
د.أمل الأسدي
مازالت عوالم الأحلام والرؤی غير قطعية التفسير،أو لنقل نسبية التأويل، فقد تكون مشاهد مُتخيَّلة تعكس ما دار في حياة الفرد أثناء يومه الواقعي، وقد تكون إخبارا بقادم، أي تكون كالإلهام، ومنها المبشرات، وبين هذا وذاك ظلت الرؤی والأحلام متذبذبة بين عالم الواقع المادي وعالم الروح؛لذا عُدَّت الرؤيا جزءا من النبوة ، وطريقا للوحي وإلقاء الآوامر،وبغض النظر عن قضية النبوة التي خُتمت برسولنا الأعظم(صلی الله عليه وآله) بقيت النفس الإنسانية تعيش هذه الرؤی وتمر بها وكأنها عروج روحي لايُعرف تفسيره، ولاتُفهم وسائله، ففعل النوم مرتبط بقدرة خفية، تأخذ الإنسان بعيدا في عوالم لاندركها ولايمكن لنا تفسيرها، وهي تتشابه مع حالات الغيبوبة التي تصيب الإنسان، أو تتشابه مع الإفاقة من التخدير العام، فيفقد الإنسان قدرته علی التحكم في واقعه المألوف،قدرته في التحكم بجسده أو التحكم في عقله، أو التحكم في مشاعره،وقد أورد لنا النص القرآني وصفا لهذه الحال في قوله تعالی:((اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)) سورة الزمر،الآية ٤٢
وهذه الآية تتحدث عن عوالم تلتقي فيها الأرواح، عوالم بين الواقع والخيال، بين الأرض والسماء، وأن القادر علی إمساكها أو عودتها، والمتحكم فيها هو الله تعالی، لذا لايمكنك تفسير بعض الحالات التي تمر بها، كأن تری شخصا ميتا يوصيك بشيء ما أو يحذرك من شيء ما، أو يطلب منك شيئا ما، أو قد تری شخصا مازال حيا يأتي لزيارتك، وحين تستيقظ تجده يتصل بك أو يزورك.
وقد تكون مستيقظا فتری نفسك في لحظات تعيش سيناريو غريبا ومشاهد لم تحدث،تترك أثرها عليك وعلی نفسيتك وعلی جسدك، فقد تغتم إذا كانت مزعجة، وقد تسعد وتشعر بطاقة إيجابية إذا كانت سعيدة، وعلی أية حال فالأحلام ترتبط بصفاء الإنسان، كلما كان نقيا مبتعدا عن فوضی الحياة وعبثها الذي أخذ يزداد يوما بعد يوم، كانت روحه مُحلِّقة في عوالم غريبة وكأنها لحظة كشف أو انخطاف أو تجل، يصعب تأويلها.
لقد كانت حياة الإنسان بسيطة جدا،خالية من الضوضاء،صافية، وسادته والنجوم والنسيم والضوء الخافت لوازم طقس النوم الليلي، فلا فضائيات ولا شبكة انترنت ولا وسائل تواصل اجتماعي، هو والوسادة وقدرة الله المحرِّكة للروح، أما الآن فعلی الرغم من سعة التواصل البشري الذي وفرته التكنولوجيا المتطورة، إلاّ أن الحياة صارت مشبعة بالتوتر والمشكلات النفسية، وصار الإنسان يفتقد الی مواطن الألفة الروحية التي تتحقق بالاجتماع الأسري الذي غيبته وسائل التواصل الاجتماعي في الغالب، هنا أود التحدث عن تدخل التكنو لوجيا والأجهزة الحديثة في عالم الأحلام، فقد يرن جوالك في الحلم فتقرأ اسم المتصل،فتصحو صباحا فتجده يتصل بك، أو قد تصلك رسالة ما من شخص ما ، تحمل بشری معينة أو تحذرك من شيء معين، فإذا بها تتحقق واقعا في اليوم نفسه أو بعد أيام، ومؤخرا روت لي صديقة مقربة أن لديها صديقا قريبا ،تعده أخا كبيرا، وهو إعلامي وشاعر ووجه معروف، قد رأت في منامها الصحفي (حسين علي) وهي لاتعرفه في الواقع معرفة مباشرة،إنما تعرفه من مواقع التواصل الاجتماعي، رأته يفترش الأرض قد بدت عليه علامات القلق والترقب، يحمل جواله بيده ويجري اتصالا مع شخص ما، يخبره بأنه تأخر عليه وهو مازال ينتظر، وبعدها تقدم نحوه شخصان بزي المحاماة، سلما عليه،فرد السلام عليهما ثم قال: هل يحتاج الأمر الی تدخل، هل حسمتما قضيته؟ فأجباه: نعم، اطمئن.
