صادق الطائي –
في ظل قعقعة حرب الطوائف المشتعلة في العراق لااحد يسمع صوت الاقليات الصغيرة المنسية ،فالكل يكتب عن هموم ومطالب المكونات الكبيرة حيث تسلط اضواء الكاميرات وتحتفي المواقع الاخبارية ،ففي عراق الشجون ستجد في صراعاته الحزينة وحروبه الداخلية العبثية تكون الاقليات الصغيرة او ذات التأثير المحدود اشبه بالايتام على مائدة اللئام لااحد يلتفت لهمومها.
ان موضوع الاقليات اصبح من المواضيع الساخنة في منطقتنا منذ حوالي ربع قرن ، واصبح يكرس له مؤتمرات وتناقش فيه رسائل جامعية ومع ذلك مازال ماكتب عن الموضوع شحيحا وغير علمي او على الاقل لا يحتوي على طروحات موضوعية ، واذا اردنا الكلام عن الاقليات فينبغي علينا اولا ان نقدم تعريفا اجرائيا لمفهوم الاقلية ، وقد وجدت ان تعريف لويس ويرث من التعاريف المناسبة لذلك اذ يقول ؛ ان الاقلية هي جماعة من الناس تنفصل عن بقية افراد المجتمع بصورة ما نتيجة خصائص عضوية او ثقافية ،تعيش في مجتمعها في ظل معاملة مختلفة غيرعادلة مع بقية افراد المجتمع ،ومن ثم ترى هذه الجماعة نفسها عرضة للتمييز (Discrimination) وطبقا لهذا الرأي فان وجود اقلية في مجتمع ما توجب بالضرورة وجود جماعة مسيطرة في المقابل ذات وضع اجتماعي اعلى وامتيازات اكبر،كما تحمل اوضاع الاقلية معها طبقا لهذا الرأي الحرمان من الاشتراك الكامل في حياة المجتمع.
اما لجنة حماية الاقليات التابعة للامم المتحدة فانها تضع تعريفا واسعا وفضفاضا اذ تقول ؛الاقليات هي (جماعات)تابعة داخل شعب ما ،تتمتع بتقاليد وخصائص أثنية او دينية او لغوية معينة تختلف بشكل واضح عن تلك الموجودة لدى بقية السكان وترغب في دوام المحافظة عليها.
وفي الفسيفساء العراقي هنالك اقليات من كل نوع يمكن ان تجده في التعريفات الاكاديمية للكلمة؛اثنية ،دينية ،مذهبية،ثقافية … بعضها كبير وذو صوت مسموع ووصل الى مراحل متقدمة في الحصول على حقوقه وفرض نفوذه في المجتمع والبعض الاخر من الاقليات لم يحصل على اي شيء . ربما سيعلق البعض ممن سيقرأ هذا المقال بانه يطرح امورا غير مهمة فلماذا اشغل نفسي به وهنالك هموم اهم واكبر؟ وهنا اريد ان اقول ان الحق لا يجزأ وان المشكلة واحدة وان الحل واضح والكل يعرفه تمام المعرفة ويشيح عنه ببصره ، ان ترياق حالة الاحتراب العراقي هو دولة المواطنة التي كتبت وسأضل اكتب عنها.
الاقلية المنسية الاولى في العراق هم العراقيون من اصل افريقي او ما يعرف بزنوج العراق ،وهي اقلية كبيرة العدد ( لا توجد احصائية دقيقية لعدد العراقيين من اصل افريقي في العراق ) اذ يقدر عددها بحوالي 400 الف نسمة ، ويوصلها البعض الى قرابة المليون ، نشأت تأريخيا من مراحل الرق المتعددة ، تتمركز في جنوب العراق وفي محافظة البصرة بشكل رئيس ،كما توجد بعض اعداد من العراقيين من اصل افريقي في عدد من المحافظات الاخرى . عاشت هذه الاقلية في ظل ظروف غير انسانية على مر وجودهم في العراق ،جلبوا من دول افريقية متعددة مثل السودان والنوبة واثيوبيا وزنجبار (ومنها اشتقت كلمة زنجي وزنج ،وحادثة ثورة الزنج التي قام بها العبيد المجلوبيين من زنجبار في البصرة ابان العصر العباسي اشهر من ان ندخل في تفاصيلها ) ، واستمر وجود الاقلية السوداء في ظل ضروف العبودية في العراق حتى ستينيات القرن العشرين برغم القوانين التي تمنع الرق ، الا ان الكثير من بيوت شيوخ القبائل ورجال الدين والطبقة العليا من المجتمع كانت تمتلك رقيقا اسودا في بيوتها.
وعاشت هذه الاقلية منزوية في المجتمع العراقي تعاني تمييزا اجتماعيا مغلفا برياء اجتماعي ينكر وجود التمييز ويدعي ان لا تمييز بين العراقيين على اساس اللون ، الا اننا لم نشهد صعودا اجتماعيا لهذه الاقلية الا في في مرحلة متأخرة من عقد السبعينات من القرن العشرين في بعض النشاطات كالغناء والرقص والرياضة. مع التغيير الذي حصل عام 2003 اثر الغزو الامريكي واسقاط نظام صدام حسين وما تبعه من مطالبات تأملت خيرا في الديمقراطية الوليدة ،ولدت بعض حركات المجتمع المدني المطالبة بحقوق الاقلية السوداء في العراق مثل “حركة العراقيين الحرة” التي تأسست عام 2007 ، والتي تطورت الى حركة حقوق مدنية ذات مطالب سياسية هي ” جمعية أنصار الحرية الانسانية” في 2009 ،التي قادها الناشط المدني جلال ذياب الذي اطلق عليه البعض (مارتن لوثر كنج العراق) ، ودخلت انتخابات مجالس المحافظات في البصرة حيث التواجد الاكثر للاقلية السوداء الا ان الحركة لم تحصل على مقعد واحد ، والانكى والادهى من ذلك هو فوز صحفي عراقي أسود بمنصب رئيس فرع نقابة الصحفيين في البصرة، لكنه واجه معارضة من الكثير من الصحفيين البصريين بسبب جنسه، اذ قال بعضهم لايمكن لعبد أن يقودنا مما ادى به الى الانسحاب!!! ولم يسلم جلال ذياب ( مارتن لوثر كنج العراق ) بالرغم من ان نشاطه كان سلميا فقد اغتالته رصاصات كاتم الصوت مساء يوم السبت 26/4/2013 وهوخارج من مؤتمر صحفي في البصرة ابان انتخابات المحافظات ،ليلقى نفس مصير ايقونته الامريكية ، وطبعا قيدت الجريمة ضد مجهول ولم يتم الوصول الى نتيجة في التحقيق في القضية لحد الان .
