صادق الطائي –
في حادثة اولى؛ مجرم ممسك بخنجر كان قد استعمله للتو في الاعتداء على أناس عاديين مروا بالصدفة في مكان الحادث وهو يصرخ (لا اله الا الله ) وبعبارات اخرى تشير بوضوح الى هويته (الاسلامية) ، يجيبه وفي نفس المشهد متفرج من خارج المشهد (انت لست مسلما ،انت ارهابي ،نحن المسلمون الحقيقيون). هذا ما حصل في حادث في محطة قطار الأنفاق في لندن،واثار موجة جديدة من الفزع المغلف بالاسلاموفبيا ،واعاد طرح الاسئلة التي باتت مزمنة ،من هو المسلم ؟وهل الارهاب جزءا بنيويا في تركيبة الدين الاسلامي؟ وهل يحض الدين الاسلامي على العنف نتيجة احتوائه على نصوص تروج للاعتداء على الاخرين؟ام ان بالامكان وجود مواطنين صالحين مسلمين يتحلون بقيم
الانسانية ويتعايشون مع الاخر المختلف؟
وفي حادثة ثانية ،انسان يعيش في بقعة تقع في حافة العالم ،في قرية نائية في شمال السويد ،يستلم رسالة مجهولة المصدر، تقول له ،اما تعلن اسلامك او ان تدفع الجزية والا سنقطع رأسك… كان رد فعله الطبيعي انه اعتبر ان من بعث له بهذه الرسالة اما مجرما او مجنونا او الاثنان معا ، ردا على ذلك ،صرح عدد من مدراء المراكز الاسلامية و شيوخ المساجد في مدن السويد وغيرها من بلدان اوربا بأن من يرسل الرسائل ويهدد الناس هم قلة متطرفة مجرمة يجب ان تنال عقابها، اما الاغلبية المسلمة التي تعيش بسلام في بلدان الغرب فهم مواطنون صالحون، لا علاقة لهم بالامر. وهذه هي الحقيقة ،لكن كيف يمكننا ان نتعامل مع الصورة النمطية (الستريوتايب) التي اشتغلت عليها الماكنة الاعلامية الغربية والتي صورت المسلم همجيا متخلفا قاتلا ؟ وساعدها في ذلك سلوك التيارات المتشددة التي حظيت بدعم بعض الدول او الجهات الاسلامية ،كما ان المؤسسات الاسلامية الرسمية في دول العالم الاسلامي لم تدن بوضوح وقوة هذه القلة (الخارجة) عن مباديء الدين الحنيف .
اما الحادثة الثالثة فهي؛ أكدت مشيخة الأزهر، وهي أعلى مؤسسة دينية في مصر، رفضها لفيلم (محمد رسول الله) للمخرج الايراني مجيد مجيدي ،وهو اضخم انتاج سينمائي في تاريخ السينما الايرانية اذ بلغت ميزانيته 40 مليون دولارا ،ويعتبره المخرج جزءا اولا من سيرة الرسول الكريم يتناول فيه مرحلة ما قبل البعثة النبوية ومن المفترض ان يكمله بجزئين اخرين . وجدد شيخ الأزهر، أحمد الطيب، فتواه بتحريم تجسيد الأنبياء، صوتاً أو صورةً أو كليهما، لأنه ينزل بمنزلة الأنبياء من كمالها الأخلاقي في القلوب والنفوس إلى ما هو أدنى بالضرورة، كما جاء في بيان أصدره الأزهر إبان عرض الفيلم بشكل محدود في طهران في فبراير/شباط الماضي، في إطار مهرجان (فجر) السينمائي.
واعتبر الطيب عرض الفيلم تصرف غير مسؤول من جانب إيران، ولا يختلف عن تصرفات الغرب، الذين يقومون بنشر رسومات مسيئة للرسول.وقد اثير الكثير من الجدل حول امكانية ظهور بعض الشخصيات الاسلامية في اعمال فنية سينمائية او تلفزيونية ، فالبعض يرحب بمثل هذه النتاجات لانها تقدم وجها مختلفا لفهم المقدس لدى المسلمين الى العالم ،وهذا ما اكده المخرج الايراني مجيدي في مؤتمر صحفي بعد عرض الفيلم قائلا (يهدف الفيلم إلى تغيير صورة الإسلام لدى الغرب، التي شوهت بفعل تصرفات مجموعات إسلامية متشددة، مثل “تنظيم الدولة الإسلامية” (داعش)، التي صورت الدين الإسلامي وكأنه يحرض على العنف والإرهاب).