تقول: من غير أن يخبروني بأنهم يتحدثون عن صديقي، إلا أن المعنی وصلني وامتلأتُ به، ففهمت أنه يتعرض لمشكلة كبيرة ومن جهتين،وأن هذين المحاميينِ كانا يدافعان عنه!
ثم تواصل حديثها قائلة: استيقظت ولم أشأ أن أخبر أحدا بما رأيته،إلاّ أنه تحقق، واتضح لي أن صديقي يمر بأزمة فعلية، فقررتُ أن أقف معه بالقدر الذي أستطيع، وبالفعل ساندته وبقيت أتواصل معه وقد فرح بموقفي الثابت، تقول:الغريب أني بعد أسبوع رأيت في منامي أنه يرسل لي صورة تغريدته علی تويتر وفيها الآتي:
ويغنيني صوتُكِ عن كلِّ البشر
إيمانكِ بي يسقي حقولي الثائرة
فتثقل سنابلي لِتغازلَ النهر!!
تضحكين فتعزف النوارسُ سمفونيةَ الأمانِ
تحلِّق بعيدا ويبقی الأثر!!
تقول: حين استيقظت حاولت في لحظات أن أدفع عقلي إلی عالم الحلم،كي اتمكن من تثبيت ما حوته التغريدة، فعزفت عن النهوض أو التحدث إلی أحد، وبقيت صامتة ، مغمضة العينين حتی استرجعت صورة التغريدة علی شاشة الهاتف فدونتها.
بعد أن أنهت كلامها ، سرحتُ في تداخل العوالم وغرابتها وكيف تحولت التكنولوجيا الی وسيلة للتواصل بين العوالم ، ومن يقف وراء هذه التغريدة الأدبية الجميلة؟ وأين كانت روحها؟ وأين كانت روح صديقها؟ هذا يعني أن الصفاء الذهني، والنقاء حاضر رغم منغصات الحياة وشدة تعقيدها، فليس ثمة تعارض بين صفاء الروح والتطور التكنولوجي إذا ما اُستثمرت إيجابياته!
وهل تتطور العوالم الأخری بحسب تطور الواقع الإنساني؟ أو أنها سابقة لمعرفة البشر؟
علی أية حال لايمكن لكل هذه الحالات، ولكل هذه الرحلات الإنسانية ما بين الواقع المعاش والواقع الآخر المعاش خياليا، إلا أن يكون له متحكم أوحد قادر علی كل شيء!!
فكفی بالحلم واليقظة والاستيقاظ دروسا لنا تدل علی حضور الواحد الأحد في كل حين.
أحلامنا والتكنولوجيا/الجزء الثاني
د.أمل الأسدي
نعود هنا والعود أحمد ، نعود لإكمال ما تحدثنا عنه في المقال السابق، إذ تحدثنا عن تفاعل النفس البشرية مع التكنولوجيا وكيف صارت تؤثر التقنيات الحديثة في نفسياتنا ودواخلنا وأحلامنا، فرغم الصفاء الذي كان يغلف حياتنا نوعا ما،ويقلل الاضطراب والتوتر، ويمتص عذابات الحياة وظروفها القاسية التي كنا تعيشها في العراق،إلا أننا كنا في عزلة وغربة، عالمنا كان صغيرا جدا، وعيوننا كانت محدودة النظر، إذ كنا كالجالس في دار السينما، فحين يعرض فلم ما،رغم حكايته وأبطاله وأحداثه إلاّ أن طاقم العمل من الكاتب والسنياريست والمخرج قد قيدوا المتلقي، فرضوا عليه كل شيء، المكان والألوان والحركة والزمن، بخلاف حاله وهو يقرأ ويسرح مع خياله ويُفتِّح أبواب العوالم المختلفة!!
لقد وفرت لنا وسائل التواصل الاجتماعي والأجهزة التقنية الحديثة مساحة واسعة للتواصل، فلم يخطر في بالنا يوما من الأيام أن بإمكاننا التواصل مع كل هذا العدد من المعارف والأصدقاء، وبغض النظر عن تقييم هذه المعرفة وهذه الصداقة ومناقشة مدی واقعيتها من افتراضها، إلاّ أن أهميتها كبيرة جدا لما حققته من فعل تواصلي بين أبناء البشر.
