تستطيع من مكانك المساهمة في نهضة العراق؟ كيف وبأي أتجاه؟
* هل يمكنك تقديم طلب الى وزارة الخارجية لتوكيل مهمة جمع الآراء وتفعيلها في سفارات كل دول الشتات؟
فيحاء السامرائي