اما الاقلية المنسية الاخرى فهم غجر العراق ،وعندما تذكر كلمة غجر فانها تعني مفهوما محددا يشير الى جماعة بشرية (اقلية اثنية – ثقافية) تعيش في العديد من المجتمعات في اسيا واوربا وامريكا لها سمات محددة ،وبالرغم من اطلاق تسميات عديدة ومختلفة بحسب البلدان التي يعيش فيها الغجر الا ان هنالك سمات عامة تجمعهم يمكن ايجازها في ؛ان لهم مواصفات فيزيقية (اللون اسمر نحاسي ،الشعر المستقيم الاسود ،والاعين اللوزية اللامعة ) ،كما انهم يمتازون بالترحال الدائم وامتلاكهم لغة خاصة بهم ،والحرف التي يمتهنونها هي الحدادة وقراءة الطالع والموسيقى والرقص ، ولاتوجد احصائية دقيقية للغجر في العراق الا ان بعض التقديرات قد اشارات الى حوالي 300 الف نسمة بحسب مناطق سكناهم التي استقروا فيها في العراق بعد ان ترك اغلبهم حياة الترحال.
الغجر في العراق ويطلق عليهم (الكاولية )في الوسط والجنوب والقرج في شمال العراق لهم قصة موغلة في تاريخ العراق ،حيث ان موجاتهم قد وصلت العراق منذ اكثر من 1500 سنة ، وبقوا معزولين في مجتمعاتهم المغلقة عليهم والتي تواجه بتمييز اجتماعي من المجتمع الكبير الذين يعيشون فيه ، وترتبط بهم الصورة النمطية الشائعة عن الغجر في العالم من انهم اصحاب سلوك منحرف ومرفوض اجتماعيا مثل السرقة والغش والتسول والرقص والغناء وتجارة الجنس ، وقد تعرضوا الى الكثير من الابدات على يد مجاوريهم بالرغم من انهم جماعات مسالمة ولا تستطيع الدفاع عن نفسها ، ولم يكن الغجر قد اعتبروا عراقيين ولم يحصلوا على الجنسية العراقية حتى مطلع الثمانينات ابان الحرب العراقية الايرانية ، وبناءا على ذلك لم يكونوا يمتلكون عقارا او بيتا او ارضا بل هم عرضة للتهجير في اي وقت ، وعادة ماكانت مجاميع الغجر تسكن في مخيمات مؤقتة على هامش المدن التي يقدمون خدماتهم لها ، وقد سكنوا في الضاحية الجنوبية الشرقية من بغداد التي عرفت باسم الكمالية كما سكنوا في الضاحية الشمالية الغربية من بغداد قرب (ابوغريب ) ، وقد سعى مركز البحوث والدراسات الاجتماعية والجنائية في مطلع السبعينات عبر عدد من دراساته وبحوثه الى ايجاد نوع من التكيف الاجتماعي للاقلية الغجرية ومحاولة تذويبها اجتماعيا ،الا ان هذه الجهود فشلت نتيجة العزل والتمييز الاجتماعي الشديد الذي واجه به المجتمع الغجر الوافدين للاستقرار بقربهم ، وطرد اولادهم من المدارس ورفض جيرانهم تقبل سكن الغجر بقربهم ،وبرغم بروز نجمات في فن الغناء العراقي من الاقلية الغجرية الا ان مكانتهم الاجتماعية بقيت متدنية وبقوا معزولين ومرفوضين اجتماعيا ،المفارقة ان العديد من الشخصيات المهمة وذات النفوذ في عهد صدام حسين كانت تعشق الغجريات وتربطهم بهن علاقات غرامية وزيجات سرية ،لذلك مثل هذا الوضع نوعا من الحماية للغجر من هجمات مجاوريهم ،ولكن ومع سقوط النظام اصبحت النقمة عليهم مضاعفة من قبل مجاوريهم فبالاضافة الى رفضهم الاجتماعي القائم على انهم مجتمع رذيلة كانوا رمزا لمجموعة محسوبة على النظام السابق ،فتم الهجوم عليهم من قبل ميليشيات الاسلام السياسي وتم قتل عدد منهم وطرد وتهجير الاخرين ،وقد لاذ بالهرب من استطاع منهم الى دول الجوار- الاردن وسوريا ودول الخليج – وبقي عدد ضئيل يعيش حياة التشرد في مخيمات بائسة على هامش المناطق الصحراوية في العراق وهم مهددون من ميليشيات مختلفة قد تهجم عليهم في اي وقت. الزنوج والغجر مثالان لأقليات صغيرة في العراق لم يسلط عليها الضوء تمثل ماخفي من حالة المأساة العراقية.