وتجدر الاشارة الى ان ايران قد قدمت العديد من الافلام والدراما التلفزيونية التي سردت قصص الانبياء والاولياء مثل النبي يوسف (ع) وقصة مريم (ع)وحياة علي بن ابي طالب (رض)وحياة الحسين بن علي (رض) وغيرها من قصص الانبياء وفق الرؤية الاسلامية طبعا ، وقد حضيت هذه الاعمال بمشاهدة عالية في الوطن العربي بعد دبلجتها الى العربية وعرضها في الفضائيات العربية برغم الضجة التي اثيرت حولها ومطالبة البعض بمنعها، وانا اعتقد ان لذلك جذر مهم هو الايقونات الاسلامية في العالم الاسلامي غير العربي الذي كان متسامحا تجاه الرسوم او الايقونات الاسلامية ،فقد ذكر الاستاذ شاكر لعيبي في كتابه المهم (تصاوير الإمام علي مراجعها ودلالاتها التشكيلية) اهتمام دول اسيا بالرسوم او الايقونات التي تمثل شخصيات مقدسة كالرسول الكريم (ص) وآل البيت (ع) والبراق وحتى بعض الملائكة في لوحات فنية ،وربما اعتقد البعض ان هذا النوع من الفنون حديث نسبيا الا ان السرديات التاريخية تنبأنا بعكس ذلك ،مثال ذلك ما يذكره مؤرخ متقدم لا علاقة له بأي سجال فقهي او عقائدي ،وهو الامام ابي الوليد محمد بن عبد الله بن أحمد الأزرقي (ت 250 هـ) في كتابه (اخبار مكة وما جاء فيها من الاثار ) ،من ان الكعبة كانت مزينة بعدد من الايقونات (زوقوا سقفها وجدرانها من بطنها ودعائمها وجعلوا في دعائمها صور الانبياء وصور الشجر وصور الملائكة وصورة عيسى بن مريم وامه عليهم السلام ،فلما كان فتح مكة دخل رسول الله (ص) فارسل الفضل بن العباس فجاء بماء زمزم ثم امر بثوب وأمر بطمس تلك الصور فطمست ،قال :ووضع كفه على صورة عيسى بن مريم وامه عليهما السلام ،وقال امحوا جميع الصور الا ما تحت يدي) اي انه ابقى على ايقونة عيسى والعذراء ،وقد بقيت هذه الرسوم حتى احترقت اثناء تمرد عبدالله بن الزبير ، كما ان ابن ابي الحديد المعتزلي (ت 656 هـ الموافق لـ 1258م ) يذكر في كتابه شرح نهج البلاغة (وتصور ملوك الترك والديلم صورة علي بن ابي طالب (رض) على اسيافها ؛كان على سيف عضد الدولة البويهي وسيف ابيه ركن الدولة ،كما كان على سيف الب ارسلان وابنه ملكشاه السلجوقيين ،كأنهم يتفائلون به النصر والظفر) ،من ذلك نعرف ان الايقونات الاسلامية كانت معروفة ومنتشره في اسيا الوسطى وايران والعراق منذ زمن بعيد ثم انتقلت الى مصر والمغرب العربي كفن شعبي تمثل في رسومات على الزجاج الملون والسجاد ،وقد حضيت رحلة الاسراء والمعراج المقدسة بعناية خاصة في هذا الشأن.فمن اين جاء التحفظ المنتشر في العالم الاسلامي السني اليوم، وهنا يجب ان نطلع على ما ذكره الممثل المصري الراحل يوسف بك وهبي في مذكراته ،فهو يذكر انه تعاقد مع شركة انتاج تركية على تمثيل فيلم ( محمد رسول الله) وهو فيلم يصور حياة االرسول الكريم عام 1923م ، وكان من المقرر ان يتم التصويرفي المانيا ، وكان هذا الامر عاديا حينها لكون السينما المصرية الوليدة كانت تسير على خطى هوليوود التي انتجت مبكرا عام 1910م فيلم الوصايا العشر لجورج سي سكوت بنسخته الاولى والمبني على القصص المقدس في التوراة ،ساردا قصة حياة النبي موسى ، الا ان تسرب الخبر لصحفي كانت بينه وبين يوسف وهبي بعض الضغائن جعله يشن حملة تشهير ضده في الصحافة المصرية ليصل الامر الى القصر الملكي ،ويطلب الملك فؤاد رأي الازهر في الموضوع ، ونتيجة للحملة الشديدة حينها واثارتها للرأي العام ،فما كان من مشيخة الازهر الا ان تفتي بتحريم الامر ،لانه يمس بقدسية الرسول(ص)،وبناءا على ذلك هدد القصر الملكي يوسف وهبي انه في حال لم يخضع للامر فسوف تسقط عنه الجنسية المصرية ويطرد من البلد ، مما دفعه لكسر العقد مع الشركة ،ليبقى سيناريو الفيلم مركونا قرابة النصف قرن، ليأتي في بداية السبعينات المخرج الراحل مصطفى العقاد ويخرجه ،واصبح اسم الفيلم (الرسالة..قصة الاسلام ) بعد ان حذف منه مشاهد الشخصيات المقدسة مبقيا على شخصية حمزة بن عبد المطلب (رض) فقط ،مع ذلك منع الفيلم في العديد من الدول العربية والاسلامية .
والسؤال الذي يواجهنا اليوم هو لماذا لم يتم التعامل مع تاريخية النص في العالم الاسلامي ؟ والجواب يكمن فيما حصل مع بزوغ المشروع الحداثي في العالم العربي في مصر حين طرح رموز النهضة وبجرأة رؤياهم لفصل الديني عن السياسي فكان مشروع الامام محمد عبده الاصلاحي وتبعه التحول المهم في كتابات قاسم امين ومنصور فهمي وطرحهما مشكلة المرأة في المجتمعات الاسلامية الحديثة ، ليلحق بهم علي عبد الرازق في اطروحته عن الاسلام واصول الحكم محررا العقل الاسلامي من قولبته في فهم السلطة ،وليلحق بهم د. طه حسين بمنهجية ديكارت القائمة على الشك العلمي في كتابه (في الشعر الجاهلي )،طارحا كل التراث العربي والاسلامي للبحث والدراسة العلمية ،لكن المؤسسة الرسمية قمعت هذه الاطروحات مما جعلها تنكفأ على نفسها ،ويحاول من جاء بعدهم ان يجد حلولا توفيقية او كما اسماها البعض (تلفيقية) لخلطة قائمة على الاخذ من التاريخ الاسلامي بشكل انتقائي ومزاجي وربطها بعناصر الحداثة التي يتطلبها النهوض الحقيقي ،مما جعلنا نسقط في تخبط لا نعرف منه فكاكا.