وبالعودة الی فعل التلقي والقراءة كنا سابقا نتعرف علی الكُتاب الكبار والشخصيات المعروفة عن طريق نتاجاتهم المطبوعة، وإن كان ذلك ليس بالأمر اليسير والمتاح للجميع، إلا أن صعوبة الحصول علی المؤلفات وندرتها، جعل لقراءتها والاطلاع عليها لذة خاصة،ولو حاولنا الآن الإبحار في ذاكرتنا لوجدنا أسماء وشخصيات ومشاهد محفورة في داخلنا، عشنا معها عن طريق كلماتها وأفكارها، وربما لم نتخيل يوما أننا سنتحدث إليهم عبر وسيلة ما ، أو أننا سنشاهد صورهم اليومية، ونشاركهم ويشاركوننا تفاصيل الحياة العادية والخاصة، هنا أود أن أتحدث عن بعض الأخبار التي تُنشر في وسائل التواصل الاجتماعي، فعلی سبيل المثال في العام الماضي، استيقظنا علی خبر رحيل شخصية من الشخصيات الإسلامية المعروفة ألا وهو آية الله تسخيري، وظل خبر وفاته يتردد بين الصفحات الخاصة والعامة، فإشاعة أخبار الوفيات عبر وسائل التواصل له مساحة واسعة وترك ظلاله علی أرواحنا ، فقد نتفاعل وندعو لإنسان راحل ونحن لا نعرفه!! وقد نحزن ونظل معكري المزاج لمدة بسبب خبر وفاة شخص ما، وإن كُنّا لانعرفه معرفة خاصة!! وأحيانا أخری نحزن ونتألم لخبر وفاة إنسان نعرفه وسبق وإن تحدث إلينا كثيرا عن طريق أفكاره وكتبه كما هو الحال بالنسبة للشيخ التسخيري، وفي فوضی النشر والتأبين استوقفني منشور لأحد الأصدقاء، وهو من الكتاب المعروفين في الأوساط الأكاديمية، كان قد عبر عن حزنه بطريقة موجعة، وبكلمات مؤثرة جدا، إذ بقيت أتردد علی صفحته وأعيد قراءتها، تمنيت لو أنني أكلمه وأعزيه وأخفف عنه، ثم قلت أنا لا أعرفه، و غير مستلطف أن أجعل أول معرفتي به التعزية!! ثم قلت لأكتب له وأواسيه، فيبدو أن الحزن قد فتت مهجته، وكلما أردت الكتابة ترددت وتراجعت، الی أن حان وقت نومي ، فقرأت منشوره مرة أخری، وترددت للمرة العاشرة في قضية مواساته!
المهم…في هذه الليلة رأيت هذا الكاتب وقد أرسل لي رسالةً عبر الماسنجر يدعوني إلی حضور محفل مقام في الكوفة، فانتقلت مباشرة الی هذا المكان، فالمسافة والزمن في الأحلام والرؤی لاتشبه مسافاتنا الواقعية وزماننا الواقعي، وجدته ينتظر، قال لي من هنا، وقد أشار الی شارع عريض، دخلنا الشارع، وإذا به، جانبه الأيمن حديث جدا، بناء وتصميم وواجهات حديثة، وجانبه الأيسر قديم أثري، كبيوت الكوفة التي نراها في المسلسلات التأريخية، فبقيت متعجبة من هذا الأمر؟ ماهذا الشارع، جهة حديثة وأخری قديمة؟!!
وصلنا إلی منتصف الشارع، فجلس الكاتب وافترش الأرض، في الجهة اليسری القديمة، جلس يبكي،قلت له: أردت أن أواسيك منذ أمس ولكن ترددت!!
هون عليك، لكل أجل كتاب!!
قال: كان معلمي، لا أتصور كيف أني لن أسمع صوته بعد الآن!! في أثناء حديثه تدحرجت كرة عاجية نحوه، فقال لي: لقد تركها الشيخ لي، فأخذ يضرب الكرة الی الجهة المقابلة، فترتد إليه وحدها، وكلما رماها إلی جهة ما، ارتدت إليه، فهو يتحكم بها بشكل عجيب!!
وقد هدأ وزال حزنه وبدت عليه السكينة، وهب نسيم بارد في الشارع وانتشر ضباب أخضر في المكان!!
استيقظت وأنا مندهشة من غرابة هذه العوالم،كيف تلتقي الأرواح مع بعضها،وكيف يجمعها الله تعالی وهي لاتعرف بعضها في الواقع؟ وهل كانت متعارِفةً في عوالم قديمة ؟ وكيف صار الفيسبوك وغيره من البرامج وسيلة لتحريك مشاعرنا وأفكارنا؟ وكيف دخل بين طيات أرواحنا؟
ومن ينسج هذه المشاهد الغرائبية، ومن يجعلها محملة بالرموز والدلالات؟
من يؤلف هذه الرؤی وكيف نشعر بها وكأنها حقيقة؟
وكيف يصر بعض البشر ويعاند ولا تستيقن روحه بوجود الله تعالی؟
وهل ستتطور التكنولوجيا أكثر حتی تحول أحلامنا ورؤانا الی مشاهد مصورة؟ نستيقظ صباحا فنتفرج عليها كمشاهد خيالية غرائبية خلقتها يد عالية متحكمة!!
لننتظر …